منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

(6) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب ـ القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت 415 هـ) ـ

الدكتور مصطفى العلام

0

(6) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب

ـ القاضي عبد الجبار الهمذاني (ت 415 هـ) ـ

الدكتور مصطفى العلام

ذكرنا سابقا أن جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب في المرحلة الممتدة من القرن الثاني إلى القرن الرابع الهجري كان روادها من المعتزلة. وتحدثنا في مضى أيضا عن علمين بارزين في الفكر الاعتزالي هما ‘أبو عثمان الجاحظ’ و ‘الحسن بن أيوب’. وننتقل في نهاية هذه المرحلة للحديث عن أحد كبار شيوخ المعتزلة الذين أسسوا لقواعد الفكر الاعتزالي، إنه قاضي القضاة عبد الجبار الهمذاني( ت 415هـ)، حيث سنتناول جهوده في الرد على أهل الكتاب من خلال البحث في مضامين كتابيه ( المغني) و(تثبيت دلائل النبوة).

ـ التعريف بالقاضي عبد الجبار الهمذاني (ت 415 هـ، ) [1] :

هو القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن احمد بن الخليل الهمذاني  الأسد آبادي الشافعي ، أحد كبار شيوخ المعتزلة، يطلقون عيه لقب ” قاضي القضاة ، ولا ينصرف هذا اللقب عنه إلى غيره ، استدعاه أمير الري وولاه القضاء لثقته الكبيرة فيه ، إذ كان يقول عنه : انه أعلم أهل الأرض . ولا يعرف الكثيرون عنه إلا ما اشتهر به من كونه أحد رؤوس الاعتزال ، ولا يعلم الكثيرون عن مؤلفاته العديدة سوى كتابه المشهور الذي معنا وهو  المغني في أبواب التوحيد والعدل ، في حين أن له مؤلفات أخرى كثيرة في فروع العلم المختلفة ، وقد يعجب كثيرون حينما يعرفون أنه له كتابا في تفسير القرآن الكريم عنوانه ( تنزيه القرآن عن المطاعن ) وجدت المرحوم الدكتور  محمد حسين الذهبي يمتدحه كثيرا يراجع : التفسير والمفسرون ،مكتبة وهبة بالقاهرة ، ط الخامسة 1413هـ/1992م، 1/378-379. كما امتدح ابن كثير كتابه دلائل النبوة ، واعتبره من أجل مصنفاته وأعظمها ، وأنه يدلا على غزارة علم القاضي وسعة أفقه .

كتاب المغني في أبواب التوحيد والعدل [2] يعد كتاب المغني موسوعة كبرى في مجاله، ويحتوي عشرين جزءا، وما يهمنا منها هو الجزء الخامس الذي خصصه لعرض أقوال الفرق غير الإسلامية، وبصفة خاصة الباب الذي أفرده للحديث عن النصارى وآرائهم ومذاهبهم والرد عليهم. أما فصوله فجاءت مضامينها كالآتي:

ـ في الفصل الأول:  خصصه لذكر أقوال الفرق النصرانية الثلاث المشهورة آنذاك[3]، وقد عرض بتلخيص واف آراءهم في الجوهر والأقانيم والتجسد والاتحاد والصلب … الخ . ص: 80-85 .

ـ في الفصل الثاني: أفرده لإبطال مذهب الفرق النصرانية الثلاث في التثليث، حيث أورد القاضي عبد الجبار ردود شيوخه من المعتزلة، من خلال تكرار عبارة : ( وعلى هذه الطريقة ألزمهم شيوخنا) . وقد ناقش في هذا الفصل قضية التثليث ورد عليها بطريقة عقلية بحتة، كما فند كل ما يتعلق به القوم من تعليلات لخرافة التثليث ،مثل قولهم: (إن الثلاثة تجمع نوعي العدد اللذين هما الشفع والوتر ، وما جمع نوعي العدد كان أكمل مما لم يجمعهما). وقولهم : (إن تولد الابن من الأب هو كتولد الكلمة من العقل ، وحر النار من النار ، وضياء الشمس من الشمس )، وغيرهما من المقولات . وفي ختام هذا الفصل ناقش القاضي عبد الجبار قضية نسبة بنوة المسيح لله، واستعان في رده على هذه القضية بما قاله الجاحظ في هذا المقام ، كما استعان بآراء الجاحظ أيضا في رد استدلال النصارى على البنوة بأن المسيح خلق من غير أب، ثم مرة ثالثة في رد استدلالهم بوصف القرآن للمسيح بأنه روح الله وكلمته.

