منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

صور عملية من إحياء النبيﷺ لليلة القدر

للشيخ عبد الله بنطاهر التناني

0

صور عملية من إحياء النبيﷺ لليلة القدر

للشيخ عبد الله بنطاهر التناني

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه
الحمد لله المستحق لكل حمد وشكر، أكرم المسلمين بليلة القدر، فجعلها في الجزاء خيرا من ألف شهر، وأشهد أن لا إله إلا الله يجازي العباد بكثير الثواب والأجر، بإذنه تنزل الملائكة والروح في ليلة القدر من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الفضل والخير، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

أولا: الحكمة من إخفاء بعض العبادات

إن الإسلام لا يريد للمؤمن أن يتكل على نوعية أعماله، أو يتكل على يوم أو ليلة في عبادته، بل يريد له أن يملأ أوقاته بالأعمال الصالحة، ويتجنب في كل أوقاته الأعمال الطالحة، ثم يتكل بعد ذلك على الله تعالى. ولهذا أخفى الله تعالى عبادات مهمة، لم يطلع عباده عليها لئلا يتكلوا فيتباطئوا عن العمل:

      • فأخفى الصلاة الوسطى وأمر بالمحافظة عليها، وحذر من تضيعها، حتى يحافظ المسلم على الخمس كلها.
      • وأخفى اسم الله العظيم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب حتى يدعو المسلم بأسماء الله الحسنى كلها.
      • وأخفى ساعة الجمعة التي لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله إلا استجاب لكي يلح المسلم في الدعاء الجمعة كلها.
      • وأخفى خاتمة الحياة فجعل خير الأعمال خواتمها، وخير الأعمار أواخرها لكي يعتبر المسلم كل دقيقة نهاية حياته.
      • وأخفى الولي بين الناس وحذرنا من عداوته فقال في الحديث القدسي الجليل: «من عاد لي وليا فقد آذنته بالحرب» حتى يحترم المسلم الناس أجمعين.

ثانيا: فضل ليلة القدر

ومن المسائل التي أخفاها سبحانه وتعالى ليلةُ القدر، هذه الليلة العظيمة التي وصفها الله تعالى بخير من ألف شهر، فبإحيائها يكون المسلم لنفسه عمرا كاملا من الطاعة والعبادة، فألف شهر يعادل ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، ففيها تنزل ملائكة الرحمن فتسلم على كل مسلم فهي ليلة ملؤها السلام والأمان، وهي ذكرى وأعظم بها من ذكرى؛ ذكرى دستور المسلمين، وذكرى نزول القرآن الكريم، يقول الله تعالى: {إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا}، ويقول سبحانه: {إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر، سلام هي حتى مطلع الفجر}، وفي الحديث المتفق عليه أن النبيﷺ «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».

وليلة القدر هي تكريم إلهي رباني خص الله بها أمة سيدنا محمدﷺ، وقد كانﷺ يحمل هموم أمته، يهمه فلاحها في الدنيا والآخرة، فجلس ذات يوم يقارن بين أعمار أمته وأعمار الأمم الماضية، وبين أعمال أمته وأعمال الأمم الماضية، فرأى طول الأعمار وكثرة الأعمال عند الأمم، فسيدنا نوح مثلا استمرت دعوته إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاما، فكيف يكون جزاء وثواب من اتبعه في هذه السنوات كلها، فأذهله الأمر، وخاف أن يكون ثواب أمتهﷺ عند الله تعالى قليلا، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر تكرما وتفضلا، روى الإمام مالك في الموطأ «أن النبيﷺ أُرِيَ أعمارَ الناس قبلهُ أو ما شاء الله من ذلك، فكأنه تقاصر أعمار أمته أن لا يبلغوا مثل الذي بلغه غيرهم في طول العمر فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر».

ثالثا: المشهور في تحديد وقتها

أخفى الله تعالى ليلة القدر حتى يملأ المسلم ليالي رمضان بالقيام والذكر والقرآن، ولكن الرسولﷺ رحمة بنا قربنا منها، فحددها في العشر الأواخر من رمضان، روى البخاري ومسلم أن النبيﷺ قال:« تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان» وروى البخاري ومسلم أيضا عن عبادة بن الصامت: أن رسول اللهﷺ خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين (أي تخاصما) فقال: «إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيرا لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس». وهكذا حال خصام رجلين بين الأمة وبين معرفة ليلة القدر، لأن الخصام داء وضرر لا يجوز أن يكون بين المسلمين لأنهم كالجسد الواحد، وكالبنيان يشد بعضه بعضا. ورغم خفائها فالمشهور لدى العلماء أنها ليلة سبع وعشرين روى الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول اللهﷺ: «من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع وعشرين» وروى مسلم عن زِرّ بنَ حُبَيْشٍ قال: «قُلْتُ لاِبيّ بنِ كَعْبٍ إِنّ أَخَاكَ عبْدَ الله بن مَسْعُودٍ يقولُ مَن يَقُمِ الْحَوْلَ يُصِبْ لَيْلَةَ القَدْرِ، فقالَ يَغْفِرُ الله لأبي عَبْدِ الرّحْمَنِ لَقَدْ عَلِمَ أنّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَأَنّها لَيْلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِينَ ولَكِنّهُ أَرَادَ أَلاَّ يَتّكِلَ النّاسُ ثُمّ حَلَفَ لا يَسْتَثْنِي أَنّهَا لَيْلَةُ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ».

