قراءة في كتاب: “مدخل إلى التنوير الأوربي” لهاشم صالح
بقلم: محمد بن عليلو
هاشم صالح (1950) كاتب وباحث ومفكر ومترجم تنويري سوري، ويعد من أبرز المفكرين التننويررين العرب. أنهى منحة دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب جامعة دمشق. كما نال منحة دراسية لدرجة الدكتوراه إلى جامعة السربون، وناقش رسالة الدكتورة 1982 عن الأدب والنقد العربي تحت اشراف محمد أركون. يهتم بقضايا التجديد الديني ونقد الأصولية، يناقش قضايا الحداثة وما بعدها…
قام بترجمة الكثير من كتب محمد أركون إلى العربية، فساهم في تعريف القراء العرب به وبأفكاره، وشارك في عدة لقاءات تلفيزيونية عبر محطات عربية وغربية في شرح آراءه (أركون) ونقد الواقع العربي المعاصر.
أما كتاباته فترتكز على مواضيع متخصصة كقضايا التجديد والتنوير والحاثة…من كتبه(معضلة الأوصولية الإسلامية/معارك التنويرين والأصوليين في أوربا/ مخاضات الحداثة التنويرية؛ القطيعة الابستيمولوجية في الفكر والحياة… إضافة إلى الكتاب الذي عليه مدار حديثنا مدخل إلى التنوير الأوروبي.
يقع هذا الكتاب في 266 صفحة، نشر عن رابطة العقلانين ودار الطليعة ببيروت، يدور موضوعه حول العوامل الممهدة لتنوير القرن 18على اعتبار أن تنوير هذا القرن لم يكن أبدا بالأمر السهل وذلك لتزمت الأصوليون المسيحيون ووقوفها في وجهة الحداثة والتقدم، إلا أن الأمر أفضى بتحقيق كاسح للحداثة والتنوير.
وكاتب هذا النص ينظر من واقعه العربي-الإسلامي الذي يعرف الآن نفس الإشكالية (إشكالية التراث والحداثة) الذي طررحت في الغرب منذ القرنين 15و16م. فلا بد منا الخوض في معارك-كما فعلت أوربا- مع التيارات االمحافظة أو كما يسميها هو بالأصولية. ومن اللازم بدرجة أخص قراءة الدي قراءة معاصرة حتى يتسنى لنا تحقيق الحداثة واشراق التنوير. من هنا يفهم أن هاشم صالح انتهج منهج المقارنة في هذا الكتاب، وهذا ما يؤكده بنفسه عنندما قال” أعتقد أن المقارنة هي أساس الفهم والنظر. وقد اعتمدتها منهاجا لهذا الكتاب عندما رحت أتردد باستمرار بين الوضع الأوروبي، والوضع العربي-الإسلامي”.[1]
فترة العصر الوسيط
لم يولد فكر التنوير في أوربا بين عشية وضحاها، أو بمعنى آخر فإن تنوير القرن الثامن عشر مُهد له منذ زمن قديم. لهذا رأى هاشم صالح في نصه هذا أن يتتبع المسار التاريخي لهذا الفكر مبتدئا من فترة العصر الوسيط( موضوع الفصل الأول). وفي هذا الصدد يمكن أن نتسائل: كيف ساهم فكر عصر الوسيط (وهو فكر وسم باللاعقلانية لسيطرة النص)في بناء فكر الأنوار؟
عمرت فترة العصر الوسيط ما يقارب عشرة قرون، إذ يقسمها صاحب الكتاب إلى فترتين. الأولى: من القرن الخامس إلى العاشر أو الحادي عشر. والثانية: استمرت منذ القرن الثاني عشر إلى القرن الخامسأو السادس عشر، لكن لم تكن هذه الفترة كلها ظلام، فالثانية أقل عتمة من الأول، ووعيا بجهود وأهمية هذه الفترة، سخر بعض الدارسين المعاصرين جهدهم لمحور الصورة التي صورت به هذه الفترة، كألان دوليبرا والمؤرخ جاك لوكوف.