ـ في الفصل الثالث (ص: 113: 116 ): فقد خصصه القاضي لإبطال القول في الاتحاد وما يرتبط به ، من خلال  مناقشة القوم وتتبع أقوالهم المتعددة في معنى الاتحاد ، وخاصة الذين يقولون بأن الله – تعالى – اتحد بالمسيح بمعنى المشيئة، فأجاب القاضي عبد الجبار بأن قولهم هذا يحتمل ثلاثة أوجه:

  • الوجه الأول: أن مشيئتهما متغيرة، لكن يجب أن يتفقا في المشيئة.
  • الوجه الثاني: أن مشيئة اللاهوت هي مشيئة الناسوت .
  • الوجه الثالث:أن مشيئة الناسوت هي مشيئة اللاهوت

وقد أبطل القاضي عبد الجبار الوجوه الثلاثة في فصول مستقلة:

  • في الفصل الرابع (ص 117 – 18 1): أبطل الوجه الأول (مشيئة القديم سبحانه غير مشيئة المسيح عليه السلام ).
  • في الفصل الخامس (ص  119-120):،أبطل فيه قول من قال : (اتحد الله  بعيسى  بأن صارت مشيئة اللاهوت مشيئة الناسوت) .
  •  في الفصل السادس (ص 121 – 122): أبطل فيه القول الزاعم بأن (القديم اتحد بالمسيح  بأن صارت مشيئة المسيح مشيئة له ) .
  • في الفصل السابع(ص:23-25): واصل القاضي عبد الجبار مناقشته قضية الاتحاد متنقلا من معناه إلى كيفية وقوعه، فأفرد هذا الفصل لإبطال قول بعضهم: (أن الله اتحد بالمسيح بأن مازجه وتجاوزه واتخذه هيكلا ومحلا).
  •  في الفصل الثامن (ص 126 : 136 ): أبطل القاضي عبد الجبار القول أن (الله اتحد سبحانه بعيسى بمعنى أنه حل فيه) ، مفندا بشدة استدلالهم الشهير بظهور صورة الإنسان في المرآة ، أو ظهور نقش الخاتم في الطينة المطبوعة.
  •  في الفصل التاسع (ص 137 : 145):  أبطل قول بعض اليعقوبية الذي يزعم ( أن جوهر الإله وجوهر الإنسان اتحدا فصارا جوهرا واحدا ) . ومن الجدير بالملاحظة في هذا الفصل أن القاضي عبد الجبار يستنكر استشهادهم على صحة مذهبهم في الاتحاد بنصوص الأناجيل الأربعة.  وحجته في هذا :

1ـ أن هذا الكلام في صفة القديم، وما يصح عليه وما لا يصح لا يجوز أن يرجع فيه إلى السمع، ولو ثبت ما ادعوه سمعا لوجب أن يتأول عليه. وفق ما يقتضيه (ص 142 ) .

2ـ  فقدان التواتر في إثبات نصوص الأناجيل الأربعة – ومن ثم لا يقع بها علم – في حين أن النصوص القرآنية – التي نستقي منها أصول ديننا، نقلتها طائفة عظيمة لا يجوز عليها الاتفاق على الكذب( ص:145) .

  • في الفصل العاشر والأخير( ص:ـ46 1 : 151):  فقد أبطل فيه القاضي عبد الجبار ما ذهبوا إليه من المسيح وعبادته وما يتصل بذلك.

وقد أشار القاضي عبد الجبار في نهاية كتابه”المغني”  إلى أنه سيرد في موضع آخر على الشبه التي يثيرها النصارى للطعن في القرآن الكريم ، من قبيل (إنكارهم ما يخبر به القرآن الكريم عن كلام عيسى في المهد، واثبات القرآن نبوة بعض الأنبياء وهم ينكرونها، وأن القرآن يحصر النبوة في الرجال دون النساء، وما يثبته القرآن من تأليههم مريم وهم ينكرونه…). والمتأمل في هذه الشبه التي ذكرها هي نفسها التي ذكرها الجاحظ في رده على النصارى ، ولكن الأجزاء التي وصلتنا من رد الجاحظ لم تتضمن ردودا إلا على قليل من هذه الشبه وليس كلها، وكان الباحثون يمنون النفس بالعثور على هذه الردود في كتاب ” المغني” ، لكن – وللأسف الشديد- فإن المغني لم يصلنا كاملا هو الآخر ، فقد فقدت منه بعض الأجزاء .  [4]

كتاب تثبيت دلائل النبوة: بداية يجب الإشارة إلى أن هذا الكتاب كالذي سبقه لم يكن مخصصا للجدل مع أهل الكتاب ، ولا لنقد كتبهم المقدسة ، فقد كان الغرض من تأليفه إثبات وتأكيد صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالبراهين والحجج المختلفة .

