الأدلة المفتى بها (العامة والخاصة) عند الامام مالك
الأدلة المفتى بها (العامة والخاصة) عند الامام مالك/ كمال براشد
الأدلة المفتى بها (العامة والخاصة) عند الامام مالك
ذ. كمال براشد
الدليل هو عمدة الفتوى، إذ المفتي لا يمكنه أن يصدر أي فتوى دون أن يربطها بالدليل الشرعي المناسب لها، وهو ما عبر عنه الإمام الشاطبي بقوله: (( كل دليل شرعي فمبني على مقدمتين، إحداهما راجعة الى تحقيق مناط الحكم والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي))[1].
فالمفتي يدرس الواقعة التي استفتي فيها يحاول أن يجد لها الحل من خلال المنصوص عليه من الأدلة الشرعية وخاصة من أدلة المذهب الذي ينطلق منه في الإجتهاد و الفتوى .
والمذهب المالكي -على رأسهم الامام مالك رضي الله عنه- ينطلق في فتاويه على نوعين من الأدلة: أدلة عامة وأدلة الخاصة.
الأدلة العامة:
الشرع مبني على النقل في الدرجة الأولى، وعلى العقل في المرتبة الثانية، والفتوى بما هي أخبار عن حكم الله تعالى، فهي تعتمد عليها في الافتاء يقول الإمام الشاطبي:((الأدلة الشرعية ضربان: احدهما يرجع الى النقل المحض و الثاني ما يرجع الى الراي المحض، وهذه القسمة بالنسبة إلى أصول الأدلة وإلا فكل واحد من الضربين مفتقر الى الاخر، لأن الاستدلال بالمنقولات لا بد فيه من النظر، كما ان الراي لا يعتبر شرعا إلا إذا استند إلى النقل))[2].
((والإمام مالك رضي الله عنه كان يعتمد نهج السلف في الأدلة رغم أنه انفرد ببعضهما وسار على نهجه في ذلك تلاميذته المؤسسون للمذهب المالكي،وأنت اذا نظرت لأول وهلة منازع هؤلاء الأئمة، وتقرير مأخذهم في الفقه والاجتهاد في الشرع، وجدت مالكا ناهجا في هذه الأصول مناهجها، مرتبا لها مراتبها ومدارجها… وكان يرجح الاتباع ويكره الإبتداع والخروج عن سنن الماضين))[3].
وإن كان المذهب المالكي يلتقي مع المذاهب الأخرى في أكثر الأصول، فإن إنفراده ببعضهما كعمل أهل المدينة وإكثاره من العمل بالبعض الأخر، كالمصالح المرسلة وسد الذرائع يحدث توازنا بين الأثر والنظر مما يجعله في المرتبة الثانية آخدا بالنظر والرأي بعد مذهب الإمام أبي حنيفة.
وبناء على ذلك سنتناول بالدراسة ما يتعلق بالأدلة النقلية ( القرآن- السنة- عمل أهل المدينة- فتوى الصحابي- الإجماع- مراعاة الخلاف)
ثم الأدله العقلية ( القياس- الإستحسان- الإستصحاب – سد الذرائع- والمصلحة المرسلة والعرف)
الأدلة النقلية:
1) القرآن الكريم:
القرآن الكريم سيد الأدلة وإعلامها، ولذلك اتفق الأئمة كلهم ومنهم الإمام مالك وبإجماع على حجية كتاب الله في المرتبة الأولى دون منازع.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: ((فكتاب الله هو أصل الأصول، والغاية التي تنتهي إليها أنظار النظار ومدارك أهل الإجتهاد وليس وراءه مرمى، لأنه كلام الله القديم ( وأن إلى ربك المنتهى)
وقد قال تعالى:( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة و بشرى للمسلمين) وقال كذلك: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) الموافقات ج 3 ص 43
ومن جملة ما حصل الإحتجاج به من الدلالات المتعلقة به في المذهب:
– ما يسمى بالنص والظاهر مما يندرج تحت دلالة المنطوق،
– ما يسمى نحوى الخطاب( أو مفهوم الموافقة) و دليل الخطاب وهو( مفهوم المخالفة) و مفهوم الخطاب ما يدل في دائرة المفهوم.
أ- المنطوق:
- النص
(هو الصريح، وهو اللفظ الذي يدل معناه دلالة قطعية بحيث لا يقبل التأويل)[4].
نحو قوله تعالى: (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة اشهر و وعشرا) سورة البقرة الآية 232
( فهذا نص في الأربعة الأشهر في العشر و عام في الأزواج، فهذا النص إذا وجد وجب المصير إليه والعمل به إلا أن نجد ناسخا او معارضا)[5].
( كل ما يطلق النص عند الفقهاء على ما دل على حكم شرعي من كتاب أو سنة سواء كانت دلالة نصا أو ظاهرا)[6].
- الظاهر:
( والظاهر هو المتردد بين احتمالين فأكثر هو في أحدهما أرجح)[7].
نحو قوله تعالى : (( فاقطعوا أيديهما)) المائدة الآية 38
فهذا ونحوه ظاهر يوقف على المراد منه بسماع الصيغة.
ويدخل تحت مدلول الظاهر الأوامر والنواهي، والعام الذي يحتمل المخصوص، و دلالة العام في المذهب المالكي ظنية خلافا للحنفيه فدلالته قطعية كما يلحق بالظاهر دلالة المطلق لأنه يحتمل التقييد وهو لا يعمل به في المذهب قبل البحث عن المقيد، كالعام لا يعمل به قبل البحث عن المخصص…
ب)- المفهوم:
1) فحوى الخطاب: (الموافقة)
( ويطلق عليه أيضا تنبيه الخطاب كما يسمى مفهوم الموافقة، لكون المعنى المسكوت عنه موافقا للمعنى المنطوق به في الحكم، وإنما سمي بتنبيه الخطاب لأن السامع يتنبه عند الخطاب بالمعنى المنطوق به وحده، إلى دلالة اللفظ على معنى غير مذكور في الحكم بالمساواة له فيه أو الأولوية به عنه). إيصال السالك ص12
– وينقسم الى قسمين:
– مفهوم المساوي: وسمي كذلك بلحن الخطاب وهو أن يكون المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم نظرا لاتحادهما في العلة.
و مثاله قوله تعالى: ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) سوره النساء الآية 10 ، بدلالة المنطوق تحريم أكل أموال اليتامى ودلالة المفهوم بالمساوي تحريم إحراقه وتبديده لأن ذلك مساو لأكله في التحريم، لأن العلة واحدة وهي إتلاف في الكل.
– مفهوم الأولى:
وهو أن يكون المسكوت عنه ذا خلاف في حكم المنطوق به من باب أولى وأحرى ومثاله قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) سورة الزلزلة الآية 8 ، حيث يدخل عمل الخير الكثير في مفهوم الآية من باب أولى وأحرى، ومنه قوله تعالى: (لا تقل لهما أف) سورة الإسراء الآية23 .
إن دلالة مفهوم الموافقة لفظية في المذهب المالكي وذات استقلال في الدلالة على الحكم بينما هي عند الامام الشافعي عقلية مبنية على القياس.
