الافتقار إلى الله في سلوك المومن
الافتقار إلى الله في سلوك المومن/ عثمان أولاد موح الصديق
الافتقار إلى الله في سلوك المومن
ذ: عثمان أولاد موح الصديق
الافتقار إلى الله سلوك نبوي سلكه أنبياء الله عليهم صلوات الله ومن بعدهم سلف هذه الأمة الصحابة الكرام عليهم رضوان من الله وبعدهم صلحاء هذه الأمة ومربيها وعلماؤها العاملون الـمخلصون حضُّوا النَّاس في موائد الخير على التشبه والتخلق بخُلق نبينا العدنان عليه أفضل الصلام والسلام والصحابة الكرام في التَّشبث بهذه الخَصلة الطَّيبة والعض عليها بالنواجد، فماذا يُقصد بالفقر والافتقار إلى الله وما هي أهمية التواضع والانكسار؟ وهل يتعارض معنى الافتقار إلى الله مع السعي على العيال ومخالطة الناس؟
في معاني الفقر والافتقار
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر:15)، أَي المحتاجون إِليه، وقالوا افْتَقَر كما قالوا اشتَدَّ، ولم يقولوا فَقُر كما لم يقولوا شَدُدَ، ولا يستعمل بغير زيادة. وأَفْقَرَهُ الله من الفَقْرِ فافْتَقَرَ. والمَفَاقِرُ: وجوه الفَقْرِ لا واحد لها[1].
وعرَّفه الإمام ابن القيم رحمه الله بقوله: “حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلّك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء منافٍ للفقر”، ثم قال: “الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه”،[2] فالافتقار إلى الله تعالى أن يُجرِّد العبد قلبه من كل حظوظ النفس وأهوائها، ويُقبل بكُليته إلى ربه عز وجل متذللاً بين يديه، مستسلماً لأمره ونهيه، متعلقاً قلبه بمحبته وطاعته. قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ. لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ}(الأنعام:162-163)، وبهذا يكون الافتقار إلى الله عملا قلبيا حِسيا، وهو صِفة جامعة للعبودية لله عز وجل. ومعاني الافتقار إلى الله:
أ- شعور العبد بالحاجة إلى ربه،
-ب- شعوره بالضعف والاضطرار إليه،
-ج- الاستغناء عن كل خلق الله بالفرار إليه سبحانه،
–د- تبرؤ الإنسان من حوله وقوته ملبيا نداء ربه في قوله تعالى: “فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ ۖ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ“(الذاريات: 50)، وجاء في تفسير ابن كثير : “ففروا إلى الله” أي: الـجئوا إليه، واعتمدوا في أموركم عليه [3].
-الدعاء إلى الله فالدعاء طلب فالدعاء طلب، والطلب تعبير عن الحاجة، فكلما كان حال الطلب مرفوقا بالاضطرار كانت الإجابة، مصداقا لقوله تعالى:{أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ، أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ، قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ}(النمل : 62)، وكلما لبس الطلب لبوس الافتقار نال صاحبه بغيته بدليل قوله سبحانه: {إِنَّمَا ٱلصَّدَقَٰتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَٰكِينِ} (التوبة : 60).
ورد في الحديث القدسي: “إنَّ اللهَ تعالى قال: “من عادى لي وليًّا، فقدْ آذنتُه بالحربِ، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما افترضتُه عليه، وما يزالُ عبدي يتقربُ إليَّ بالنوافلِ حتى أُحبُّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمْعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها ورجلَه التي يمشي بها، وإن سألني لأُعطينَّه، وإن استعاذَني لأعيذنَّه، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن قبضِ نفس المؤمن، يكره الموتَ وأنا أكْرهُ مساءتَه. [4]
-هل يتعارض معنى الافتقار إلى الله مع السعي على العيال ومخالطة الناس؟
الافتقار إلى الله والتذلل بين يديه سبحانه يُربي في النفس التواضع والانكسار، مع الرغبة في السعي إلى نفع عيال الله، بدءا بنفع أهل البيت والذرية والقرابة، ففي الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه: “نفقة الرجل على عياله صدقة”[5]، وأي رجل أعظم أجرا من رجل ينفق على عياله من كسبه الحلال، يغنيهم عن ذل السؤال، وأن يذر العيال في غنى عن الناس خير له من أن يدعهم عالة على الناس أعطوهم أو منعوهم، ويربي المومن في ذريته عفة النفس حتى يعلوا شأنهم بين الناس فيحمد المرء على ذلك، فيقال فلان ربى أولاده على العفة والغنى عن الناس .مستغنين على ما في يد الناس حتى يحبهم الناس طالبين ما عند الله وما أعدهم لعباده العاملين الصالحين .