رابعا: كيفية إحياء ليلة القدر

أما إحياء ليلة القدر فيكون بالأعمال الصالحة وقد بين لنا الرسولﷺ أقلها فقال فيما روى الإمام مسلم: «من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما صلى الليل كله»؛ ولكن القيام الكامل يحصل بإحياء الليل كله، أو معظمه بالصلاة وتلاوة القرآن، أو بالذكر والدعاء، أو بالصدقة والإحسان، وقد كان الرسولﷺ يحيى الليالي بطول القراءة والقيام، حتى تورمت الأقدام كما روى البخاري، فلما قالت له عائشة لم تصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، أجابﷺ: «أفلا أكون عبدا شكورا».

خامسا: صور من قيام المصطفى صلى الله عليه وسلم

حتى لا يصيبنا الغرور بالصيام والقيام، وحتى لا ينال منا الإعجاب بالنفس في رمضان، أكشف لكم الستار عن صور من قيام النبيﷺ حتى نقارن أنفسنا بها ونعرف موقعنا منها:

أ) الصورة الأولى: نشاهدها فيها الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه المعروف بكثرة التهجد وطول القيام، يشارك النبيﷺ ذات ليلة الصلاة، فأطالﷺ القيام حتى هم بالمغادرة وترك الصلاة، روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: «صليت مع النبيﷺ ليلة فأطال القيام حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت به؟ قال: هممت أن أجلس وأدعه».

ب) الصورة الثانية: نشاهد فيها الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صاحب سر رسول اللهﷺ يشارك النبيﷺ ذات ليلة القيام، فقرأ سورة البقرة فأتمها، ثم سورة آل عمران فأتمها، ثم سورة النساء فأتمها، ثم كان ركوعه وسجوده قريبا من ذلك، وكانت الركعة الثانية قريبة من الأولى، إنها عشرة أحزاب ونصف يا جماعة، نقطعها نحن في تراويحنا في خمسة أيام، ولندع حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وهو يتحدث عن ذلك فيقول: «صليت مع النبيﷺ ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها، يقرأ مترسلا: إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع فجعل يقول: (سبحان ربي العظيم) فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: (سمع اللَّه لمن حمده ربنا لك الحمد) ثم قام قياما طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد فقال: (سبحان ربي الأعلى) فكان سجوده قريبا من قيامه».

ج) الصورة الثالثة: نشاهد فيها الصحابي الجليل أبا ذر الغفاري رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يشارك النبيﷺ ذات ليلة القيام، فأطال به إلى حدود الفجر، حتى خاف أن يفوته السحور، روى أبو داود والنسائي عن أبي ذَرّ قال: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللهﷺ رَمَضَانَ فَلَمْ يَقُمْ بِنَا شَيْئاً مِنَ الشّهْرِ حَتّى بَقِيَ سَبْعٌ، فَقَامَ بِنَا حَتّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللّيْلِ، فَلمّا كَانَتِ السّادِسَةُ لَمْ يَقُمْ بِنَا، فَلمّا كَانَتْ الْخَامِسَةُ قَامَ بِنَا حتّى ذَهَبَ شَطْرُ اللّيْلِ فَقُلْتُ: يَا رسولَ الله لَوْ نَفّلْتَنَا قِيَامَ هَذِهِ اللّيْلَةَ. قالَ فَقَالَ: إِنّ الرّجُلَ إِذَا صَلّى مَعَ اْلإِمَامِ حَتى يَنْصَرِفَ حُسِبَ لَهُ قِيَامُ اللّيْلَةَ. قالَ: فَلمّا كانَتِ الرّابِعةُ لَمْ يَقُمْ، فَلمّا كانَتِ الثّالِثَةُ جَمَعَ أَهْلَهُ وَنِسَاءَهُ وَالنّاسَ فَقَامَ بِنَا حتَى خَشِينَا أَنْ يَفُوتَنَا الْفَلاَحُ. قالَ قُلْتُ: وَمَا الْفَلاَحُ؟ قالَ: السّحُور. ثُمّ لَمْ يَقُمْ بِنَا بَقِيّةَ الشّهْرِ».

د) الصورة الرابعة: نشاهد فيها الصحابة الذين تخرجوا من مدرسة الرسولﷺ في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد كان بعضهم يعتمد على العصي من طول القيام، روى الإمام مالك في الموطأ عن السائب بن يزيد قال: «أمر عمر بن الخطاب أبي بن كعب وتميما الداري أن يقوما للناس في رمضان بإحدى عشرة ركعة، فكان القارئ يقرأ بالمائتين حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر».

تلكم هي صور التقطها الصحابة عن عبادة القيام في رمضان، إنها صور إذا أحسنا الاستفادة منها سوف نحصن بها أنفسنا ضد الإعجاب والغرور، وندفع بها عن أنفسنا مساوي الكسل والخمول، وتدفعنا لمزيد من التقرب إلى الله العلي القدير…

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.