2) دليل الخطاب: ( المخالفة)
(يسمى أيضا مفهوم المخالفة: وهو أن يشعر المسكوت عنه بمخالفته في الحكم المنطوق به، وقد عمل به الإمام مالك والشافعي ولم يأخذ به أبو حنيفة)[8].
قال إبن القصار في المقدمة:
((ومن مذهب مالك رحمه الله، أن دليل الخطاب محكوم به، وقد احتج بذلك في مواضع منها حيث قال: إن من نحر هديه بالليل لم يجز، لقوله عز وجل ( ليذكروا إسم الله في أيام معلومات) سورة الحج الآية 26.
دليله أنه لا يجزيه إذا نحره بالليل، و كقوله من دخل الدار فأعطه درهما، دليله من لم يدخل الدار فلا تعطيه شيئا. وهذا نص منه في القول بدليل الخطاب))[9].
ومفهوم المخالفة على أقسام تختلف قوة وضعفا أو جزها ابن غازي في قوله:
(صف، واشترط، علل، ولقب ثنيا وعد ظرفين، وحصرأغيا)[10]
- وهي كتالي:
-مفهوم الإستثناء -مفهوم الحصر -مفهوم الشرط -مفهوم الغاية – مفهوم الصفة أو الوصف
-مفهوم العدد -مفهوم الزمان -مفهوم المكان -مفهوم اللقب مفهوم العلة
3) مفهوم الخطاب
(ويقصد به دلالة الاقتضاء وسميت بذلك لأن المعنى يقتضيها لا اللفظ)[11].
وهي من أصول المذهب المالكي وتنقسم الى نوعين:
أ: التصريحي:
وهو دلالة اللفظ دلالة إلتزام على معنى لا يستقل المعنى الأصلي بدونه لتوقف الصدق أو الصحة عليه عادة أو عقلا او شرعا.
عادة :
قوله تعالى: (( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فإنفلق وكان كل فرق كالطود العظيم) سورة الشعراء الآية 63
– فمنطوق الآية: أمر الله سبحانه وتعالى موسى بضرب البحر بعصاه فانفلق البحر.
– ومفهوم الآية: أن سيدنا موسى عليه السلام بعد الأمر بذلك ضرب البحر فانفلق فلابد من تقدير لفظ (( فضربه)) قبل قوله ((فإنفلق)) وقد تعلق هذا المفهوم بأمر عادي.
عقلا:
قوله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها) سورة يوسف الآية 8
-منطوق الآية : سؤال الأبنية والأحجار وهو غير مراد لمخالفته للعقل
– مفهوم الآية : تقدير( أهل) القرية وهذا ما يشير إليه البلاغيون من إطلاق المحل وإرادة الحال فيه على جهة المجاز.
شرعا:
قوله تعالى: ( فمن كان منكم مريضا او على سفر فعدة من ايام أخر) البقرة الآية 183
– منطوق الآية : ( إن كل مريض أو مسافر يقضي الصوم، لكن المعني متوقف على تقدير كلمة ( فأفطر) بعد قوله تعالى أو على سفر، لأن المريض أو المسافر في حالة صيامهما لا يقضيان الصوم شرعا.
ب: التلويحي:
دلالة اللفظ على معنى لازم للمعنى الأصلي ولا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته لا عادة ولا عقلا ولا شرعا ويطلق عليه أيضا دلالة الإشارة. مثاله قوله تعالى: ( أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) البقرة الآية 186
فيأخذ منه صحة صوم من أصبح جنبا لأنه يجوز الجماع في كل جزء من الليل حتى الجزء الأخير منها المتصل بالاصباح.
4) تنبيه الخطاب:
ويسمى دلالة الإيماء: (وهي أن يقرن الوصف بحكم لو لم يكن اقتران الوصف بذلك الحكم لبيان كونه علة له، لما به الفطن بمقاصد الكلام)[12].
مثاله قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) المائدة الآية 40
فاقتران الأمر بالقطع مع وصف السرقة يدل على أن السرقة هي علة القطع شرعا وهو معنى القاعدة الأصولية القائلة إن تعليق الحكم على المشتق يؤذن بعلية ما أشتق منه.
2)السنة:
السنة هي ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير كما تطلق على ما يقابل البدعة عموما، أو ما يقابل الأهواء والبدع الإعتقادية خاصة، مما يخالف ما كان عليه السلام وأصحابه من عدم التعمق والتكلف.
– والسنة عند الفقهاء: هي ما طلب فعله لا على جهة الواجب، أو ما أثيب على فعله ولم يعاقب على تركه
– والسنة عند المحدثين هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته سواء صدرت عنه باعتباره رسولا، ام باعتباره إنسانا.
– والسنة عند علماء الأصول: هي ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير من جهة دلالته على أحكام الشرع[13].
و تعتبر السنة المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن الكريم، قال عليه السلام لسيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن( كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟) قال: أقضي بما في كتاب الله. قال( فإن لم يكن في سنة رسول الله؟) قال: أجتهد رأيي ولا آلو، قال معاذ ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدري، وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله)[14].
قال تعالى: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) سورة الأحزاب الآية 36
والسنة بيان للقران الكريم، قال تعالى: ( وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون) سورة النحل الآية 44
وطرق بيان السنة للقران متنوعة فهي إما:
– أن تفصل مجمله كبيان حقيقة الصلاة والزكاة المأمور بهما في القران.
– أو تقييد مطلقة كتقييد اليد من الرسخ في حد قطع يد السارق،
– أو تخصص عامه: كقوله عليه الصلاة والسلام(( ليس لقاتل شيء)) فإنه مخصص لقوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)
قال الشاطبي: (السنة راجعة في معناها الى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره)[15].
كما أن السنة النبوية لم تقتصر فقط على دور البيان بل انتقلت بتشريع كثير من الأحكام.
وتنقسم باعتبار سندها إلى سنة متواترة وخبر آحاد:
- المتواتر :
جاء في جمع الجوامع: المتواتر معنى او لفظا هو خبر جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عن محسوس
وهو ينقسم الى قسمين:
أ) تواتر لفظي: وهو ما تواتر لفظه ومعناه كقوله صلى الله عليه وسلم( من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) متفق عليه
ب) تواتر معنوي: وهو ما تواتر معناه دون لفظه، كالمسح على الخفين، فقد روى بروايات مختلفة تفيد نفس المعنى. -مفتاح الأصول الشريف للتلمساني ص 10-
وكشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ( انا اول شفيع يوم القيامة) رواه مسلم.
- خبر الواحد :
– وجاء في جمع الجوامع: فخبر الواحد وهو ما لم ينته الى التواتر ومنه المستفيض وهو الشائع عن أصل وقد يسمى مشهورا وأقله اثنان، وقيل ثلاثة.