وتظهر صلة الكتاب بما نحن بصدده من عرض لجهود علماء المسلمين للرد على أهل الكتاب في هذه المرحلة الممتدة من القرن الثاني إلى القرن الرابع الهجري، حسب مايعتقده أيضا ‘د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’ من جهة «أن القاضي عبد الجبار كان مهتما بالرد على من ينكر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، من هنا جاء حديثه – في مواضع متفرقة – عن النصارى ، ودينهم ، وعقائدهم ، ومذاهبهم ، وفرقهم ، معتبرا أن ما ذكره محمد صلى الله عليه وسلم عن النصارى ومعتقداتهم هو بعينه ما تعتقده فرقهم الثلاث الكبرى ، مما يعد – عنده – من دلائل نبوته ».[5]

وبين ثنايا القضايا العديدة التي تناولها القاضي عبد الجبار في هذا الكتاب والمتعلقة بتثبيت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، تبرز بعض القضايا ذات الصلة بأهل الكتاب ، فقد ناقش – مثلا – الملابسات التي أحاطت بتدوين الأناجيل وانتشارها ، وقضية الختان ، وقضية لحوم الخنازير ، وقضية نسخ شرائع التوراة وغيرها.  لكن الملاحظة الجديرة بالاهتمام  في هذا الكتاب أنه يتميز بميل القاضي إلى الاستشهاد بالنصوص الإنجيلية كثيرا، على عكس منهجه السابق في كتابه  “المغني” ، رغم أنه يتبين للقارئ أن القاضي عبد الجبار لم يطلع عليها بنفسه ، وإنما اعتمد على ما سبق أن ذكره غيره من المؤلفين في كتبهم.  ومع تقديري لأهمية الاطلاع الشخصي على النص المراد نقده ، فإن هذا لا ينقص من القيمة العلمية للكتاب ومؤلفه .

ومما يلاحظه القارئ أيضا أننا أدرجنا كتابي القاضي عبد الجبار ضمن مؤلفات القرن الرابع الهجري، رغم أنه عاش خمس عشرة سنة في القرن الخامس، فالأمر يعود إلى معرفة تاريخ تدوينها، فحسب ‘د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’ «فإنه قد أملى كتابه هذا – المغني في أبواب التوحيد والعدل – بين عامي 360 و 380 ه، ثم ألف كتابه  تثبيت دلائل النبوة عام ،385 أضف إلى هذا أن الرجل عاش معظم عمره في القرن الرابع ، كما أنه ينقل ويلخص ويهذب آراء شيوخه – كبار رجال المدرسة الاعتزالية – كأبي علي الجبائي وأبي عثمان الجاحظ وأبي القاسم البلخي …وغيرهم ، وكل هؤلاء من رجال الفترة التي يدور الحديث حولها»[6].

وختام القول أن فكر القاضي عبد الجبار، اتسم  بالموضوعية الشديدة والمنهجية العلمية الفريدة ، ولنستمع إلى الرجل وهو يحكي عن مذاهب النصارى بالقول: «واعلم أن الذي يجب أن يحكي من مذاهب النصارى مواضع، ويفصل بين ما اتفقوا عليه وما اختلفوا فيه، وبين ما يمكن تحصيله من مذاهبهم : المتفق عليه والمختلف فيه ، لأن ضبط جميع مذاهبهم يصعب لكون مقالتهم مبنية على أصول غير معقولة وعبارات لا تتحصل معانيها »ص:80 -81 .


الهوامش

[1] للمزيد من البسط في ترجمة القاضي عبد الجبار، يراجع : طبقات المفسرين للسيوطي، تحقيق علي محمد عمر، مكتبة وهبة بالقاهرة،الطبعة الأولى1396هـ/1976م، ص: 59-60 ، وشذرات الذهب، ص: 202-203، و هداية العارفين، ص: 498-499 و معجم المؤلفين ج5،ص:78-79

[2] المغني في أبواب التوحيد والعدل، قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الهمذاني الأسدآبادي (ت415هـ)، تحقيق محمود الخضيري، المجلد الخامس.

[3] هم : النساطرة والملكانية واليعاقبة( انظر التعريف بهذه الفرق في رقم 5 من هذه السلسلة).

[4] للقاضي عبد الجبار كتابآ في الموضوع ذاته وهو شرح الأصول الخمسة ولكن ما جاء فيه مما يتصل بالنصارى لا يخرج عن إطار ما ذكره في ” المغني”.

[5]جهود علماء المسلمين في نقد الكتاب المقدس من القرن الأول حتى القرن السابع الهجري ـ عرض ونقد ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’:  ص: 76-77

[6]قضايا كثيرة تعرض لها القاضي بدون ترتيب ” شغلت في الجزء الأول ص: 148 إلى 210 ، وفي الجزء الثاني من ص: ـ462 إلى 463

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.