مقدمة
الحمد لله رب العالمين، الملك الحق المبين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطاهرين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، صلاة تستغرق معه سائر الأنبياء والمرسلين.
وبعد،
فإن لكتاب ” بداية المجتهد ونهاية المقتصد” للعلامة المالكي الكبير “ابن رشد الحفيد” مكانة مهمة في الفقه الإسلامي، ومنزلة عظيمة في مجال الدراسات الإسلامية عموما، ذلك أنه ضمنه صاحبه من الدرر والفوائد كل عجيب، ودبجه من الشرائد والفرائد كل مستحسن غريب، حتى كأنه مجموعة كتب في كتاب واحد، وثلة من الفنون والعلوم في سفر منفرد.
فهو وإن كان في مجال الفقه المقارن والاختلاف العالي، الذي يقتضي قطع أشواط عديدة في مجال العلوم الشرعية واللغوية قبل النظر في ما بين دفتيه، إلا أنه لقي قبولا حسنا من قبل الطلبة والباحثين والمهتمين بمجال الدراسات الشرعية في كل البقاع والأصقاع، فترى كل فقيه عليه يعتمد ومنه يستمد، وكل باحث يبلس له ثوب الجد ويستنبط منه من المسائل والقضايا ما لا يعد.
وأنت تسافر بين فصوله وأبوابه، تشعر أنك إزاء كتاب غير عادي، كتاب فيه من الفقه ما يروي الظمآن، ومن الأصول ما يدع الحليم حيران، ومن المنهج السليم ما يدهش كل ذي جنان، ومن جزالة اللغة وقوتها ما يفحم كل ذي أدب مشار إليه بالبنان، ولعلك عزيزي القارئ تقول : قد بالغت جدا وحملت نفسك إدا، فما تصفه لا يكاد يجتمع في كتاب واحد !
فأقول لك أخي ما عليك سوى أن تسافر بين أبوابه وفصوله، ممتطيا صهوة الصبر ثانيا عنان القلق، هازما التعب والأرق، هامزا جواد المطالعة وإدمان النظر، فترى بإذن الله ما وعدتك حقا، وما وصفت لك عيانا، فجّرب !
بيد أن قصور الهمم جعل الكتاب نسيا منسيا ينخره البلى على رفوف المكتبات، وتنمحي رسومه بتوالي السنين والأعوام، فأضحى في خبر كان، ولولا هذه الشموع التي تفنى قطرة قطرة من طلبة الدراسات الإسلامية وأطرها وأساتذتها المرابطين على ثغر الفقه والأصول، لما بقي للكتاب رسم ولا للمسائله وقضاياه ذكر، ولكن الله غالب على أمره ولو كره الكافرون.
أمام هذا الإشكال كان لا بد من تقريب هذا الكتاب للناس، وصياغته في قالب بسيط موجز، لعل صاديا إلى المعرفة يقرأه فيرتوي، أو غافلا فيرعوي، أو باحثا فيستفيد، أو من لا وقت له لمطالعته فيُلمّ بأهم مواضيعه أو على الأقل يعرف الشباب العربي أن هناك كتابا موسوما بـ “بداية المجتهد ونهاية المقتصد “.
فالله نسأل أن ينفعنا بهذا الجهد، وأن يثيبنا عليه، وأن يجعل له قبولا حسنا، وأن يحفظ فضيلة الدكتورة ” حفيظة بوكراع ” التي حفزتنا للقيام بهذا العمل، وأن يجزل لها الثواب إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المبحث الأول : ترجمة ابن رشد الحفيد رحمه الله
المطلب الأول : التعريف بابن رشد الحفيد.
هو محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، ويكنى أبا الوليد، ولد عام 520 هـ، بقرطبة، الأندلس، نشأ في بيت علم وأدب وفقه، كان كل من جده وأبيه قاضيا في الأندلس، فكان لهذا الجو الثقافي والعلمي الذي تربى فيه ابن رشد في تكوينه وصقل مواهبه وتأجيج ملكته الفقهية.
يعرف بابن رشد الحفيد تمييزا له عن جده ابن رشد الجد الفقيه الأصولي صاحب المقدمات الممهدات، المتوفى سنة 520 هـ.
توفي ابن رشد الحفيد بمراكش سنة 595 هـ. 1
المطلب الثاني : شيوخه وتلاميذه.