ويدخل الخبر المستفيض أو السنة المشهورة في خبر الواحد عند المالكية إذ عندهم خبر الواحد على قسمين: مستفيض وغير مستفيض، بخلاف الحنفية فهو مرحلة وسطى بين المتواتر وخبر الآحاد كما سبق، وقد حدد المستفيد بما زاد على الثلاثة أو الإثنين وقيل على الواحد،
( وخبر الواحد حجة في مسائل الشرع كالشهادة والفتوى وحكم الحاكم وفي الأمور الدنيوية كإخبار الطبيب بمنفعة دواء معين، او إخبار إنسان بصلاحية غذاء من الأغذية أو إخبار بسلوك طريق آمن…
- معارضة خبر الواحد لعمل أهل المدينة عند المالكية :
إذا تعارض خبر الواحد مع عمل أهل المدينة، يقدم عمل أهل المدينة، لأنه يعتبر في حكم المتواتر و المتواتر مقدم على خبر الواحد لقطعيته،ومن أمثلة ذلك ما ورد في الموطأ في الحديث الذي رواه مالك عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المتبايعان كل واحد منهما بالخيار صاحبه ما لم يفترقا الا بيع الخيار)) ( قال مالك وليس لهذا عندنا حد معروف، ولا أمر معمول به فيه)[16].
- معارضة خبر الواحد للقياس عند المالكية:
اذا تعارض خبر الواحد مع القياس فإن أغلب المالكية، يقولون بتقديم القياس على خبر الواحد.
جاء في تنقيح الفصول للقرافي: (وهو( أي القياس) مقدم على خبر الواحد عند مالك رحمه الله لان الخبر انما ورد لتحصيل والحكم والقياس المتضمن للحكمة ( اي العلة) فيقدم عليه)[17]
إن القياس مقدم عند مالك على خبر الواحد، لكن فروع مذهبه تقتضي خلاف هذا ، وأنه يقدم خبر الواحد على القياس كتقديم ( خبر صاع التمر في المصراة على القياس الذي هو رد مثل اللبن المحلوب من المصراة، لأن القياس ضمان المثلي بمثله وهذا هو الذي يدل عليه إستقراء مذهبه مع أن المقرر في أصوله أيضا أن كل قياس خالف نصا من كتاب أو سنة فهو باطل بالقادح المسمى في إصطلاح أهل الأصول: فساد الإعتبار
3) عمل أهل المدينة:
للمدينة المنورة اعتبار خاص، لا تشاركها فيها مدن الأمصار الأخرى،(فهي دار الإسلام الأولى ومهبط الوحي وأرض ضمت جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علما وعملا ومنزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم)[18].
( وفي هذه الأرض الطاهرة رأى الإمام مالك رضي الله عنه النور وتعلم وعلم وتلقى من شيوخ الكرام ما لاحظوه من سابقيهم وهؤلاء ما حملوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من مسائل العلم والعمل. فكانت هناك أمور تلقاها الإمام مالك ووعاها لم يتيسر الاطلاع عليها من غيره من الأئمة الآخرين، وهذه الأمور هي التي اصطلح عليها بعمل أهل المدينة)[19].
ومذهب الإمام مالك رحمه الله العمل على إجماع أهل المدينة فيما طريقةُ التوقف من الرسول صلى الله عليه وسلم، كإسقاطه زكاة الخضراوات، لأنه معلوم أنها قد كانت في وقت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنه أخذ منها الزكاة وإجماع أهل المدينة على ذلك فعمل عليه وإن خالفهم غيرهم وقد احتج مالك رحمه الله بذلك في مسائل يكثر تعدادها ( كما يعلل الإمام مالك أخذه بعمل أهل المدينة، بمقام النبي صلى عليه وسلم بها إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، و كونها كانت تعج بجمع غفير من الصحابة أكثر من مدن الإسلام الأخرى)[20].
فقام الصحابة الكرام رضوان الله عليهم بنقل ما لاحظوه وضبط ما شاهدوه معاني عن الرسول صلى الله عليه وسلم عليه وسلم، فكان ذلك في مذهب مالك في حكم السنة المتواترة وخاصة فيما لا إجتهاد فيه وكان يذكر الأصوليون فيما طريقة التوقيف.( وقد صرح الإمام مالك رضي الله عنه بأخذ هذا الدليل في رسالته إلى الليث بن سعد)[21].
وقد أكد الإمام مالك رحمه الله أيضا أصالة هذا الدليل بأنواع من التطبيقات في كتابه الموطأ أن عمل أهل المدينة مؤلف من أمرين: طريق نقلي مبني على الملاحظة والمشاهدة وطريق إجتهادي، والأول لا خلاف فيه بين الأئمة ، إلا من لم يفهم معناه، لكن بعضهم ظن أن ذلك من مسائل الإجماع فأنكره، لأن دليل الإجماع لا يخص أهل المدينة من سواهم، من هو شامل للأمة، ومالك رحمه الله يعتبر عمل أهل المدينة من هذا المعنى، وإنما إعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه وضرورة إقتدائهم بذلك.
وتجدر الملاحظة أن أهل المدينة الذين يعتبر عملهم هم الصحابة والتابعون وإلى زمن الإمام مالك، لا من تابعي التابعين كما هو معلوم.
وإذا كان عمل أهل المدينة أصلا من أصول مذهب مالك، إلا أنه يجب التثبت من وروده بالتنصيص عليه من الكتب المعتمدة، ولا يقبل إدعاؤه دون سند مما حدا بالعلامة الحجوي أن يقول: ( وهذا سلاح إستعمله متأخرو المالكية مهما لم يجدوا في الحديث مطعنا ادعو العمل، ولا ينبغي ذلك لهم في دين الله)[22].
وقد تتبع الدكتور عمر الجيدي في كتابه العرف والعمل في المذهب المالكي ص 325 أساليب مالك في الموطأ والتي تدل على عمله بأهل المدينة فوجدها لا تخرج عن:
-هذا الأمر الذي أدركت عليه الناس وأهل العلم ببلدنا -الذي لم ينزل عليه أهل العلم ببلدنا
-الأمر المجتمع عليه عندنا -الأمر الذي لا إختلاف فيه عندنا
-السنة عندنا -ليس هذا العمل عندنا -السنة التي عندنا والتي لا شك فيها.
وهكذا سار على نهجه تلامذته فهذا إبن عربي قد أكثر في أحكام القرآن الإحتجاج بعمل أهل المدينة وجعله مرجحا من المرجحات فذكر عند قوله تعالى: (( ولتكبروا الله على ما هداكم)) مرجحا التكبير في صلاة العيدين سبعا في الأولى بتكبيرة الإحرام، وخمسا في الثانية ( مع تكبيرة القيام) بعمل أهل المدينة قائلا: وإما أن يقال أن رواية أهل المدينة أرجح لأجل أنهم بديني أقعد كأنهم شاهدوها فصار نقلهم كالتواتر لها[23].
وجاء في مراقي السعود:
و ما لك تقديم على الخبر = إجماع أهل طيبة قد إشتهر
وهو مع الخلاف والوثاق = من أوجه الترجيح بإتفاق
4) فتوى الصحابي:
– الصحابي هو من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك.