فما هي أهم سمات هذه الفترة ؟
إن أبرز ما ميز هذه الفترة(خصوصا الممتدة من ق 5م إلى ق 10م)هو الهيمنة اللاهوتية التي تميزت بنوع من الانشداد والتعصب الفكري الذي يرفض كل اجتهاد أو تأويل، فكان الاقتصار فقط عن الشروحات والتفاسير والابتعاد عن الواقع، فما دام كل شيء في الكتاب فلا مجال للملاظة الطبيعية والاهتمام بالدنيا، لأن ذلك يمكن أن يشغل الإنسان عن دوره الأساسي الذي يعلوا فوق كل الأدوار. فظهر إلى الوجود إنسان مأزوم ومتشائم يسيطر عليه الخوف الدائم من ارتكاب الخطيئة .
لكن هذ الوضع لم تستسلم له كل العقول خصوصا في ق12م وما تلاه، وبعد الانفتاح على العرب، ونشأة الجامعة، بدأت تنمو بذرة العقلانية لتوتي أكلها مع إنسان العصر الحديث إلى أن صار -كما يقول الكاتب – العقل يطالب النقل بالاستدلال على مسلماته ومقولاته. وتجدر الإشارة إلى أن نضع ببالنا الهيمنة للعقيدة الأوغيسطينية الجاعلة من العقل(الفلسفة) خادما للنقل(اللاهوت). وعن هذا نتج بروز اتجاهين: اتجاه تأثر بأرسطو إلى درجة عدم مبالات مايوافق أو يعارض منه الدين. واتجاه ظل متشبتا بالتراث. وفي هذا الجو من التوترات ظهر توا الأكويني (1225/1274م ) ليقلل من حدة هذا التخاصم.
من أهم نقط الخلاف بين فلسفة أرسطو والعقيدة المسيحية قول الأرسطية بقدم العالم وبفناء الجسم …فأخذ الأكويني يميز بين مجال الفلسفة واللاهوت، إذ لا يجوز في نظره الخلط بين حقائقما أي بين الحقائق ذات المصدر العقلي والحقائق المنقولة. وماذا لو حصل التعارض بينهما؟ يقول الأكويني”إن التوافق بين هاتين الذروتين المعرفيتين شيئ مؤكد من حيث المبدإ، وإن يكن غير ظاهر من حيث الواقع… فتوافق الحقيقة أمر بديهي. وبالتالي فمن المؤكد أن الحقيقة التي نتوصل إليها عن طريق الفلسفة لا يمكن أن تتعارض مع معطيات الإيمان. ولكن إذا ما حصل أن الحقيقة الفلسفية ناقضت العقيدة الدينية فينبغي عليها عندئد -أي على الحقيقة الفلسفية- أن تراجع نفسها أو تننتفد نفسها لكي تصبح متطابقة معها” [2]
يناقش هاشم صالح نقطة هامة في النصف الثاني من الفصل الأول تتعلق بمدى مساهمة الفكر العرب في بناء الحداثة الأوربية، فليس من قبل التبجح عندما نقول أن فلاسفة العرب أساتذة أوربا، لكن إذا كان هذا صحيح لماذا تأخرنا رغم تقدمنا؟ ولماذا تقدموا رغم تأخرهم؟ وكيف عرفوا هذا التراث؟
إن النعوت السلبية التي تطلق على العصر الوسيط تحمل ظلما كبيرا في حق العرب والمسلمين، فمن الصواب كما يعتبر الكاتب أن لا نقلد الغرب في تقسيم تاريخهم الفكري، بل يستحسن النظر إلى الفكر العربي بالتحقيب التالي: ممرحلة الإنتاج والانفتاح الحضاري_مرحلة الانحطاط التي تمثل عصرنا الوسيط من ق13إلى 19 ابستثناء شخصيةابن خلدون_ مرحلة النهضة من ق19 إلى منتصف القرن 20_ مرحلة الثورة القومية والاشتراكية بقيادةجمال عبد الناصر وانتشرت إلى 1970م حيث بدأت تحل الحركات الأصولية ، يقول:”هكذا نجد أن تقسيم تاريخ الفكر عندنا لا يتطابق مع تقسيمه لدى الأوربيين لأن مجريات التاريخ، أو تاريخ أو الصعود والهبوط، ليست واحدة ولا متطابقة في كلتا الجهتين”[3]. بهذا المعنى نفهم أن عصر الظلام الأوربي هو عصر النور العربي ، لكن النور لم يدم علينا بل راح ينير الضفة الأخرى وتركنا علينا الليل الدامس كالحركة الطبيعية للشمس، حينئذ أخذ النهضويين الأوربييين يخرجون عن إرثهم الماضي ليحققو نهضتهم، لكن في عملية بناء هذه النهضة يكمن دور العرب. فرغم أن الغرب يتنكر لهذه المسألة إلا أن يعض الباحثين في تاريخ الفكر الإنساني يدرسونه بمقدار كبير من الموضوعية كألان دوليبرا. لكن كيف كان رد فعل الأصوليين تجاه هذا الكر الدخيل؟
وضع الفكر الأرسطي المقرون بالشروح العربية إضافة إلى ما وصل إليه العرب من حضارة وتقدم تحديا أمام الأصولي المسيحية في نهاية ق 12م ف”كانت أول صدمة إديولوجية قد جات من قبل ابن سينا لأنه كان أول من ترجم إلى اللاتينية (سبق ابن رشد)” [4]، وقبل ابن سينا شكل أرسطو نفسه صدمة للمسيحية بقوله قدم العالم وفناء النفس .