أخذ العلم عن شيوخ كثر، منهم علي أبو جعفر هارون، وابن باجة، كما أخذ العلم عن كل من جده وأبيه، كما كانت تربطه أواصر المحبة والمودة مع ابن طفيل وأبي مروان بن زهر، كما كان مختلطا بأفضل وأشهر وأعلم أهل عصره.
وأخذ عنه العلم تلاميذ كثر، منهم أبو عبد الله الندرومي، وأبو جعفر أحمد بن سابق، وأبو القاسم الطيلسان وغيرهم كثير.
المطلب الثالث : مكانته العلمية
جمع ابن رشد كثيرا من العلوم النقلية والعقلية، مما جعله منارة زمانه وقبلة أهل العلم في وقته وحتى في وقتنا المعاصر.
تظهر مكانة ابن رشد العلمية في كثرة تلاميذه والمؤلفات التي والمصنفات التي خلفها، فقد عد له ابن فرحون المالكي في الديباج المذهب، وكذا مخلوف في شجرة النور الزكية، نحوا من ستين مؤلفا وأنه سود أكثر من 10 000 ورقة.
ومن أبرز كتب ابن رشد الحفيد نجد :
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
- البيان والتحصيل في اختلاف أهل العلم.
- تهافت التهافت.
- العلل.
والكثير من كتبه أحرق أو ضاع في محنته. 2
المطلب الرابع : محنته.
في آخر أيام يعقوب المنصور الموحدي اتهم ابن رشد بالزندقة والكفر، ونسبت إليه أمور دينية وسياسية، فتم نفيه من مراكش، وفرضت عليه الإقامة الجبرية في إحدى القرى المغربية، وأحرقت كتبه، ثم عفا عنه الخليفة، ليموت بعد ذلك بسنة. 2
المبحث الثاني : نظرات في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
المطلب الأول : التعريف بالكتاب.
هو كتاب في الفقه على مذهب إمام المدينة المنورة، استوفى فيه أبواب الفقه كلها، بدءا يكتاب الطهارة وختاما بكتاب الأقضية، أورد فيه مختلف آراء الفقهاء حول المسألة الواحدة، وذكر أدلة كل ذي رأي وأحيانا يرجح بين هذه الآراء ويذكر رأيه هو رحمه الله، الشيء الذي يجعل من هذا الكتاب أداة تربوية مهمة في التربية على اكتساب الملكة الفقهية والصناعة الاستنباطية.
وقد بين رحمه الله غرضه من هذا الكتاب، وذلك أثناء عرضه للمقدمة قائلا : { فإن غرضي من هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها والتنبيه على نكت الخلاف … من لدن الصحابة رضي الله عنهم إلى أن فشا التقليد}.
وقد سعى في هذا الكتاب إلى تحقيق النتائج الآتية :
- رفع مستوى الجزئيات والوقائع اللامتناهية إلى مستوى الأصول المقررة والقواعد الثابتة.
- الدعوة إلى معرفة الأصول واللغة العربية.
- تنمية الملكة الفقهية وصناعة المجتهد الحاذق لا الحافظ للمسائل الفقهية.
- تأليف كتاب يجمع شتات الآراء الفقهية المختلفة.
المطلب الثاني : محتوى الكتاب:
تحدث رحمه الله في البداية عن الطرق التي يتلقى منها الحكم أو الأحكام، وتحدث عن أقسامها وفصل الحديث عن كل صنف على حدة.
بعد ذلك عقد كتابا للطهارة، حيث قسم رحمه الله الطهارة إلى قسمين، طهارة الحدث وطهارة الخبث، وقسم الأولى إلى ثلاثة أقسام : وضوء وغسل وتيمم، وفصل الحديث في كل قسم، وذكر مسائله المتعلقة به وأقوال الفقهاء والمذاهب مع الترجيح بين الأقوال وذكر سبب الخلاف والتأصيل .
ثم عقد كتابا للصلاة، وخصّص فصولا لشروطها وأركانها وأحكامها، وعقد تحت هذه الفصول مسائل حيث يذكر اختلاف العلماء في جزئيات هذه المسائل وأصل الخلاف والترجيح بين الأقوال، مع ذكر الأدلة من الكتاب والسنة.
ثم عقد كتابا لأحكام الميت وما يتعلق به من تكفين وغسل ودفن، وآخر للصيام حيث قسمه إلى عدة أقسام وأدرج تحته جملة من المسائل وناقشها.
وعلى نفس المنوال عقدا كتابا لكل من الاعتكاف والزكاة والحج والجهاد والأيمان والذبائح والصيد والعقيقة والأطعمة والأشربة والنكاح والطلاق والإيلاء والظهار واللعان ومثله للمعاملات والفرائض والعتق ثم القصاص وما يندرج تحته وختم هذا السفر النفيس بكتاب الأقضية.