قال ابن السبكي في جمع الجوامع: الصحابي من اجتمع مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وان لم يروا ولم يطل، أي لم يطل إجتماعه به) وفضل الصحابة رضوان الله عليهم معلوم كتابا وسنة فلا نطيل به.
قال تعالى 🙁 والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه) سورة الفتح الآية 18
وقال صلى الله عليه وسلم(( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ من أحدهم ولا نصيفه)[24].
- حجية فتوى الصحابي:
فتوى الصحابي أو قوله، أو رأيه، أو مذهبه، كلها تدل على معنى واحد، كما أن قول الصحابي ليس حجة على صحابي آخر وخاصة فيما فيه إجتهاد.
وقول الصحابي حجة في مذهب الإمام مالك مستفاد من رسالته إلى الليث بن سعد ومما أورده من فتاوى الصحابة الأجلاء رضوان الله عليهم في كتابه الموطأ، وقد لخص الشيخ محمد الأمين الشنقيطي الكلام في هذا الأصل بقوله:( أن قول الصحابي الموقوف عليه له حالتان:
الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه
الثانية: أن يكون مما له فيه مجال.
– فإن كان مما لا مجال للرأي فيه فهو في حكم المرفوع كما تقرر في علم الحديث فيقدم على القياس و يخص به النص…
– وإن كان مما للرأي فيه مجال، فإن إنتشر في الصحابة ولم يظهر له مخالف ما هو الإجماع السكوتي وهو حجة عند الأكثر.))[25].
قال القاضي أبو بكر ابن العربي في شرح حديث (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين) من سنن الترمذي: أمر بالرجوع إلى سنة الخلفاء وهو يكون على أمرين:
الأول: التقليد لمن عجز عن النظر.
الثاني: الترجيح عند إختلاف الصحابة، فيقدم فيه الخلفاء الأربعة وأبو بكر وعمر، وإلى هذه النزعة كان ينزع مالك، ونبه عليه في الموطأ))[26].
5) الإجماع:
عرفه الإمام القرافي في التنقيح:
((هو إتفاق أهل الحل والعقد من هذه الأمة في أمر من الأمور ونعني بالإتفاق الإشتراك إما في القول أو الفعل أو الإعتقاد وبأهل الحل والعقد المجتهدين في الأحكام الشرعية وبأمر من الأمور الشرعيات والعقليات والعرفيات))[27].
وعرفه إبن السبكي في جمع الجوامع: أنه إتفاق مجتهدي الأمة بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم في عصر على أي أمر كان.
- حجية الإجماع:
الإجماع أصل من أصول مذهب مالك، سواء ما تقدم فيه إجماع من الصحابة والتابعين أو ما يكون فيه إجماع مستقبل في شؤون متعددة، إن تيسرت أسبابه وصحت النية في تهيئ الجو لإقامته، لأن الإجماع مصدر مستمر إلى قيام الساعة.
قال إبن القصار في مقدمته:( مذهب مالك رحمه الله من الفقهاء أن إجماع الأعصار حجة)[28].
وقد إستدل الأصوليون للإجماع من الكتاب ومن السنة بآيات وأحاديث كثيرة، وهو أصل معتمد من الأئمة الأربعة ( مالك- الشافعي- وأبي حنيفة- أحمد) مع إختلاف بينهم في بعض صوره.
وأركانه مستفادة من تعاريفه وخاصة تعريف إبن السبكي، وهي عنصري الإتفاق و كونه صادرا من طائفة المجتهدين من هذه الأمة وبعد وفاته عليه السلام… وموضوعه هو الإحكام الفرعية العملية، ومن الإعتقادات ما يتصل حكم السنة والإبتداع دون أصول الكفر والإيمان.
و لما كان الإجماع مبنيا على الإجتهاد في أمر من الأمور فإنه لا بد له من سند يعتمد عليه من القرآن او السنة او قياس.
وينقسم على قسمين: صريح وضمني” ويطلق على الأول أيضا النطقي وعلى الثاني السكوتي”
ومعنى الصريح أن ينطق المجتهدون بالحكم وهو حجة قطعية وأما الضمني أن ينطق به البعض ويسكت الآخرون وهو حجة ظنية.
إذن فالإجماع فهو أصل أصيل للفتوى الجماعية المبنية على التشاور منذ عهد الصحابة كإجماعهم على أن الجدة من الأب ترث السدس قياسا على الجدة من الأم في إرثها السدس وكإتفاقهم على جمع القرآن في عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهم.
كما أن في نطاق الفتوى يكون الإجماع عاملا من عوامل توحيد الفتوى والقضاء على الخلافات الجزئية حول الأحكام الفرعية العملية وما أكثرها، سواء تعلقت بالعبادات أو المعاملات وخاصة في عصرنا الحاضر.
6) مراعاة الخلاف:
جاء في إيصال السالك:( مراعاة الخلاف أصل من أصول الإمام مالك ومعناه إعمال المجتهد لدليل خصمه، أي المجتهد المخالف له في لازم مدلوله الذي أعمل في عكسه لدليل أخر)[29].
ومثال أعمال مالك رضي الله عنه خصمه القائل بعدم فسخ نكاح الشغار في لازم مدلوله، الذي هو ثبوت الإرث بين الزوجين المتزوجين بالشغار إذا مات أحدهما،
( الشغار هو زواج بزواج دون صداق، أو زواج دو صديق بزواجه دون أو زواج ذو صداق أقل بزواج ذي صداق أكثر…)
ويعتبر مبدأ مراعات الخلاف إمتدادا لأصل الإستحسان لأن المجتهد يراعي دليل مخالفه في لازم مدلوله رفعا للضرر، ورعاية للمصلحة، وهما أساسان معتبران شرعا، وهذا ما أكده الامام الشاطبي وهو يعلل قاعدة مراعاة الخلاف بقوله:(( فان المغصوب منه لابد أن يوفى حقه لكن على وجه لا يؤدي إلا إضرار الغاصب فوق ما يليق به في العدل والإنصاف)[30].
كما أشار إلى هذا المعنى في كتابه الإعتصام ذاكرا (أن من أنواع الإستحسان مراعاة خلاف العلماء، وهو أصل في مذهب مالك تنبني عليه مسائل كثيرة)[31].
ولاحظ الشيخ عبد الله دراز أن قاعدة مراعاة الخلاف راجعة إلى النظر إلى مآل الأفعال وهو فعلا ما أصله الإمام الشاطبي وفرع عنه هذه القاعدة ليربط الفرع بأصله.
وبالتالي فإن مراعاة الخلاف مبدأ وأصل قائم على النظر إلى المآل سواء كان حكمها شرعيا أو فعلا إنسانيا، فإذا كان يلحق بسببه ضرر ومفسدة فإن المجتهد لا يقر ذلك الحكم، ذلك الفعل ولكن يترتب عليه ما يخفف وطأته فيعترف بالآثار الناتجة عليه ومراعاة خلاف غيره في هذا المآل بالذات وهو أصلا منها بما ينفع الناس ويرفع عنهم الإصر.
قال إبن عربي: (الجزء الفتوى عظيم أن يركب المتفق عليه، على المختلف فيه وهذا أمر خفي على علمائنا فأفهموه)[32].
