من وحي الدرس التركي: جدلية الدعوة والسياسة لدى الحركة الإسلامية
د. عبد القادر الدحمني
من وحي الدرس التركي:
جدلية الدعوة والسياسة لدى الحركة الإسلامية
د. عبد القادر الدحمني
تعيد الانتخابات التي جرت في تركيا تحيين العديد من الأسئلة والقضايا المرتبطة بوصول الحركة الإسلامية ومدارسها المختلفة إلى الحكم، والصيغ والأشكال والتجارب المختلفة التي خاضتها في تدبيره والتعاطي معه، سواء آلت التجربة إلى مسار تراجيدي أحكمت فيه القبضة العسكرية والأمنية سيطرتها على زمام الدولة وأدخلت معارضيها إلى السجون وشتتهم في المنافي (مصر)، أو إلى مسار اضطرت خلاله الحركة الإسلامية إلى الاجتهاد وفق منطق السياسة القائم في البلد، فانحنت ولفّقت ولانت، وجوّزت لنفسها دروبا، خففت عنها وطأة ما سمي بالدولة العميقة، وإن لم تجنّبها الالتفاف وإعادة اللعبة إلى مربعها الأول، عبر التجريم والمحاصرة والشيطنة المستمرة (تونس)، أو كان وصولها شكليا وهامشيا صورته الدعاية الإعلامية فتحا واستثناءً (المغرب)، في حين تبيّن بعد فترة وجيزة أنها مجرد مناورة لمسايرة موجة الربيع العربي، سرعان ما تخلّت الجهات المدبّرة عنها بطريقة مذلّة بعدما تم تحميلها العديد من الانتكاسات والقرارات المؤلمة للشعوب والمعاكسة لكل شعارات الحركة ذاتها.
طبعا، لا يمكن أن نعلق الأمر برمته على “المؤامرات” الخارجية، ومكر “الحكومة العالمية” بتعبير الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي، ولا يجب في الآن نفسه، استبعاد حضور العامل الخارجي ودور السياقات الإقليمية التي تختلف تأثيراتها ومدى قوتها من تجربة إلى أخرى، ولذلك ينبغي مساءلة الشروط الداخلية أولا ومقاربة المدخلات التصورية والعملية ابتداءً، أي النظر في العامل الذاتي بغية توزينه وإحكامه وتمتينه.
فإلى أي حدٍّ تسير الحركة الإسلامية فعلا وفق المنهاج النبوي في حركته الراشدة المنصورة وعدا من الله وتوفيقا؟
وكيف يمكن للحركة الإسلامية أن تفيد مما جرى لها وأمامها من مطبّات وأخطاء ومفاوز ومنعطفات؟
أليست المجريات التاريخية صفحة مفتوحة للقراءة والنظر، ومدرجة إلى الدّربة والنضج، ومرقاة نحو التأهيل والرشد؟ !
هل تصبح اللعبة الانتخابية ذات الطابع السياسي التدبيري البشري المعرضة للضعف والخطأ والانحراف بوصلةً تستهدي بها الدعوة، واستفتاءً يرهن حركة الإسلام بحركة حزب سياسي؟ أم أنه يتوجّب على الدعوة أن تحتاط لأفقها وبوصلتها ومسارها، من أن ترتهن لمسقبل أشخاص ورموز سياسية، تسقط بسقوطهم، ويتحدث المتابع المسكين، عن أن مستقبل الإسلام في خطر إن خسر حزب إسلامي ما الانتخابات، أو ضَعُفَ أداؤه، أو تعرَّض لانشقاق وانكسار، أو سيم المَكْرَ الكُبّار.
الدعوة أعمق، وحركتها أشمل. فإن تراجع حزب أو سقط في لعبة انتخابية قانونها التنافس الشريف، فَلْيَعُدِ الحزبُ إلى تصفح أخطائه، ومراجعة حساباته، وتنضيد رؤيته، وتجديد أدواته، فليس العيب في الإسلام، وإنما في صيغة فهمته، وشكل تمثّله، ومستوى الإرادة في التعاطي مع بواعثه ومقاصده، ودرجة التشبُّع بروحه واستيعاب كنهه وجوهره.
وإنما الخوفُ من زيغ النّيّة وتشوُّشِ القصد، ورفع التوفيق، لنقص وعيب وسقوط حظٍّ لم يستوفِ تمام العبودية لله تعالى، وكمال اللُّجإ إليه عزّ وجلّ، وضاع وراء الإعجاب بالكَثرة وقوة التنظيم، وتناطُح الأسباب في غفلة عن مُسَبِّبِها وخالِقِها سبحانه وتعالى.