يوظف الكاتب مصطلح “الغزو الفكري”على الفكر الداخل كوصف أطلقته الأصولية المسيحية ضد الفكر العربي، والحال نفسه بالنسبة للأصولية العربية الآن التي توظف نفس المصطلح رفضا للحداثة الغربية، فقد رفض من لدن الأصولية المسيحية في بداية ق 13م الفكر الأرسطي(1210) المقرون بشروحات الفرابي وابن سينا، وهو نفس تاريخ إصدار قرار من المجمع الكنسي بمنع قراءة أرسطو (خصوصا الكتب الطبيعية والميتافيزيقة )، ثم أصدر ثانية عام 1270م قرار الكاردينال روبير دوكورسون، ولم تأخذ هذه الفلسفة الأرسطية-العربية صيغة متماسكة إلا بدءً من سنة 1270م.
وبوجه عام فإن الأصولية المسيحية كانت على توتر من هذا الفكر الدخيل، فمن سمات هذا التوتر يمكن أن نذكر ما ألزم به أساتذة الفلسفة عند مناقشة مسائل قد تبدو أنها تخص الدين، فإن بدا لهم تعارض فلا ينبغي الحسم والانتصار للفلسفة.
انبثاق الأزمنة الحديثة
يأتي بعد العصر الوسيط عصر النهضة، هذا ما اتفق عليه جمهرة المؤرخين. وباعتبار آخر فإن هاشم صالح يدشن هذه الدراسة بعصر النهضة حتى يكمن الوعي بكيفية خروج الغرب من العصر الوسيط( يعيش العرب الآن ما عاشه الغرب خلال القرنين 15و16م).
يؤرخ الكاتب لبداية عصر النهضة من منتصف ق 14م إلى بداية ق 17م أس إلى لحظة جاليللي وديكارت…ولمعرفة سياقها ينبغي الوعية بثلاثة أحداث جسام: الاكتشافات الجغرافية-الإصلاح الديني- تطور النزعة الإنسانية. فما مدول هذه النزعة؟
“ينبغي هنا التفريق بين الصفة واالإسم فيما يخص هذا المصطلح. فصفة الإنسي أو الإنساني اشتقت في اللغات الأوربية منذ القرن 16م، وبالتحديد 1539م. أما كلمة النزعة الإنسانية على هيئة الإسم أو المصدر فلم تشتق إلا في ق19م، هذا مع العلم أن مدلولها كان موجودا منذ وقت طويل، وكانت كلمة الإنسي أو الإنساني تطلق عللى البحاثة المتبحرين في العلم، وبخاصة علوم الأقدمين: اليونان والرمان. وقد ظهروا في إيطاليا أولا، وذلك قبل أن يظهروا في بقية أنحاء اوربا، وكان ظهورهم بين القرنين الرابع والسادس عشر”[5]، وتهدف هذه النزعة إلى تحقيق المثل الأعلى للكمال الإنساني، فهي حركة متفائلة بالإنسان وبقدراته على العطاء والإبداع.