ب- الأدلة العقلية:
1: القياس:
– عرفه الباجي:( هو حمل أحد المعلومين على الآخر في إثبات حكم، أو إسقاطه بأمر يجمع بينهما)[33].
– عرفه الإمام القرافي: ( هو إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل إشتباههما في علة الحكم عند المثبت)[34].
يتضح مما سبق أن القياس إلحاق واقعة غير منصوص عليها وتسمى بالفرع بأصل منصوص عليه لمساواته له في علة حكمه، أي أن يعمد المجتهد أو المفتي إلى حكم أمر معلوم فيثبته لأمر أخر الإشتراك الأمرين في علة الحكم، ومثاله قوله تعالى:'( يا أيها الذين أمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فأسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع)) سورة الجمعة الآية 9
فالمفتي يفهم من الآية أن علة الأمر بترك البيع عند النداء للصلاة كونه شاغلا عن أدائها، وهذه العلة موجودة في غير البيع نحو الإجارة بلا فارق فيصح إلحاقها بالبيع في منعها عند النداء لصلاة الجمعة.
- حجية القياس في المذهب المالكي: ( الإمام مالك)
القياس حجة عند الجمهور ومنهم الإمام مالك رضي الله عنه،
قال القرافي: ( هو حجة عند مالك رحمه الله وجماهير العلماء رحمة الله عليهم خلافا لأهل الظاهر، لقوله تعالى:( فاعتبروا يا أولي الأبصار) سورة الحشر الآية 3 ، ولقوله معاذ رضي الله عنه( أجتهد رأيي بعد ذكره الكتاب والسنة)[35].
ولا غرو أن القياس مقرر كتابا وسنة كما عمل به الصحابة رضوان الله عليهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم ثم سار على ذلك جملة وافرة من أجلة التابعين من كل مصر من أمصار الإسلام ومراكز العلم ممن قال وأفتى مجتهدا رأيه وقاسيا على الأصول فيما لم يجد نصا.
كما ورد في رسالة عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما قوله: (واعرف الأشباه والنظائر ثم قس الأمور عندك وأعرف الأمثال.)
وتستخلص أركانه من تعريفه وهي أربعة: الأصل المنصوص عليه – الفرع المسكوت عن حكمه- العلة – الحكم.
والعلة أهم ركن في القياس لأنها هي التي تحدد عملية القياس وتجمع بين الأصل والفرع ولذلك قال الفقهاء: أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
- مخالفة الفتوى للقياس:
ذكر الإمام القرافي أن كل شيء أفتى فيه المجتهد وتخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي السالم عن المعارض الراجحي لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى، فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه وما لا نقره شرعا بحكم الحاكم أولى أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا.
والفتيا بغير شرع حرام، الفتيا بهذا الحكم حرام وإن كان الإمام المجتهد غير عاص به بل مثابا عليه لأنه بذل جهده على حسب ما أمر به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (( إذا إجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران))[36].
إن الإجتهاد في مورد النص لا يجوز، إن القياس نوع من الإجتهاد ولا يحصل الإلتجاء إليه إلا في حالة عدم النص على الواقعة، أما إذا كان هناك تخصيص عليها فلا داعي للقياس، كما أنه لا يجوز القياس مع الفارق بين الفرع والأصل في العلة إذ لا قياس مع وجود الفارق بينهما وهو مما يدخل في القياس الفاسد.
وكذلك تدخل القاعدة الفقهية القائلة: ما ثبت على خلاف القياس صغيرة لا يقاس عليه ومن أمثلتها ما ذكره القرافي كعقد القراض والمسافات و السلم … وهذه العقود إن كانت غير جائزة في أصلها، لأن القياس يأبى جوازها، ومع ذلك جوزت على خلاف القياس نظرا للضرورة والحاجة فغيرها من العقود لا يقاس عليها.
2) الإستحسان:
عرفه إبن رشد: (الإستحسان هو أن يكون طرحا لقياس يؤدي إلى غلو في الحكم ومبالغة فيه فيعدل عنه في بعض المواضع لمعنى يؤثر في الحكم يختص به ذلك الوضع)[37].
ويقصد الإمام مالك بالإستحسان ما كان مبنيا على دليل، وهذا ما أكده الإمام الباجي ( أن الإستحسان بغير دليل لا يصح الإحتجاج به قائلا:( و مما يدل على ذلك أيضا أنه لا فرق بين إستحسان العامي والطفل والعالم إلا من جهة الدليل، وقد أجمعنا على أن إستحسان العامي والطفل لا يجوز الحكم به لأنه حكم عن غير دليل، فكذلك إستحسان العالم إذا أصدر عن غير دليل)[38].
وذكر الإمام الشاطبي من الأمثلة التي جلبها الإستحسان:( القرض- بيع العرية بخرصها تمرا- جمع المسافر- الإطلاع على العورات في التداوي- القراض- المسافات)[39].
وإذا كان الإستحسان ترجيح أحد الدليلين المتعارضين فيما يتراء للمجتهد أول النظر ما ينبغي أن يجري في صحته إختلاف بين أهل العلم. وهو بهذا المعنى شاهد على دقة أنظار علماء الشريعة، إذا كانو لا ينسابون في تقرير الأحكام إلا ما يتبادر لهم في الإستدلال، إلا بعد النظر في الواقعة من جميع وجوهها .
- أنواع الإستحسان في المذهب المالكي:
قال أبو بكر بن العربي في المحصول حاصرا أنواع الإستحسان:
– فمنه ترك الدليل للعرف
– ومنه ترك الدليل للمصلحة
– ومنه ترك الدليل لإجماع أهل المدينة
– ومنه ترك الدليل في اليسير لرفع المشقة وآثار التوسعة على الخلق
- فمثال الأول: رد الإيمان إلى العرف
- ومثال الثاني: تضمين الأجير المشترك والدليل يقتضي أنه مؤتمن
- ومثال الثالث: في إيجاب عموم القيمة على من قطع ذنب بغلة القاضي
- ومثال الرابع: إجازة التفاضل الياسر في المراطلة الكبيرة، وإجازة بيع وصرف في اليسير….[40].
إن الإمام مالك رضي الله عنه نظر في الشريعة نظرة كلية، وجدها تتجه في لبها وفي مقاصدها إلى مصالح الناس ودفع المضار، فإن كانت مصلحة مؤكدة من غير ضرر يلحق بأحد، فهناك الطلب المؤكد، وإن كان هناك ضرر مؤكد، فهناك المنع المؤكد، وهذه النظرة الكلية تظافرت عليها طائفة من النصوص مثل قوله تعالى( وما جعل عليكم في الدين من حرج) و قوله تعالى ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)
( والنظرة الفاحصة لأي حكم شرعي تكشف أن المصلحة ودفع المضرة ملاحظان فيه مقصودان منه، وإذا كان كذلك فكل أمر فيه مصلحة أو دفع مضرة مطلوب من الشارع، سواء أنص عليه أم لم ينص لأنه في النص العام أين توجد النص الخاص)[41].
