منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

تنامي المضمون والمكنون: الجزء الأول من دراسة قصيدة (لغة الضاد لغتي) للشاعر:نور الدين متوكل

دراسة الاستاذ: لحسن قراب

0

تنامي المضمون والمكنون

الجزء الأول من دراسة قصيدة (لغة الضاد لغتي) للشاعر :نور الدين متوكل

دراسة الاستاذ :لحسن قراب

دراسة اسم العلم (نور الدين متوكل) تبدأ بالعامل النحوي، وأول مايلوح في أفق النص ويوجهه، هو الشاعر: نور الدين متوكل.

القراءة الأولى أن (نور)خبر لمبتدإ محذوف تقديره (هو)، والحذف واجب عند المعرفة مكروه عند الالتباس، وذكر المعروف يكون مجرد تأكيد وزيادة ترديد،.

والوجه الثاني من الإعراب ويدخل في نفس الاتجاه اي حذف المعروف، هو الصفة (متوكل) كإسم فاعل لم يفصح عن كنه الموصوف واقتُصِر على الصفة (متوكل على مَن؟ ) ليس هناك اختلاف حول الإجابة وهي (متوكل على الله) لان التوكل هو إنابة الغير ليقوم مقامك ويتولى اشغالك. وقد ورد اللفظ بصيغ مختلفة سبعين مرة (70) وهو (يدل على اعتماد غيرك في امرك) مقاييس اللغة.(1)

وإن كان لدواوين الشعراء من مفاتيح، فأسماء الأعلام تعتبر المدخل الرئيس لفك الأنظمة اللغوية والشفرات التي يوظفها أهل الإبداع حتى تظل هذه النصوص الإبداعية خلوات لا تفصح جلواتها الا للخاصة الذين يقفون أمام القصائد متوسلين ملحين، حاملين معاول النحث في اللغة وأزاميل الدقة المعنوية التي تتغير بتغيير فسيفساء العوامل النحوية والأدوات الموجهة للمضامين، فكانك أمام صرح شعري تتغير ألوانه بتغير زاوية النظر، فهي ألوان طيف كلما غيرت البصر والبصيرة تتغير.

وأول البطاقة (نور الدين)، وهي بطاقة جامدة من حيث الشكل متنامية من حيث المضمون والمكنون،

جامدة لان اسم (نورالدين) سيلازم الشخص المذكور من المهد إلى اللحد، ويتجاوز ذلك بالذكر والرحمة. وربما يسبق الاسم صاحبه في الولادة، فبعض الأشخاص تُختار أسماؤهم وهم في بطون أمهاتهم، وربما قبل ذلك بكثير، كما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم، على لسان عيسى عليه السلام ( وإذ قال عيسى ابن مريم، يابني إسرائيل، اني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد) 2،ولعل اسم العلم يُكتب له الخلود ،بخلاف الشخص المحدود،كنا جرت العادة مع كثير من الخلق، وكما حدث مع كثير من الشعراء كحسان بن ثابت والبحتري وبعض الصحابة كعمر وعلي رضي الله عنهما،الذين لازال ذكرهم يملأ الآفاق وقد خلت منهم الأرض وأصبحوا ضمن الأموات، وما الإبداع الا حيلة من الحيل التي ابتكرها الإنسان لكي لا يخلد للنسيان، وليذكر بصنعته اللغوية في كل مكان وزمان ويجلب الحسنات والأجر قدر الإمكان.
والعبارة المسكوكة (نور الدين) تعلن الانضمام لدين الإسلام والانتماء لهدي خير الأنام، ولا يمكن أن يصدر إبداعه الا عن هذا المنبع السليم ، ويكون شعره لبنة في صرحه الشامخ العظيم.

فقد ورد في معجم الفيروزآبادي أن (النور :الضياء والسناء الذي يعين على الإبصار) (3)وقد قسمه إلى قسمين أحدهما دنيوي والثاني أخروي. وقسم الدنيوي أيضا إلى قسمين :

1- معقول بعين البصيرة، وهو ما انتشر من الأنوار الإلهية، كنور العقل ونور القرآن.

2- ومحسوس بعين البصر وهو ما انتشر من الأجسام النيرة، كالقمرين، والنجوم النيِّرات.