بعد النبذة التعريفية بهذه النزعة، يخوض المؤلف في الحديث عن بعض الشخصيات النهضوية الأوائل الذين اهتموا بفون شتى (الشعر، النحو، الأخلاق…) ليس بغية خدمة الكتاب المقدس وفهمه، بل من أجل إعطاء صوة مثلى للإنسان، فيتفق أغلب المؤرخين على أن بترارك الشاعر(1304/1374م) مدشن هذه الحركة، فقد اهتم بالأدب القديم حتى ولع به وبكل ما يعبر عن الإنسان.فبلجوئه إل التراث اليوناني/الروماناي فتح للنهضوين شهية هذا الإرث وتذوق مضمونه وجماليته، فبترارك يخلص إلى موقف يؤكد على ما يلي:”ينبغي أن يكون الإنسان ومشاكله الموضوع الأساسي للفكر والفلسفة. وهنا تتجلى نزعته الإنسانية الحقيقية”.
يأتي في الكتاب بعد بترارك شخصية لورانزو فالا (1407/1457م) الذي أُثر عنه أنه كشف عن زيف وثيقة كنسية مدعوة ب”هبة قسطنطين”والتي تحمل ما مضمونه أن الإمبراطور قسطنطين وهب البابا سلفستر حق امتلاك روما وإيطاليا، ويكون بهذا”قد سحب كل مشروعية دنيوية أو زمنية تحت أقدام الكنيسة”[6]. أما الهولاندي إيراسموس(1469/1536م) فقد ترك في سن الرابعة عشر حياة الرهبنة (لكن لا يعني أنه ترك الدين ككل) ليُخرج فكره من محاصرة اللاهوت، فأراد لنفسه الخروج من المماحكات الجدالية العقيمة للعصر الوسيط.
أخيرا اختتم الكاتب الفصل الثاني بالتطرق إلى شخصية مشهورة تدعى جيوردانو برونو1548 /1600م، فقد تعلم هذا الأخير في دير وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وفي الوقت نفسه أخذته روح العصر لإطلاع عل الفلسفة اليونانية، فاركزت في نفسه بعض الشكوك فيما يخص تعاليم الكنيسة، فأصدر بمحاكمته، ففر إلى إيطاليا. أما اعتناقه للبروتيستانتية جلب عنه سخط الكاثوليك، فغادر فرنسا نهائيا عام 1585م. فابتدأت عندئد مأساة برونو ولم تنته إلا بإعدامه حرقا، وقيل أنهم بتروا لسانه قبل حرقه. ويمكن أن نذكر بعض أفكاره فيما يلي: القول بلاتناهي العالم _أزلية العالم_خلود المادة_تجي الله في الطبيعة…
أزمة الوعي الأوروبي والقطييعة الابستيمولوجية الكبرى
من ثمار عصر النهضة أنه تم إعطاء صوة مثلى للإنسان تأخذ في الحسبان عدة أبعاد، لا البعد الروحي الذي وضعه في قالب الزهد واحتقار الدنيا، أضف إلى ذلك الانفتاح الثقافي …ومن جملة ما تم اسبعاده وتجاوزه أيضا تلك اللصورة التي رسمها أرسطو ومن بعده في القرون الوسطى للعالم، فمن كوبرنيك ومرورا بكبلر وبرونو إلى نيوتن تم إرساء صوة جديدة للعالم. هذه بعض المعومات وغيرها مما سيذكر لاحقا يعتبرها صالح أنها الممهدات أو الأساس الذي بني عليه تنوير القرن 18م. فما دلالة هذا التنوير؟ ومن هم أهم براعمه؟كيف كان رد فعل الأصوليين تجاهه؟
يسير هاشم صالح على نفس المنوال الذي وضعه الباحث البلجييكي رولان مورينييه على أن تسمية الأنوار تعود إلى العصر نفسه، ومصطلح الأنوار هو مصطلح ديني قبل أن يكون فلسفي، يقول الكاتب ناقلا عن هذا البلجيكي “ثم استمر هذا المفههوم الدبني طيلة العصور الوسطى في كتابات اللاهوتيين المسيحيين وأصحاب التقى والورع، وهو يدل على الوحي المنير أو الإشراقي الذي يضيء للإنسان طبيعته”[7]، وقد استعمل ديكات هذا المصطلح عندما تحدث عن النور الطبيعي وكذلك لايبنتز ومالبرانش. ثم راح المصطلح يتحرر من الدلالة الدينية لكي يدل على عصر بكامله، حتى أصبح -خصوصا في النصف الثاني من ق 18م -يشبه القاعدة أو الشعار، ويعود ذلك إلى حدث رئيسي ألا وهو إصدار موسوعة لمجموعة من الأنواريين تحت إشراف ديدرو (1713/1784م)، ويمكن أن نجمل الروح العامة للتنوير فيما يلي:
شعور الإنسان بالحاجة نحو التغيير وعدم الركون إلى المعرفة التقليدية، إذ أصبح الارتكاز على العقل لا على أساس ما تفرضه النصوص التأسيسة للعقيدة المسيحية، وهذا لا يعني الخروج على الدين ، بل كل ما في الأمر هو إعطاء وتوليد مفهوم جديد للدين وتأويله على نحو عقلي يتلائم مع متطلبتات العصر. لكن كيف كان ردـ فعل الأصولية تجاه هذا الفكر الجديد؟
من العلامات الدالة على موقف العداء إنشاء ما يسمى بمحاكم التفتيش منذ 1233م بأمر من البابا غورغريوس، فأنيطت لهذه المحاكم مهمة ملاحقة كل من وقع في شبهة، فركزت على الكتب العلمية والفلسفية، فسيق جمع غفير من الشخصيات ذات الفكر المخالف، نذكر منهم: يوحنا هوس وبرونو وجايلو…، فمنهم من تاب ومنهم من ألقي طعما للنيران .
رواد التنوير الأوائل
لقد مهد جمهرة من المفكرين والعلماء بأفكارهم الجريئة الطريق لفلاسفة القرن 18م، وهذا يعني أن تنوير هذا القرن مدين لما قبله. وفي هذا الفصل وقف الكاتب عند أربع شخصيات(بايل، غاليليو، بوسويه، اسبينوزا)، لكن وعيا منا بضيق الوقت، اقتصرنا الحديث عن المشهور منهم.
1-جاليليو : مما هو معلوم أن الكنيسة لم تقف عند الشأن الديني، بل أرادت لنفسها السيطرة على كافة المجالات، وهذا بطبيعة الحال أمر لم يكون مقبولا من طرف الجميع خاصة العلماء أو الفئة المثقفة، فصاحبنا هذا (أي جاليليو) ظهرت له فروق بين مجال الاهوت ومجال العلم. فالكتاب المقدس يعلمنا الحقائق الروحية لا العلمية. يقول جاليليو:”لا يمكن للكتابات المقدسة أن تكذب أو تخطئ[…]ولكن أولئك الذين يفسرونها أو يؤولونها يمكن أن يخطئوا بأشكال شتى[…]. ينبغي أن نعلم أن الكتابات المقدسة والكتابات الطبيعية تصدر كلاهما عن الكلام الإلهي. فالأولى ملهمة من قبل روح القُدس، تنفّذ بكل دقّة القوانين التي أقامها الله في الكون. إن الكتاب المقدس يتماشى مع فهم عامة الناس[…] كما ويستخدم مفردات ليس هدفها النص على الحقيقة المطلقة في مجال العلوم. ولكن الطبيعة تخضع بشكل صارم ودقيق للقوانين التي زودت بها”[8] ، وقد أدرج بهذا الموقف ضمن لائحة المغضوب عليهم، ولم تصحح الكنيسة موقفها منه إلا بعد انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني عام 1962م.
2-باروخ اسبينوزا: يعد هذا العلَمُ من أكبر الأعلام الذين لاقوا اضطهاضا بسب فكره الحر المنتقد. فقد ولد 1636م في هولندا من أسرة مهاجرة من البرتغال[9]. دخل مدرسة بأمستردام وتعلم فيها اللاتينية(لغة العلم)، واطلع على ماكتب بيكون وهوبز وديكارت على وجه الخصوص توفي1677م.[10]
يعتبر اسبينوزا من الفلاسفة الديكارتيين، بل هو أكثر عقلانية من أستاذه. وتعتبر مسألة نقد الكتاب المقدس من أهم المسائل التي اهتم بها. وقد عرض لها في كتابه رسالة في اللاهوت والسياسة “وهو الكتاب التأسيسي الذي يشكل قطيعة في تاريخ الفكر الغربي، بل والبشري لأنه تجرأ لأول مرة على دراسة الأديان من وجهة نظر تاريخية”[11].