ومن الأمثلة على الإستحسان التي عمل بها الأئمة: مسألة المشتركة في الإرث حيث ترددت بين القياس والأستحسان ولذلك قال بعضهم القياس ما قال علي والإستحسان ما قال عمر)[42].
وهكذا أخذ الأئمة بتوريث الإخوة الأشقاء مع الإخوة للأم إستحسانا برفع ضرر الحرمان عن الإخوة الأشقاء، وبمراعاة الوصف الثاني الذي أدلوا به وهو أخوة الأمومة.
3) الإستصحاب:
عرفه إبن الحاجب بقوله: (إنما تحقق وجوده أو عدمه في حال من الأحوال ولم يطرأ معارض قطعي أو ضني فإنه يستلزم الظن بقائه والظن حجة شرعية)[43].
قال القرافي في التنقيح: (ومعنى أن إعتقاد كون الشيء في الماضي أو الحاضر يوجب ظن ثبوته في الحال أو الإستقبال فهذا الظن عندما مالك والإمام المزني وأبي بكر الصيرفي رحمه الله تعالى حجة خلافا لجمهور الحنفية والمتكلمين)[44].
وذكر ابن القصار أنه ليس من مالك رحمه الله في ذلك النص، ولكن مذهبه يدل عليه لانه احتج في أشياء كثيرة ، سأل عنها فقال لم يفعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ولا الصحابة رحمة الله عليه، وكذلك يقول ما رأيت أحدا فعله، يدل على أن السمع إذا لم يرد بإيجاب شيء لم يجب، وكان على ما كان عليهم من براءة الذمة)[45].
- أنواع الإستصحاب:
أ) إستصحاب ما هو حكم الأشياء في الأصل حتى يقوم الدليل على ما يخالفه:
وقد إختلف فيما هو الأصل في الأشياء:ذهب فريق إلى أنها على الإباحة وذهبت طائفة إلى أنها على المنع وذهب آخر إلى أن الأصل فيها الخلو من الحكم.
ب) إستصحاب ما دل الشرع على ثبوته.
- الملك إذا حصل سببه – عقد الزواج إذا ثبت – شغل الذمة بدين
ج) إستصحاب العدم الأصلي:
- البراءة الأصلية من التكليف: نفي وجوب صلاة سادسة
د) إن يعلم ثبوت أمر عقلي أو حسي بإحدى طرق العلم:
إذا وقع الشك في زواله فيستصحب بقاؤه (مسألة المفقود)
تلك هي أنواع الإستصحاب ويجمعها نوعان:
– إستصحاب العدم الأصلي – إستصحاب ما دل الشرع على ثبوته بوجوده سببه حتى يثبت نفيه.
ومن القواعد الفقهية المتعلقة بهذا الأصل:
-الأصل بقاء ما كان على ما كان -الأصل براءة الذمة -اليقين لا يزول بالشك
-الأصل في الأشياء الإباحية ما لم يرد دليل يدل على المنع -الذمة إذا عمرت بيقين فلا تبرأ له بيقين
-الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت تهمته.
4) سد الذرائع:
من بين الأصول الشرعية التي ميزت الإجتهاد الفقهي في المذهب المالكي، فقد أعمله في سد الذرائع في العديد من فتاويهم وإختياراتهم المذهبية وإشتهر بالتوسع في تطبيقه حتى نسب اليهم.
عرفها القاضي الباجي بأنها المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور.
وعرفها الإمام الشاطبي بأنها فعل مأذون فيه لما فيه من مصلحة لكنه يؤدي إلى المفسدة كثيرا لا غالبا.
- حجيته في المذهب المالكي:
قال الإمام القرافي في التنقيح: ( والذريعة الوسيلة للشيء، ومعنى ذلك حسم مادة وسائل الفساد وفعاله، فمتى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى المفسدة منعنا من ذلك الفعل، وهو مذهب مالك رحمه الله)[46]
وأصل سد الذرائع ثابت بالقرآن والسنة وعمل الصحابة، فأما القرآن الكريم:(( واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت إذا تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون)) سورة الأعراف الآية 163
قال أبو بكر بن العربي: (قال علماؤنا هذه الآية أصل من أصول إثبات الذرائع التي إنفرد بها مالك وتابعه عليها أحمد في بعض رواياته وخفيت عن الشافعي وأبي حنيفة مع تبصرهما في الشريعة، وكل عمل ظاهر الجواز يتوصل به إلى محظور، كما فعل اليهود حين حرم عليهم صيد السبت، فسكروا ( سدوا) الأنهار وربط الحيتان فيه إلى يوم الأحد)[47].
ومن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم( لا يتناجى إثنان دون واحد) متفق عليه. سد لسوء الظن الذي قد يتعرض له الثالث ودفعا لتقدير خاطره
– وإمتناعه صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين بالرغم من معرفتهم مضافة أن يقول الناس أن محمدا صلى الله عليه وسلم يقتل اصحابه.
ومن عمل الصحابة:توريث المبتوتة وهي المطلقة ثلاثا في مرض الموت، فسد الذريعة الحرمان من التوريث الذي يكون مقصودا أو غير مقصود من الزوج المطلق في تلك الحالة جاء الأمر بتوريثها ومن ذلك تضمين الصناع، وإمضاء سيدنا عمر رضي الله عنه الطلاق الثلاث بلفظ واحد بأن جعله ثلاثا سد الذريعة التسرع والإسراف في أمر الطلاق .
إن المذهب المالكي بإعتماده على مبدأ سد الذرائع، فتح الباب للمجتهد كي يحقق المناط ويوازن بين المصالح والمفاسد، وأن ينظر إلى نتيجة و مآل الأفعال والتصرفات ومن أمثلة ذلك:
في العبادات
-صلاة الجماعة بعد صلاة جماعة الإمام الراتب -مسألة قبض اليدين في الصلاة
-مسألة الجهر بالذكر في تشيع الجنازة -صيام ست من شوال
في المعاملات :
-توريث المطلقة في مرض الموت -ما أجاب به مالك عن أكل المفطر للميتة وغيرها
تحريم المرأة على من تزوجها في العدة -بيوع الأجال -شهادة أحد الزوجين للآخر -قضاء القاضي بعمله.
5) المصلحة المرسلة :
( المصلحة في اللغة الصلاح، والمصلحة واحدة المصالح والإستصلاح نقيض الإستفساد)[48].
وصف المصلحة بالمرسلة من الإرسال وهو الإطلاق
وقد راعت الشريعة الإسلامية مصالح العباد سواء كانت دنيوية أو أخروية، فما من حكم الله إلا وله تعلق بذلك،وتنقسم المصالح بإعتبار عام كما ذكر ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات:
1) المصالح الضرورية : معناها أن حياة الناس تتوقف عليها، فإذا فقدت أصبحت أحوالهم في فوضى وسوء نظام، كما أن المحافظة عليها تتعلق بجانب الوجود ودرء ما يمس بها من جانبها لعدم، وهذه المصالح هي حفظ الدين والنفس والمال والعقل والنسل[49].
