أحبار وأفكار من كتاب الرسالة العلمية[1]
من عادة جِلة العلماء كتابةُ رسائل ووصايا لطلبتهم في الحث على طلب العلم النافع المنشئِ للعمل الصالح تعلماً وتعليماً وتخلقاً، فلا غناء للطالب المجدِّ من قراءتها بل وتمثلها شحذاً للهمم ودفعاً للكسل والخمول، ومن أمثلتها، “رسالة أيها الولد” الغزالي ، ونصيحة الإمام الباجي لولده”، و”جامع بيان العلم وفضله” لابن عبدالبر، و”زغل العلم” للذهبي، وكتاب “الحث على طلب العلم والاجتهاد في تحصيله” لأبي هلال العسكري …
لم يخرج الإمام المجدد عبد السلام ياسين عن هذه السلسلة النورانية المباركة لعلماء الأمة الذين أسَّسوا برسائلهم علوم ومعارف أصيلةً، والتي عليها العمدة عند كل متخصص وأكاديمي، فكتب رحمه الله كتاباً صغير الحجم عظيم القدر وسَمه “بالرسالة العلمية” .
1. السياق والمساق
كتبت الرسالة ليلة الأحد 24 رمضان 1417ه 1997م، أي في سنوات الحصار، سنوات الذكر والفكر والنظر والتأمل، حيث أرادها رحمه الله، وهو الفارس الخبير بمناهج البحث والكتابة وصاحب كتاب”كيف أكتب إنشاءً بيداغوجيا”، خاليةً من الفصول المحاور، واكتفى فيها بفقرات مرقمة كأنها توصيات أو خلاصات للباحثين في العلم دون حشو أو استطراد، فهي بمثابة شراكة علمية تعاقديةٍ على مفردات وبنود واضحة الدوافع، حتى تبقى رسالةً شاهدة دالة مختصَرة، واصفةً للمقصود ودالة على المطلوب.
رسالةٌ متوجهة إلى النخبة من المثقفين والمهتمين بقضايا التغيير والتجديد، وأصحاب الهمم العالية من الطليعة العالمة.
رسالةٌ يستشف الناظر لما وراء سطورها إلى أن الشأن العلمي يحتاج توجيهاً وتصويباً وإرشاداً، وأن هناك بناءً علمياً راشداً ينتظر إنضاجه على نار هادئة، باستشارة موسعة مع المعنيين، بوضوح تام لا لبس فيه، لأنه شأو يتعالى عن المدرسة أو التنظيم، إنه هم أمة ومستقبل دعوة،ف التمكين لمستقبل الإسلام لا ولن يتحقق إلا عبر تمكين علمي، مؤسَّس على رؤية واضحة، ومحجة لاحبة.
2. مقاصد التأليف
ذكر الإمام رحمه الله مقصَده الأسنى تصريحاً، فقال “قصدي من رسالتي إليكم هذه أن أشارككم في الاهتمام بالبحث عن أقوم السبل لأداء وظائفنا التعليمية التربوية الدعوية البنائية”[2]، ثم جعل المقاصد التبعية كامنة ومتناثرة في فقراتها المعدودة.
*مقاصد تبعية تتعلق بالعلم ومضمونه وطبيعته:
- مركزية القرآن الكريم في كل عمل علمي راشد “القرآن، القرآن، القرآن، أن يشد المؤمن والمؤمنة معاقد العزم ليحفظ القرآن ويجمعه ويحافظ عليه”[3].
- الاستمداد المباشر من المصادر المؤسسة : القرآن والسنة
- ضرورة الاجتهاد المجدد المؤسس على أسس علم أصول الدين وأصول الفقه وفروعه ، والباني على الموروث الفقهي لمن سبقنا بإيمانٍ وعلمٍ احتواءً وتجاوزاَ،” نستصبح بهدي السلف الصالح، لكن نأخذ و نتأمل كل ما دون قال الله وصح عن رسول الله صلى الله علىيه وسلم “[4] .
