منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

المداخل القاصرة لتجديد الدين في العصر الحاضر

المداخل القاصرة لتجديد الدين في العصر الحاضر/الدكتور محمد السائح

0

المداخل القاصرة لتجديد الدين في العصر الحاضر

الدكتور محمد السائح

لا يدخل في حيز هذه المقالة من يرفض الوحي كتابا وسنة، أو يؤخر رتبتهما في تحصيل التجديد المنشود في الأمة. فهؤلاء لا يتكلمون بلسان الأمة، وإن حشروا أنوفهم في هذا الأمر.

إنما الكلام مع من يرفع لواء الدعوة الإسلامية والعلم الشرعي، ويجتهد في اقتراح المداخل التي تسلك بها الأمة إلى رشدها وريادتها من جديد.

والغرض من النظر النقدي فيما اشتهر من هذه المداخل عند فريق من الدعاة والعلماء والحركات الإسلامية وغيرهم، إثارة الانتباه إلى ما يشوب هذه المداخل المشتهرة من العيوب، مما قد يضيق عنه الوقت عندهم للتأمل فيه، في زحمة الأعمال اليومية والبرامج المسطرة.

ونتناول بالتحليل تباعا جملة من هذه المداخل إن شاء الله تعالى:

  • مدخل أفراد العلماء:

والمقصود به، اتخاذ أحد العلماء المشاهير نموذجا يحتذى في التجديد، فتكون اجتهاداته وأفكاره وكتبه هي البرنامج العام للتجديد والمنطلق الأساس للنظر والتفكير. وقد تجلى هذا المدخل عند تيارين كبيرين في الفكر الإسلامي المعاصر، الأول التيار السلفي، والثاني التيار المقاصدي.

أولا: التيار السلفي:

أما التيار السلفي، فإنه جعل المدخل الأساس للتجديد في الدين هو تراث الإمام ابن تيمية رحمه الله(728هـ) مع تلميذه ابن القيم رحمه الله(751هـ) وهو نسخة منه لا يخرج عن اجتهاداته.

والذي أصّل لهذا المدخل هو الداعية محمد بن عبد الوهاب(1206هـ) زعيم الدعوة السلفية الوهابية التي انطلقت من الجزيرة العربية ثم انتشرت في كثير من بلاد المسلمين.

وتقوم هذه الدعوة على أن معظم الأمة بعلمائها ومذاهبها، قد تنكبوا عن منهج السلف الصالح في الاعتقاد والفقه والسلوك، وانتشرت فيهم البدع والشرك والانحرافات؛ وليس من سبيل للعودة إلى منهج السلف الصالح والتعرف عليه إلا من طريق الإمام المجدد شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي قام في زمانه بإحياء علوم السلف فيما كتبه وأنتجه.

ثانيا: التيار المقاصدي:

وأما التيار المقاصدي – ونعني به عموم من يشتغل ببحوث المقاصد ويهتبل بها من العلماء والباحثين وبعض الحركات الدعوية- فإنه جعل المدخل الأساس للتجديد في الدين هو كتاب الموافقات للإمام الشاطبي رحمه الله(790هـ)، ويلحق به بالتبع بعض ما كتبه مشاهير الأصوليين كالجويني(478هـ) والغزالي(505هـ) والعز بن عبد السلام(660هـ) والقرافي(684هـ). لكن المدخل الأساس هو موافقات الشاطبي.

والذي أصّل لهذا المدخل أول مرة هو الشيخ محمد عبده(1323هـ)، الذي دعا إلى حركة تجديدية في الأزهر الشريف في زمانه، وأثر في عدد من الكاتبين والدعاة.

ويقوم هذا التيار على أن علم أصول الفقه بشكله الموروث في كتبه الدراسية في القرويين أو الزيتونة أو الأزهر أو غيرها من معاهد التعليم العتيق، لم يعد يفي بحاجة الأمة إلى التجديد، فضلا عن كونه صار علما معقدا مثقلا بالمباحث الكلامية واللغوية والمنطقية وغيرها. فليس إذن من سبيل إلى العودة إلى منهج السلف الصالح في فهم الشريعة، إلا عبر طريق موافقات الشاطبي، الذي اهتبل بالمقاصد ووسع الكلام فيها أكثر ممن سبقه.

وخلاصة هذا المدخل عند هذين التيارين، ألا سبيل للتجديد إلا عبر ابن تيمية والشاطبي، وهذا هو لازم قول كل من التيارين، وإن لم يصرَّح به. مع الإشارة إلى أن كل تيار منهما يخالف الآخر في كثير من القواعد المنهجية، ومع ذلك فهما متفقان على هذا المدخل.

وسنرد على هذا المدخل ردا إجماليا يناسب هذا المقال، لأن الرد التفصيلي يحتاج إلى كتب برأسها، فنقول:

كيف لعالم أو اثنين، مهما بلغا من العلم والذكاء والتبحر، أن يقوما مقام آلاف من العلماء الذين تناقلوا العلم الشرعي جيلا بعد جيلا في مدارس فقهية وعقدية وسلوكية منتشرة في طول البلاد الإسلامية وعرضها؟

وهل يمكن لأي عالم بمفرده أن يحل محل كافة المدارس الفقهية والعقدية والسلوكية، فيكون هو الحكم الفصل فيما هي عليه من الدين، فيقبل ما يشاء ويرد ما يشاء؟ فهكذا تم تصوير ابن تيمية عند التيار السلفي، فصار هو المتكلم باسم السلف.