2) المصالح الحاجية: هي تلك المصالح التي لا تبلغ مبلغ المصالح الضرورية في الأثر والمآل وإنما يحتاج إليها الناس في رفع الحرج عنهم والتوسعة عليهم، كالرخص في العبادات والإجارة والسلم والقراض والمغارسة و المسافاة، والشفعة في المعاملات)[50].
3) المصالح التحسينية: فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق ويدخل في هذه المصالح إزالة النجاسة، وشؤون النظافة عموما، وأداب الأكل والشرب وتجنب الإسراف والإفتراء[51].
كما تنقسم المصالح إلى ثلاثة أقسام اخرى: -مصالح معتبرة -مصالح ملغاة -مصالح مرسلة
– المصالح المعتبرة: هي التي إعتبرها الشرع كالمحافظة على الضروريات الخمسة من حفظ الدين والنفس والنسب والعقل والمال.
– المصالح الملغاة: هي التي ألغاها الشارع فلم يجزها كعدم التعدد مطلقا… المناداة بمساواة المرأة مع الرجل في الإرث.
– المصالح المرسلة: تلك المصالح الملائمة لمقاصد الشارع الإسلامي، ولا يشهد لها أصل خاص بالإعتبار أوالإلغاء، فإن كان يشهد لها أصل خاص دخلت في عموم القياس وإن كان يشهد لها أصل الخاص بالإلغاء وهي باطلة ، والأخذ بها مناهضة لمقاصد الشارع[52].
وسميت مرسلة لعدم التخصيص على إعتبارها او إلغائها، وبالتالي فالمصلحة والمرسلة هي المجردة من شاهد شرعي بعينها وعند النظر إليها فإنها تحقق جلب منفعة أو دفع مضرة وهما من كليات الشريعة.
والأمثلة على ذلك:
– جمع القرآن الكريم في مصحف واحد كما فعل الصحابة رضوان الله عليهم
– تضمين الصناع -إستعمال السيارة أو الطائرة…
- حجية المصلحة المرسلة في المذهب المالكي:
قال القرافي رحمه الله:( المصلحة المرسلة والمصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع بالإعتبار على ثلاثة أقسام:- ما شهد الشرع بإعتباره وهو القياس الذي نقدم
– ما شهد الشرع بعدم إعتباره نحو المنع من زراعة العنب لئلا يعصر خمرا
-وما لم يشهد له بإعتبار ولا بإلغاء وهو المصلحة المرسلة وهي عند مالك رحمه الله حجة [53].
( وأما المصلحة المرسلة فغيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريع نجدهم يعللون بمطلق المصلحة، ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالإعتبار، بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة)[54].
وقد إشترط الإمام الشاطبي للعمل بالمصلحة المرسلة شروط ثلاثة:
– أن تكون متفقة مع مقاصد الشرع فلا تنافي أصلا من أصوله ولا دليلا من دلائله
– أن تكون معقولة في ذاتها، تتلقاها العقول بالقبول إذا عرضت عليها
– أن يكون في الأخذ بها حفظ ضروري لو رفع حرج لازم في الدين. التفصيل[55].
وقال الشيخ ابو زهرة ( فكان المذهب الخصب الثري بالمعاني، من غير شطط ولا مجا وزة للإعتدال وكان فيه إختلاف منازعهم وبيئاتهم من غير إبتداع ولا خروج، فلم يخرج عن نطاق الإقتداء والإتباع)[56]
6) مراعاة العرف:
– يطلق العرف على العادة عند أكثر الفقهاء والأصوليين، فهما مترادفان عندهم
– عرفه الجرجاني : ( ما إستقرت النفوس عليه بشهادة العقول وتلقته الطباع السليمة بالقبول)[57].
إن أغلب الفقهاء لا يفرق بين العرف وبين ما جرى به العمل، وهناك من يفرق بينهما بالفروق التالية:
– كون العرف يتعلق بالمعاملات بخلاف ما جرى به العمل فيتعلق بالعبادات والمعاملات
– إن العرف من عمل العوام المرة بعد المرة حتى الإستقرار في النهاية، بينما يصدر ما جرى به العمل مما يقتدي بهم من أهل العلم.
– يعتبر العرف أساسا لما جرى به العمل وهو كالمصلحة والضرورة حيث ينبني ما جرى به العمل على كل ذلك[58].
وينقسم العرف الى قسمين:
1) العرف القولي: ما كان أساسه مبنيا على قول متعارف عليه، كإطلاق اسم المسجد على محل العبادة دون تسميته بالبيت، إلا مضافا لإسم الجلالة وهو الله.. وعند التعارض يقدم العرف على اللغة.
2) العرف العملي: ما تعارف الناس عليه في معاملاتهم وتصرفاتهم : كبيع المعاطات( وهو بيع دون إيجاب وقبول وإنما تدل عليه قرينة الحال)
كما ينقسم إلى عرف عام وعرف خاص:
1- عرف عام: الذي يكون متعارفا عليه في جميع البلدان الإسلامية: عقد الإستصناع – إستعمال لفظ الطلاق في إزالة العصمة…
2- عرف خاص: الذي يعتاده أهل بلد معين و أصحاب حركة خاصة: الأعراف التجارية – أعراف المهن والحرف
وينقسم كذلك الى عرف صحيح وعرف فاسد:
1- عرف صحيح : الذي تعارف عليه الناس ولم يدل دليل من الشرع على عدم إعتباره كما أنه لا يخالف أصلا من أصوله
2- عرف فاسد : ما تعارف عليه الناس وكان مخالفا للشرع.
- حجية العرف في المذهب المالكي:
– قال القرافي: العوائد، والعادة غلبة معنى من المعاني على الناس، وقد تكون هذه الغلبة في سائر الأقاليم…. وقد تكون خاصة ببعض البلاد …. وقد تكون خاصة ببعض الفرق كالأذان للإسلام والنقوص للنصارى، فهذه العادة يقضي بها عندنا لما تقدم في الإستصحاب[59].
– قال ابن العربي: العرف عندنا أصلا من أصول الملة ، و دليل من جملة الأدلة[60].
ونظرا لتبدل العرف وعدم إطراده في بعض الأحوال فان المفتي يجب عليه ملاحظة هذا التغيير ولا يفتي إلا بما إستقر عليه العرف في بلده، كما أنه يجب إجراء الفتوى على كل حال بما يناسبها من عرف غير بلده.
وقد أكد الإمام القرافي أهمية العرف عند فتوى المفتي إذا لا يفتي إلا بعد التحقق من عرف بلد المستفتي في ذلك يقول:( ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفز لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي وموضع الفتيا، إن لا يفتيه عادته يفتي به، حتى يسأله عن بلده وهل حدث لهم عرف في ذلك البلد موافقا لهذا البلد في عرفه أم لا) [61].
ومما سبق يتضح دور العرف في توجيه الفتوى في مذهب مالك حيث أن العادة عند مالك كالشرط تقيد المطلق وتخصص العام.