وهكذا يكون رحمه قد استوعب فيه أبواب الفقه كلها، وناقشها وأصلها وذكر سبب الخلاف فيها ورجح بينها، فيكون بذلك قد قدم للفقه الإسلامي خدمة جليلة تزن الجبال ولا تطيش.
حدد بعض الباحثين تاريخ تأليف هذا الكتاب في 563 أو 564 هـ، وذلك اعتمادا على قول ابن رشد الذي ذيل به كتاب الحج : { وكان الفراغ منه الأربعاء التاسع جمادى الأولى الذي هو عام 584 هـ، وهو جزء من كتاب بداية المجتهد الذي وضعته منذ أزيد من عشرين عاما}. أنظر آخر كتاب الحج.
المطلب الثالث : منهج ابن رشد في هذا الكتاب.
إن الناظر لأول وهلة في هذا الكتاب يكاد لا يلمس فرقا بينه وبين سائر كتب المالكية الفقهية، خصوصا في سهولة العرض والتناول، وتقسيم السفر إلى كتب وأبواب وفصول ومسائل …
لكن بعد إمعان النظر في صفحات هذا الكتاب، نجد فرقا واختلافا في طريقة معالجته لهذه الأبواب، ويمكنك إبراز منهجيته رحمه الله من خلال ما يلي :
- يترجم للباب الذي يريد الحديث فيه.
- يقسم في الغالب الكتاب إلى عدة أبواب.
- يقسم الباب إلى عدة مسائل.
- يترجم للمسألة ويذكر أدلتها من الكتاب والسنة والإجماع.
- يعرض آراء الفقهاء فيها اختلافا واتفاقا.
- يذكر أدلة كل فريق.
- يرجح أحيانا بين الآراء المختلفة.
- يذكر رأيه أحيانا.
- ينتقد ويؤيد.
- يعرض المسائل والأبواب مجملة ثم يفصلها.
- لا يتعصب للمذهب المالكي، بل يخالفه أحيانا.
المطلب الرابع : أنموذج تطبيقي من الكتاب-كتاب القسامة
اختلف العلماء في القسامة في أربعة مواضع، تجري مجرى الأصول لفروع هذا الباب:
المسألة الأولى : هل يجب الحكم بالقسامة أم لا؟
المسألة الثانية : إذا قلنا بوجوبها، هل يجب بها الدم أو الدية أو دفع مجرد الدعوى؟
المسألة الثالثة : هل يبدأ بالأيمان فيها المدعون أم المدعى عليهم، وكم عدد الحالفين من الأولياء؟
المسألة الرابعة : فيما يعد لوثا يجب به أن يبدأ المدعون بالأيمان.
المسألة الأولى : { وجوب الحكم بالقسامة }
أما وجوب الحكم بها فقال به جمهور فقهاء الأمصار مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وداود وأصحابهم وغير ذلك من فقهاء الأمصار، وقالت طائفة من العلماء، سالم بن عبد الله وأبو قلابة وعمر بن عبد العزيز وابن علية : لا يجوز الحكم بها.
وعمدة الجمهور ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام، من حديث : { حويصة ومحيصة } وهو حديث متفق على صحته من أهل الحديث إلا أنهم مختلفون في ألفاظ على ما سيأتي بعد.
وعمدة الفريق الثاني : أن القسامة مخالفة لأصول الشرع المجمع على صحتها … 1
خاتمة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فها نحن قد وصلنا إلى خاتمة ما وعدناك به في مقدمة هذا العمل المتواضع، الذي قصدنا فيه التعريف بكتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” للعلامة ابن رشد الحفيد رحمه الله تعالى.
وقد ظهر جليا من خلال ما بيناه أهمية هذا الكتاب النفيس في إكساب طالب العلم الشرعي ملكة التعامل مع النصوص والتربية على الاستنباط والارتفاع عن حضيص التقليد إلى سماء الاجتهاد، ونبذ التعصب والتمسك بالدليل، لكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
وفي الختام لا يسعنا إلا أن نجدد الدعوة إلى قراءة هذا الكتاب والاهتمام به وإدمان النظر فيه، حتى نكون جيلا من الطلبة ينتجون الفقه بدل أن يستهلكوه، وينفثون العلم عوض حفظ ما لا يعد ولا يحصى من المسائل. ولا حول ولا قوة إلا بالله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.