لما كانت مخالطة الناس سبيلا إلى نشر الأخلاق الحسنة والفضائل وأخذ الأسوة جعل النبي صلى الله عليه وسلم الخيرية لمن يخالط الناس، ففي الحديث الذي رواه عن عبدالله بن عمر “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم”[6]، فالمومن الموجود بين الناس يعاملهم ويتعامل معهم ويؤثر فيهم ويتأثر بهم التأثر الحسن ويصبر على ما يصيبه منهم من مكروه وأذى، ويقابل السيئة الحسنة، ويعفو ويصفح أفضل حالا وأكثر ثوابا وأعظم أجرا من الذي اعتزل الناس وبعد عنهم فلم يساكنهم ولم يعاشرهم ولم يعاملهم، فيحرم الأجر والثواب على الصبر على مخالطتهم .
-هل ينبغي أن أكون خارج المجتمع أم وسط الناس لأعيش معاني الافتقار ؟
-يقول ابن خلدون في كتابه المقدمة “إن الإنسان اجتماعي بطبعه”[7]، وهذا يعني أنه فطر على العيش مع الجماعة والتعامل مع الآخرين، فهو لا يقدر على العيش وحيدا بمعزل عنهم .. مهما توفرت له سبل الراحة والرفاهية، وحتى كلمة إنسان جاءت من الأنس .. فهو يستأنس بمن حوله يعيش ويتعايش معهم …ينتج عن هذا التعايش تبادل في التجارب والأفكار والثقافات … في العادات والمعتقدات …فيكتسب منهم ويكتسبون منه، وهذه هي المزايا الناتجة عن نشأة الإنسان في مجتمع من البشر وعدم اقتصار حياته على المحيط الضيق المتعلق بالأب والأم، وفيما بعد الزوجة والأبناء.
- والقصد الحسن من مخالطة الناس هو:
– التعاون على أعمال البر والتقوى، يقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (المائدة:2).
-والتعارف، يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}( الحجرات:13).
–والتعاطف، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: “مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”[8]، واعلم أن العطف لا يأتي من أصحاب القلوب القاسية، وكذلك الرحمة والمودة، فإذا كان الإنسان قاسي القلب كأنما نزعت الرحمة من قلبه، لا يبالي بمشاعر الآخرين، وإنما همه الأكبر وهدفه الأعظم أن يستريح فهذا لا شك أنه مخطئ، مع أننا نقول: إنه لن يحصّل الراحة، لأن طريق السعادة والراحة إنما يكون بالإحسان مع الخالق، وبالإحسان إلى المخلوقين، وهذا شيء معروف مشاهد، وكلما ازداد الإنسان إحساناً إلى الناس واجتهد في مساعدتهم، ولو بالكلمة الطيبة، أو بحل مشكلة من مشكلاتهم، أو بالوقوف معهم في محنتهم فسيجد الراحة والسعادة في قلبه.
– والتنافس في الخيرات فقال سبحانه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين:26)
الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}( آل عمران: 110)
خاتمة
الافتقار إلى الله خلق الصالحين وسلوك العارفين بالله، تواضعوا لله فرفَعهم الله درجات فكانوا سندا للمُستضعفين في الأرض خدمة ودعوة وتوجيها ونصرة. اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين المصلحين، فضلا منك ونعمة.
[1] لسان العرب ابن منظر، مادة فقر
2 مدارج السالكين ابن القيم، (2/440)
[5] رواه الطبراني في المعجم الأوسط 2/52
[6] – رواه الترمذي وابن ماجة.
[7] مقدمة ابن خلدون، 2/52
[8] – أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم، رقم: (6011)