وهل يجوز أن نجعل كتابا ألفه صاحبه للعلماء، وشرط ألا ينظر فيه إلا المجتهدون، ووسع فيه الكلام على المقاصد، لينظر فيه هؤلاء العلماء، فنظروا في عصره وبعده، وشكروه على ما أصاب فيه، ونبهوا على ما شذ فيه؛ فهل يجوز أن يجعل هذا الكتاب بدلا عن كتب الأصول المحررة التي تدورست جيلا بعد جيل في مجالس الدرس والتحصيل، والحال أن المعاصرين أخذوا هذا الكتاب بالوجادة، لا بالسند المتصل إلى صاحبه عبر تلاميذه؟

ولنا أن ننظر اليوم إلى مآل هذا المدخل عند التيارين. أما التيار السلفي، فآل إلى صورتين: الأولى: حمل السلاح في وجوه المسلمين بدعوى الشرك والبدعة. والثانية: الانقلاب المفاجئ على أصول التدين والتفرق إلى طوائف.

وأما التيار المقاصدي، فآل أمره إلى اللهث وراء طلب ملاءمة بعض المستجدات الفكرية للغرب للشريعة الإسلامية، سواء في الاقتصاد أم في السياسة أم في غيرهما، دون تحصيل طائل من ذلك. بل آل أمره إلى أن يدخل فيه من هب ودب، فكل من يعجبه نسبة أمر إلى الشريعة، يرفع دعوى المقاصد ويثبت ما يشاء وينفي ما يشاء.

إننا ندعو بصدق أصحاب هذا المدخل أن ينظروا فيه بعين التمحيص، وأن يعذرونا إن رأوا في هذا النقد شدة، فما أردنا إلا النصيحة لأنفسنا قبل غيرنا.

فإن قيل: أليس هؤلاء الأفراد الأفذاذ من العلماء، هم المجددون على رأس كل مائة سنة، كما ورد في الحديث؟ فما تنكر من ذلك؟

قلنا: إن سلمنا بانحصار التجديد في واحد على رأس كل مائة سنة، ثم سلمنا مع التيار السلفي أن الإمام ابن تيمية مجدد، ومع التيار المقاصدي أن الإمام الشاطبي مجدد، فإن مقتضى ذلك أن يكون تجديدهما قد تم فعلا وآتى ثماره في زمانه، فأفاد منه من بعدهما قطعا بشهادة الحديث، فاندرج تجديدهما في تراث الأمة وصار لبنة ضمن بنائها المعرفي والمنهجي.

فكيف يدعى الآن بعد وفاتهما بسبعة قرون، أنهما المدخل للتجديد؟ وهل المطلوب القفز على سبعة قرون كاملة، للرجوع إلى رجلين من أفذاذ الأمة، طمعا في التجديد عبر تراثهما؟

فنحن إذن بين احتمالين كلاهما يوقع المدعي في ورطة معرفية:

فإما يقول إن الرجلين جددا، ولكن علماء زمانهما رفضوا تجديدهما، وتتابع الرفض في أجيال العلماء اللاحقة، حتى جاء زماننا هذا فقُبل تجديدهما. وهذا الاحتمال يُلزم المدعي بتخطئة مئات العلماء بل الآلاف طيلة سبعة قرون؛ وهذه مكابرة من صاحبها.

وأما الاحتمال الثاني، فأن يقول المدعي إن تجديدهما قد أثمر ثماره، وتبنى سائر العلماء ما هو مفيد منه، فاندرج ضمن البناء المعرفي والمنهجي كما سلف القول، فيقال له: فلم تلزم الناس اليوم بأن التجديد في الأمة لن يكون إلا عبر هذين الرجلين؟

إن حقيقة الموقف أن نعي جيدا، أن هذا الدين له متبوع واحد لا يُرد شيءٌ من كلامه ولا يُرفض أمر من أمره، ألا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل مَن سواه يؤخذ من كلامه ويرد، كما قال الإمام مالك رحمه الله. وأما علماء الأمة فكلهم ضمن مدرسة جامعة يتتابعون على إمامتها وتحرير مناهجها وعلومها، وهم فيها، ينظر بعضهم في عمل بعض، فيقومه ويصوبه، فليس فيهم حاكم على الجميع لا يقضى شيء في الشريعة إلا بأمره.

إن هذه المدرسة الجامعة هي مناهج العلوم الشرعية التي ارتضوها وحرروها في مصادرها المعتمدة، وتناقلوها جيلا بعد جيل بالسند المتصل في مجالس الدرس والتحصيل، وليس بالوجادة. ولا يأتي التجديد الحقيقي إلا من رحم هذه المدرسة الجامعة بجميع فروعها المعتبرة.

وخلاصة القول في هذا المدخل الأول لتجديد الدين، أنه قاصر عن بلوغ هذا الهدف.

  • المدخل الثاني (يتبع في الحلقة القادمة إن شاء الله)

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.