الحركة السياسية بميزان الأبعاد الأرضية التدبيرية، تخضع للعقل وعمق قراءة الواقع، وحسن التخطيط، ومهارات المناورة، والقدرة على بناء التحالفات، وحسن توظيف الزمن والتوقيت. نعم.
لقد اعتبر العديد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم صلح الحديبية تنازلا ووجدوا في أنفسهم حزنا شديدا وإهانة لقوّتهم واستعدادهم، من حيث استشعارهم الاستعلاء الإيماني بالحق وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الحكمة النبوية الشريفة علّمتهم، كيف يمكن توظيف الزمن، وتثبيت الأساس، وجعل هذين الأمرين مفتاحين كبيرين للنصر، فعشر سنوات، كانت كافية لتكون دعوة الإسلام كالماء الذي يفيض من كل جانب، فغيرت المعادلة بشكل كلي، بعد أن كانت تُقرَأ على أنها خضوع لشروط مجحفة.
فَلْتَلُمِ الحركةُ الإسلامية نفسها، على التفريط في حركة الدعوة، وقصور الهمة والروح، عن إحداث الأثر اللازم، وتغيير المعادلة في الميدان، ولا يجوز التعلُّلُ دوما بإكراهات القمع والحصار والتضييق ورعاية إفساد المجتمع، فإن ذلك من لوازم حركة المدافعة وسنة من سنن الله تعالى في خلقه وأرضه.
لقد مضى على مسيرة الحركة الإسلامية حين من الدهر كان أمرها منجمعا لا تفرِّقُ فيه بين جهاد الدعوة وجهاد الاعتراض على الظلم والتبشير بغد العدل والدين، وكانت التربيةُ تحوزُ مساحةً تتقلصُ وتتمدَّدُ حسب تنوُّعِ مشارب القادة ودرجة ربانيتهم، وتتأثر عمقا أو ضحالة بغلبة منطق الساحة أو حجم الانتشار وسرعته.
ويبدو أن هذين العاملين كانا حاسمين في بروز إشكالية العلاقة بين التدبير السياسي والتدبير الدعوي، وبدأت تظهر أصوات وتنظيرات تريد أن تقيم فصلا قاطعا أو متقطّعا بين حركية الدعوة وخطها العام، وبين حركية السياسة ومنعرجاتها وتقلباتها، ويبدو أن كلا المجالين ظلا يتجاذبان مساحة الاهتمام والتأثير والأولوية داخل تنظيمات الحركة الإسلامية؛ إلى أن برزت تجارب تحولت فيها الحركة برمتها إلى حزب سياسي صرف لا يتعدى أفقه خطوطا رؤيويةً عامةً تتحدث عن ضرورة احترام الهوية والتشبث بالأصالة وحماية الخصوصية الحضارية.
فهل يمكن إيجاد صيغة يشتغل فيها الجهاز السياسي بالتوازي مع عمل الدعوة الذي يُعَدُّ أُمًّا حاضنةً وبوصلةً هادية ومظلةً أخلاقية منقذة؟ ألن تُتْعِبَ الوصايةُ مبادرات الفعل السياسي، وتثبّطَ الرزانةُ التربويةُ الدعويةُ حيويةَ العمل السياسي وسرعتَه وتحدّ من فعاليته؟ ألا توجد صيغٌ معينةٌ كي يتحرر الفعل السياسي من ثقل الخضوع والمتابعة اللصيقة والوصاية المرهقة؟
وفي المقابل: كيف يحافظ العمل السياسي الإسلامي على سُمُوِّ بواعثه وعلوِّ مقاصده وأساسه الأخلاقي على مستوى الأفراد والمؤسسات؟ حتى لا يندثرَ الباعثُ ويتلاشى القصدُ وتنحدرَ الأهدافُ، فإذا بذلك الملتحي وتلك المحجبة، اللذان ملآ الأسماع بالشعارات والوعود، قد طبّعا مع الواقع الهابط، وخضعا لسطوته، وبرَّرا الانتكاسَ والعجز، وتشرَّبا ما هنالك من أطماع وهواجس، ودخلا من حيث لا يحتسبان في معادلات المحافظة بدل التغيير، والمصالح الضيقة بدل مطالب الشعب، وخدمة السمعة والمنصب والعائلة والقبيلة بدل المبادئ والقيم؟؟؟
تحديات ورهانات، قد تتيه بالتصور الإسلامي في دروب المحلي الضيق والأفق الزمني المحدود، وتشرد بالخطى الحركية والسياسية في مُعاركة اليومي المفتعل في الكثير من ألعابه، فإذا بالقصد الأكبر، مجرد منافسة على تجويد التدبير السياسي لحكومات متعاقبة تخدم الرؤية الاستراتيجية لحكام مستريحين في مقاعد السلطة الشمولية البعيدة عن المحاسبة، فلا تغيير يرجى ولا صناعةً للتاريخ، وصوتَ للدعوة إلا من حيث كونُها تبريرا للركوب، وترميما للشرعية، وزينةً للتسويق الشعبوي المتلصِّص على المخزون الروحي الإسلامي للشعوب.