وإنشد بعض المفسرين :

ثلاثة أنوار تضيئ من السما
وفي سِرِّ قلبي منهن مصوَّر
فاوله بدر، وثانيه كوكب
وثالثه شمس منير مدور
علومي نجوم القلب، والعقل بدره
ومعرفة الرحمان، شمس منور
إمامي كتاب الله، والبيت قبلتي
وديني من الأديان أعلى وافخر) الفيروزآبادي. (3)

والنور : الضياء والاستبانة والوضوح وهو كما يجري على البشر، يجري على العشب والشجر، ومنه قول السمين الحلبي :(تنوير الشجرة :إزهارها، يقال :نوَّرت الشجرة، وانارت أيضا ،أخرجت نورها) (4)

فبعد فتح سفر البطاقة الشخصية للشاعر( نور الدين )وهو الفرع ،نعود للاصل والمحتد (متوكل) لنجس النبض، ونؤصل للاصيل، بالحجة والدليل، فقد ورد الجذر (و-ك – ل) في القرآن الكريم سبعين مرة (70) والعدد ((سبعة) (7)) مقدس في التراث الإنساني وفي القرآن خاصة، (1) غير أن اسم الفاعل (متوكل) لم يرد في القرآن الكريم الا اربع مرات وبصيغة الجمع، ثلاث مرات بالرفع(متوكلون) دلالة القوة والفاعلية. (عليه يتوكل المتوكلون)، ومرة بالكسر نيابة عن الفتح (إن الله يحب المتوكلين)،

(والمتوكل على الله :الذي يعلم أن الله كافل رزقه، وأمره، فيركن إليه وحده، ولا يتوكل على غيره) (5) والتوكيل (أن تعتمد على غيرك، فتجعله نائبا عنك) الراغب الاصفهاني. (6)

بعد هذا المدخل الذي نعتبره ضروريا لفهم الخطاب، وسبر المعاني لفتح العقول والالباب، وما الشعر له إلا باب من الأبواب، نقول إن قصيدة (لغة الضاد لغتي) هي اولا تذكير سنوي بمنة من منن الله التي لا تنقضي، وهي منة اللغة العربية التي جعلها الله لغة المبدإ والختم، وفضلها على جميع السِنة الأمم، ، فهي منة تصاحب المؤمن بالله ، إلى جنة الخلد، مع خاتم الملل والنحل، فخر أهل الضاد، فرادى وكل.

تتوزع القصيدة المحتفية بلغة الضاد، إلى خمسة أقساط، في كل قسط منها خمسة أسطر تتقدمها اللازمة (لغة الضاد لغتي)، وهذه اللازمة تتكرر لتعلن للملإ جمالية هذه اللغة الفريدة، من زوايا خمس متعاضدة ومترابطة، تفضي كلها إلى الاعتراف بالقامة الشامخة لهذه اللغة، وبالأنوار الساطعة التي تبسطها المعاني من بين ثنايا الكلمات الثرة، التي لا تنفد كأنها كنز في جرة، ما أن يؤخذ منها حتى تمتلئ إثره، وتتجدد مع كل سحب، وتعطي بصدر رحب. فهي العربي في الكرم، وهي ألفاظ القرآن في العِظم، وهي حاتم الطائي، ماعلمنا منه، وما لم نعلم.

بالنسبة للمقطع الأول :
لغة الضاد لغتي
ينبوع ماء متدفق يجري
بين حقول البوح يسري
يُلبس الثرى قميصا أخضر
يطرد الظمأ، والشؤم، والخطر.

فاللازمة (لغة الضاد لغتي) هي واسطة العقد، وهي جوهر اللب ،وهي رحيق من إبريق، وهي بوح من صديق، وإقرار من رفيق، وإن كان البوح يُبقي الكثير من الأسرار. كما تخفي الرحيقَ الأزهارُ، فإن البطاقة تُخفي المبتدأ (هذه) قبل (لغة الضاد) وتخفي (هي) قبل (لغتي).

فلماذا اخفى الشاعر اسم الإشارة، وهاء التنبيه، واستعمل المؤنث بدل المذكر؟

إن (هاء التنبيه) تشبه الجَرس، يؤتى بها لتنبيه الغافلين من العسس والحرس، لقرع الآذان الصماء التي تحترف الغباء، وتعيش كالدابة في العراء، لا تستانس بذكرى، لا للفخر ولا للعزاء. فالشاعر تجنب أدوات التنبيه لان العالم أصبح مع كل فرد، وبين يديه، وكأس العالم في قطر، البلد العربي يغنيه.