يظهر اسبينوزا في هذا الكتاب أنه عمل على تفكيك النظامين معا: النظام اللاهوتي والسياسي. أما من حيث الأول يرى أن اللاهوت سيطر عليه رجال لا يرون فيه إلا خدمة لمصالحهم، ويسيطرون على عقول الناس باستخدامهم لما يسمونه ب”المعجزات”. وأما من حيث الثاني فإن قادة الناس وحكامهم استغلوا مصالح الناس بتوظيفهم للاهوت. فاسبينوزا لم تكن له مشكلة مع المقدس في ذاته، بل مع القراءات الأوصولية المتعصبة الرافضة لكل قراءة أو تأويل لغيرها. فإذا ما أردنا قراءة الكتب المقدسة فإنه “ينبغي أن نقوم ببحث تاريخي شامل لكي نتعرف بشكل دقيق على أنبياء التوراة وعصرهم وبيئتهم. كما ينبغي أن ندرس اللغة العبرية بطريقة تاريخية دقيقة لكي نفهم نص الكتاب المقدس. فهو نص مكتوب بلغة طبيعية أي بشرية مثله في ذلك مثل أي نص آخر”.[12]
فولتير منارة التنوير الأوربي
يعتبر فولتير(1694/1778م) من أشد الناس المنتقدين للتعصب الديني، بل كان غرضه الدفاع المضطهدين لأسباب دينية أو فكرية، لأن ما تفعله الكنيسة يبعد بكثير عن ما يدعوا إليه المسيح من حياة الطيبة والصبر والتسامح. وتصوره هذا سيجلب عنه بلا شك سخط خصومه، لكن هذا لا يعني أنه ضرب عن الدين صفحا كما فعل ديدروا، فقد كان يؤمن بالإله الخالق المهندس والمعاقب والمجازي للإنسان غير أنه إيمان مفروغ من كل الطقوس والشعائر التي لا تصلح إلا لعامة الناس. وبالجملة فإن فولتير نهض ضد التصور الذي قدمه الأصوليون عن الله، وعن فكرةالخطيئة الأبدية…
لقد كان فولتير معجبا مما يسود خلال عصره عند الإنجليز من قلة خفة الضغط والتعصب الديني عكس ما يوجد في فرنسا، فكان بهذا يعتبر انجلترا هي الجزيرة التي يجد العقل فيها ضالته، وعن هذا الإعجاب -كما يقول الكاتب-نتج كتابه “رسائل فلسفية”1734م. وقد لاق فولتير عن هذا الكتاب متاعب حتى صدم بخبر القبض عليه ففر من الأرض الفرنسية.
إن هيمنة الوعي الأصولي المستبد كان يقف عائقا أمام تطور حركة التنوير، لأن البوح بغير المعتاد أمر في غاية الصعوبة. ويظهر ذلك بجلاء تأخر عملية نشر كتب هؤلاء المفكرين. فكان اسبينوزا مثلا غالبا ماينشر كتبه بدون توقيع وكذلك فولتير في كتابات شبابه…، لكن سيذاع صيتها من بعد. أضف إلى ذلك لاقه بعض المفكرين من اضطهادات وإدانات …
الدين في عصر ما بعد الحداثة
إذا كان العصر الوسيط هو عصر الانتصار للدين وسيطرة الكنيسة على كافة المجالات، فإنه بدءا من عصر النهضة ومرورا بفلسفة الحداثة إلى ما بعد الحداثة سيعاد قراءة هذا الدين قراءة تلائم روح العصر، إضافة إلى فصله عن المجالات الأخرى رغم الصراع الحاد من لدن الكنيسة. فماذا نقصد بالحداثة؟ وما أهم سماتها؟
“يرى هانز كونغ[13] أن كلمة “حديث”قديمة ولكنها لم تستخدم للدلالة الإيجابية […] إلا في بداية عصر التنوير أو قبله بقليل”[14]. ففي فترة النهضة كانت تدل على النظرة إلى الخلف لا إلى الأمام. معنى ذلك أن حداثة فترة النضة تتمثل في إحيائها للتراث اليوناني/الروماني باعتباره إرثا يعطى صورة مثلى للإنسان. لكن القرن 17م سيستخدمه ويروج له لأن الإنسان أحس بالتفوق حتى على اليونان والرومان، وذلك بعد النجاحات التي حققها العلم والفلسفة على يد كوبرنيكوس وغاليليو وديكارت.