- استحضار فقه الواقع درايةً وابتكاراً، وفقه الأولويات فهماً وإعمالاً وتنزيلا، والانفتاح على العلوم الكونية ومواكبة التطور العلوم،” يلزمنا مواكبة ما ينكشف عاما بعد عام، بل يوما بعد يوم، من آيات الله في الآفاق والأنفس”[5].
- علم يربط الدنيا بالآخرة، من أجل إسماع الفطرة وإيقاظ الانسان من غفلته والتذكير بمصيره بعد الموت.
– مقاصد تبعية تتعلق بالعالم ومواصفاته “من الروح العلمية إلى روح العلم”
- ضرور التسلح بالعُدّة العلمية التي لا غنى للعالم المجد من اكتسابها، فهي الروح العلمية، لكن ذلك ليس هو روح العلم، روح العلم هي معرفة الله والدلالة عليه والقيام بالقسط، “العلم -العلم بالله وبشرع الله أولا- من المهد إلى اللحد وإلا انغلقت وانتهيت وختم على عقلك بالعقم. كن عالم مسجد و واعظ حلقة وجليس عامة، ومربي ناشئة. لا تكن عالما نخبة، متسربلا في كبرياء مكانته. نعوذ بالله من شيطنة الكبرياء”[6].
- حاجة الأمة إلى العالم الرباني، إلى العالم الداعية، العالم المسكون بهمّ الرسالة والبلاغ وطلب الكمالات، فالتخصص العلمي والأكاديمي مشروع عًمر، والأساس التربوي الخلقي آنية صفاءٍ تشٍّع نورانيةً على القلوب قبل الأسماع، والنَفَس الجهاديٌّ ينقل الكمَّ المعرفي من التنظيرٍ إلى التطبيق العملي حتى يتسنى الاقتداء.
- حاجة الأمة إلى العالم المجاهد القائم بالقسط صدعاً بالحق ومدافعة للبطل ومواجهة للملأ المستكبر، ” كلمتنا القرآن والإسلام؛ في الملأ الفرعوني السياسي، والملأ القاروني المالي، والملأ التجاري الرأسمالي، والملأ (المفيوزي) المخدراتي، والملأ الزنديقي الإلحادي، والملأ العهري المبدع في الفجور، والملأ المؤتمرين في مراكز القرار الدولي والمحلي”[7].
خاتمة
وتبقى الرسالة العلمية للإمام المجددِ بمثابة دستورٍ للعلم، جزءً من مشروع كبير تمثل في نظرية المنهاج النبوي، فالرسالة تفصيلٌ لأحد أسسها ( الأساس العلمي)، و تبيين لمعاقدها، وسبر غور أسسها البانية، كما أنها استنفار علمي شامل، واستشراف لمستقبل الريادة الحضارية الموعودة، “عن جدارة نتقدم إلى موعود الله بالخلافة في الأرض، إن أعددنا واجتهدنا وتعلمنا وعلمنا”[8].
[1] مقتطفات من الحلقة العاشرة من برنامج أحبار وأفكار: كتاب الرسالة العلمية؛ للإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله. تاريخ الحلقة: الأربعاء: 19/05/2021، المشاركون المداخلة المركزية: د/عبد العظيم صغيري: أستاذ العقيدة والفكر لإسلامي بجامعة القرويين بالمغرب/ أستاذ زائر بجامعة قطر،التعقيب الأول: د/أحمد الفراك، أستاذ بجامعة عبد المالك السعدي بالمغرب،التعقيب الثاني: المهندسة حفيظة فرشاشي، أستاذة باحثة في الفكر الإسلامي وقضايا المرأة عضو مجلس أمانة المؤتمر الإسلامي النسائي العالمي.
[2] الرسالة العلمية، عبد السلام ياسين، مطبعة الهلال وجدة،ط1، 2001م، ص11