ومن جهة أخرى، ما قيمة تصويت الناس واستحسانهم لإنجازاتك ودوام تصدّرك للانتخابات وحيازتك للمناصب، إن لم تصمد إلى أهدافك، فتنتشر دعوتك، ويكثر حاملو مشروعك المؤمنون به الساعون لتبلغيه؟ إن كان من قِبَلِ الإنجاز السياسي الانتخابِي من مكاسب، فإنما هي توسيعٌ لدائرة التعاطف، وإعطاء بعض الجدوى والبيان لكل مشكّك، لكنّ ذلك، لا ينفع شيئا، إن لم تسرِ التربية في النفوس والأرواح، ولم تتغلغل الدعوة في المجتمع، وتتألف القلوب وتتواشج الإرادات، على خدمة المشروع المجتمعي في كليته، من حيث هو تعبيد الناس لمولاهم، وتنظيم لشؤونهم على منهاج نبيّه صلى الله عليه وسلم، وتثبيت للآخرة في أعماقهم وجعل لقاء الله تعالى نصب أعينهم ومهوى أفئدتهم.
فإن أطربنا إنجاز سياسي هنا، أو فوز انتخاابي هناك، فإنما هو باب لتعطيف القلوب، وبناء الحجّة، وامتلاك مفاتيح مخاطبة الناس، وما عدا ذلك، فالمعوّل على عمق التربية وفعل الدعوة الصامد إلى غايته.
فهل يتكئ الإسلاميون على الإنجاز الدعوي والانتشار الأفقي القاعدي، ويهملوا الإنجاز وإتقان التدبير، في عصر لا يؤمن أهلُهُ إلا بلغة الاقتصاد والأرقام ونسب النمو، فيكون الفشل في ذلك مدعاة للتشكيك في الدين برمته؟ أم تراه ذلك الانتشار والولاء ضامن لاستمرار التعاطف رغم أي فشل؟ !
الدرس التركي يقول غير ذلك، وإن كانت العوامل كثيرة ومتداخلة. فشرط الإنجاز، والنجاح في التدبير، وتقديم الدليل المادي الرقمي على حصول التقدم، وتغيير الأوضاع بالملموس المحسوس، عامل أساسي وحاسم لدى شعوب، لا تنفك أن تفكّر، من داخل الخبز وحده، وحُقَّ لها ذلك، ما دامت لم تذق بعد حلاوةَ الحرية أيضا، ولم ترتق بعد إلا حلاوة المبدأ وكرامة العبودية الحقة لله وحده.
إن كان من المعقول التعويل على النخبة الراسخة الولاء لحركة الدعوة وتيارها السياسي في مسارات المدافعة السياسية، فإنما يقوى ذلك الرهان يوم ترتقي بواعث عامة الناس، بالتربية والصحبة وبالروحانية العالية المبثوثة، إلى استكمال الوعي، وتخليص الولاء، وابتغاء الدار الآخرة.
ولا مناص في انتظار ذلك اليوم، من الحرص كل الحرص على تجنب مطبّات التدبير، ومكر المنسحبين التاركين أهل الدعوة في مواجهة جبال المشاكل الموروثة. لا مناص من حكمة تحمل المسؤولية بقدر الجهد، والاقتدار، فإن الشعارات لا تشبِعُ جائعا، ولا تحرّر مُكبَلا. العبرة بالإنجاز والنزاهة، ولا شيء من ذلك يتأسس على أرضية صلبة سوى بالتعلُّم المتواضع، والإعداد الجيّد، والاستقامة على الصلاح.