إن من اهم سمات الحداثة تغليب العقل على الإيمان والفلسفة على اللاهوت، حتى كاد الدين أن يختفي ليس إلا، نظرا لطغيان الاهتمام بالدنيا أكثر وما نتج عن ذلك من تقدم في المجال العلمي والتكنولوجي في القرنين 18و19م. لكن سيتلقى الغرب بها التقدم (التقني والتكنولوجي) ضربة قوية تمثلت في الحرب العامية لأولى والثانية. وهذا ماجعل هانز كونغ يوؤرخ لما بعد الحداثة من 1918م.
إذا كان هذا مايميز الحداثة، فما المقصود بما بعد الحداثة؟
اهتم مجموعة من مفكري القرنين 20و21 كفوكو والأن تورين وهانز كونغ…بنقد الحداثة واعتبارها مشروع غير مكتمل من قبل آخرين(يورجن هابرماس). وترجع أُبوة مصطلح ما بعد الحداثة-كما يرى الكاتب- ترجع ترجع إلى الفرنسي جان فرانسو ليوتار وذلك بنشر كتابه “وضع ما بعد الحداثة” سنة1979م، لكن كونغ كما أشرنا سالفا يرجع ذلك إلى سنة 1918م.
لم يهمل هانز كونغ منجزات الحداثة، بل كل ما في الأمر أنه أعاد الاعتبار للدّين الذي غيبته هذه الحداثة من ساحتها. فينبغي أن يعاد هذا الدين إلى الساحة وأن يحظى بالتحليل مثله مثل السياسة والفن والمجتمع، فإعادة الاعتبار لمسألة الدين ستنقذ الحضارة الغربية من المأزق الذي وصلت إليه “فالأزمة الحالية هي أزمة روحية أو أخلاقية قبل كل شيء”[15]. بمعنى أن من أكبر تجليات تجليات أزمة الحداثة فقدان الإنسان للإيمان ولم يعد يعرف كيف سيرجع إليه.
يمكن أن ننظر إلى التنوير أنه مشروع حديث في الفكر العربي الإسلامي، في حين أنه أصبح قديما عند الغرب، فيعتبر بدوره تراثا يتطلب الغربلة والتمحيص والنقد، لكن رغم ذلك ينبغي أن نعلم أن عصر التنوير هو الذي نفخ الروح في العالم الأوربي وقدم له الأمل الباسم.
وأخيرا،
هل فعلا يسبقنا الغرب بمدة لا تقل عن ثلاثة قرون على اعتبار أننا لا نزال في صراع مع التيرات المحافظة(الأصولية)؟ وهل تقليد الغرب في طريقة معاملته مع الأصولية تنفعنا رغم تطور الزمان واختلاف المرجعيات؟ ؟ ؟
والله ولي المتقين.
[1] انظر صفحة 48
[2] ص38
[3] ص 44
[5] ص75
[6] ص95
[7] ص139
[8] ص174/175
[9] كانت هولندا تتمتع باليبرالية وتؤمن بالتعددية الدينية والمذهبية أكثر من غيرها، خصوصا اسبانيا والبرتغال.
[10] للإطلاح على تفاصيل حياة اسبينوزا وفكره ينظر اسبينوزا والاسبينوزية، بير فرانسو مورو، ترجمة جورج كتورة (دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، لبنان، ط1، 2008).
[11] مدخل إلى التنوير الأوربي، لهاشم صالح، ص187.
[12] نفسه، ص 213
[13] لقد اعتمد عليه هاشم صالح كثرا في هذا الفصل
[14] صفحة 240
[15] ص244