اما المؤنث فيناسب السياق ،ويشي بالمواكبة واللحاق ،وهو أعم من اللسان، الذكَر في البيان، الذي يحيل على ضميمة من الأفراد صوتهم واحد، ومعجمهم واجد، فالمؤنث يؤثت به الفضاء الذي يحتاج للامتداد، والبزوغ بعد الرقاد، وتجديد نسل الأجداد،، واللغة غير اللغو ففي قوله تعالى (لايواخذكم الله باللغو في أيمانكم)البقرة 225اي لا يحاسبكم فيما تقولون من غير قصد وهو(الجاري على اللسان من غير قصد) (7)ابن جزى.

وقد استعمل الشاعر اللفظ وخصه بالرفع للدلالة على القوة المتنامية (لُغةُ)غير أنه حين نسبه لنفسه (لغتي) لَطَّفَ الحركات من الرفع إلى الكسر لتنسجم مع الود والحب ويضفي نوعا من السًِر، الذي بينه وبين هذه اللغة الشريفةبلا جسر، بل وختم اللفظ بياء النسبة لي ليلتفت من العام (لغة) إلى الخاص (لغتي)، وتقترن اللغة بالانا من غير وسائط ولا جسور، في نوع من الفخر والحبور، والسخاء بالانحدار من هذه الجذور.

وتكرار هذه العبارة الجاهزة يفيد التفاني في حب هذه اللغة،والإعلان المتكرر لهذا الحب بمنتهى النبل والأدب.وما اللازمة سوى نبع تصدر عنه الجملة الطويلة بعدها، الموزعة على أربعة أسطر، لتوهم القارئ أنها جمل أربعة مستقلة، بيد أنها أثر من آثار اللغة على مر الأزمان، يشبه أثر الماء بعد جريانه في الأودية والغدران، على قلوب الإنسان، وعلى الطبيعة من أخضرار القمصان .

في الجملة الطويلة بعد اللازمة، يمزج المتكلم بين شيئين، بين اللغة والماء، كانهما شيئا واحدا، أو كانهما وجهان لعملة واحدة، وهذا التماهي يشي به العنوان كعتبة من عتبات القراءة، فاللغة منها اللغو ومنها الكلام، والماء منه ما يسقي الحرث ومنه مايذهب للغدران، وكلاهما نبع يتدفق عبر الجريان.

لذلك اول وصف للغة عنده هو أنها (ينبوع ماء) ولكي تتم المطابقة والتماهي لم يعتمد حروف العطف ولا روابط اللحاق والرصف، وإنما جعل اللغة ينبوع ماء، ولا وجود للحياة بدون ماء وسِقاء، ويستحيل وجود المرء بلا لسان، إذ هو أفضل الأعضاء.واداة في السراء والضراء والابتهال عند الدعاء.

وكما يتصف الماء بالتدفق تتصف اللغة بالتعمق والتعلق، والجريان على اللسان، لإخراج ما يثقل الكيان من متاعب الزمان، وكلاهما يصدر من الأعماق، ولكن آثاره تظهر في الآفاق، فالماء يجعل اديم الأرض أخضر، واللغة تكون لسان الفتى بها يعتبر ويُذكر.

والمقطع دون اللازمة يقسم إلى قسمين، كل قسم مؤلف من بيتين، القسم الأول يحفل بالثبات، لأنه يتوسل بالأسماء بالذات، ويرجئ الأفعال إلى القوافي الخاتمات، وأما القسم الثاني فيستعمل ابتداء الأفعال، لمحاكات صنع الماء واللغة في كل الأحوال، فالماء يكون في الغدير ساكنا لا يسمع له هدير، ولكنه حين يجري، يترك الاخضرار حيث يسري، وكذلك اللسان، فهو عند الصمت يُعد كأنه ماكان، ولكنه عند الإفصاح، يكون كانبلاج الصباح، وحيثما كان فصيحا فثمة المعاني لقاحا، والآذان الصماء تصيخ للنباة منه وترضخ لعنصر الإفصاح، وتصبح الأجساد مجرد آذان صاغية لكل اقتراح.


الهوامش
1- مقاييس اللغة لابن فارس
2- سورة الصف الآية 6
3- بصائر ذرى التمييز للفيروزآبادي
4- عمدة الحفاظ للسمين الحلبي
5 – و6- مفردات ألفاظ القرآن الكريم للراغب الاصفهاني
7 – تفسير إبن جزى، لابن جزى.

يتبع بإذن الله في حلقات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.