2) الأدلة الخاصة:
تعلق بالمذهب المالكي إصطلاحات خاصة بشؤون الفتوى وكتبا مفتى بها،وهي ذات فائدة للمفتي، لأنها سلاحه و محل نجواه وموئل رجوعه في التعرف على الأحكام وهي ( الأقوال المعتمدة في الفتوى – طرق الترجيح والتفريع – إصطلاحات المذهب المالكي في الفتوى -الكتب المفتى بها في المذهب المالكي)
أ)- الأقوال المعتمدة في الفتوى:
بعد إستقرار أصول المذهب المالكي ومعرفة طرق الإستدلال فيه، وتتبع تلاميذة الإمام مالك منهجية شيخهم في ذلك، تكونت داخل المذهب لضبط مصطلحاته في الفتوى والقضاء ما أصبح يسمى بالمتفق عليه في المذهب، والراجح والمشهور والمساوي لمقابله وما جرى به العمل، والضعيف والشاذ.
1)- المتفق عليه:
ويقصد به إتفاق أهل المذهب المالكي دون غيرهم من المذاهب الأخرى، ويعبر عن المتفق عليه بصيغته وبكل عبارة تفيد معنى الإتفاق وعدم الإختلاف، والمفتي والقاضي حين يرجع الى أمهات المذهب في الفقه والمصنفات المعتمدة في الفتوى يجب عليه مراعاة المنصوص عليه بلفظ الإتفاق او إتفاقا، و مما يفهم منه عدم الإختلاف في المذهب ، فإذا القى ذلك كان القول المصرح بالاتفاق في المرتبة الاولى في نازلة الفتوى والقضاء.
وقد طبق تلاميذة الإمام مالك ما صار عليه الشيخ الهمام في ذلك، وجاء في ترتيب المدارك في ترجمة ابي سعيد سحنون بن سعيد التنوخي: ( أتى رجل من صطفورة ( بلدة نواحي افريقية) فسأل سحنون عن مسألة وتردد عليه فقال له أصلحك الله مسألتي في ثلاثة أيام، فقال له، وما أصنع لك؟ مسألتك نازلة معضلة وفيها أقاويل وأنا أتخير في ذلك.فقال الصطفوري: وأنت اصلحك الله – لكل معضلة.فقال هيهات أليس يا إبن اخي بقولك، ابذل لك لحمي ودمي إلى النار، ما أكثر ما لا أعرف، إن صبرت رجوت لتنقلب بمسألتك، وإن أردت غيري فامض تُجَبْ من ساعتك. فقال: انما جئت إليك، ولا أبتغي غيرك. قال أصبر عافاك الله. ثم أجابه بعد ذلك[62].
2) الراجح:
إختلف في تعريف الراجح على قولين:
-ما قوى دليله ،وما كثر قائله فيكون مرادفا للمشهور،والصواب هو الأول وعليه أكثر علماء المذهب[63]،
وضبط عين الراجح وتحديد معناه داخل المذهب يكاد أن يكون من الألفاظ المشتركة ( ويعبر عن الراجح بالأصح والأصوب والظاهر، والمفتى به كذا والعمل على كذا ونحو ذلك)[64].
كما يصدق الراجح بما ترجع من الأقوال والروايات عند الإمام مالك وفي دائرة المذهب والعمل بالراجح في حق المقلد هو الوقوف على الراجح مما رجحه ائمة المذهب فيأخذه من المسلمات أول مشهور أو ما جرى به العمل.
واما العمل بالراجح في حق المجتهد فهو اتباعه لما قوى دليله رواية أو دراية من مذهب الإمام مالك ولو خالف المشهور أو ما جرى به العمل، وإتباعه ذلك يكون بالموازنة بين أقوال المذهب وبين أقوال أصحابه بمقتضى معايير الترجيح.
ومن أمثلة ذلك ترجيح أبي بكر بن العربي الذي يمثل الإجتهاد المذهبي:
– ترجيحه للتعود في الصلاة ودعاء الإستفتاح فيها – ترجيحه وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.
-ترجيحه وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
3) المشهور:
إختلف في تعريف المشهور كما في الراجح على ثلاثة أقوال:
– أنه ما قوى دليله – أنه قول إبن القاسم في المدونة – أنه ما كثر قائله
( والمعتمد في تفسير المشهور عند الفقهاء المتأخرين … هو ما كثر قائله، وحينئذ لابد أن تزيد نقلته عن ثلاثة ويسميه الأصوليون المشهور والمستفيض أيضا)[65].
والقول الثالث من تعاريف المشهور هو الذي أخذ به أكثر علماء المذهب المالكي، وجاء في منار السالك أن الصواب في تعريف المشهور هو بما كثر قائله.
يبنى المشهور على كثرة القائل به، والكثرة هنا تقوم مقام الدليل، لأنه مظنة له عند المقلد وبعض الأحيان عند المجتهد.
فقد كان الإمام مالك يسلك في إختلاف الصحابة والتابعين مسلك الترجيح بكثرة القائلين منهم و مع مراعاة الأدلة في ذلك.
والإمام مالك كانت المرجحات عنده بين أقوال الصحابة و التابعين الأكثرية العددية التي هي من متعلقات المشهور، المبني على كثرة القائلين به وقد يكون قوي المأخوذ كما يمكن أن يكون ضعيفه.
فالمجتهد ينظر في ذلك ويوازن بين الأقوال المشهورة فيرجح بعضها على بعض ويأخذ بأقوالها ويترك أضعفها.
وأما المقلد فيأخذ التنصيص على المشهور من المسلمات لأن الكثرة التي شهرت ذلك القول لا تجتمع على غير حق، فكترة القائلين به مظنة الصواب عنده.
4) القول المساوي لمقابله:
وهذه المرتبة تكون حين تستوي الأقوال من جهة دليلها أو قائليها، ولا يظهر في بداية الأمر موجب للرجحان.
– المفتي اذا كان مجتهدا أو نظره حينئذ يكون في الأدلة فإن تعارض عنده قولان متساويان وعجز عن الترجيح بينهما فهناك رأيان ذكرهما القرافي:
– قيل يتساقطان بمعنى أنه لا يعمل باحد منهما – وقيل يختار أحدا منهما يفتي به[66].
فالمفتي المقلد فقد ذكر الحطاب عن اللحم قولين في المسألة:
– أن له أن يحمل المستفتي على أيهما أحب
– أنه في ذلك كالناقل يخبره بالقائلين وهو يقلد أيهم أحب كما لو كانوا أحياء وبالقولين معا جرى العمل كما ذكر إبن غازي وإبن الفرات.
وقد ذكر الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات: ( إن الفقيه لا يحل له أن يتخير بعض الأقوال بمجرد التشهي والأغراض من غير إجتهاد ولا أن يفتي به أحدا، والمقلد في إختلاف الأقوال عليه مثل هذا المفتي الذي ذكر، فإنه إنما أنكر ذلك على غير مجتهد أن ينقل عين مجتهد بالهوى، وأما المجتهد فهو احرى بهذا الأمر)[67].
إن فتح باب الإجتهاد المذهبي سيساعد على تعيين القول الراجح من القولين المتساويين حين القيام بعملية الترجيح بناء على الأسس والمبادئ التي سنها لنا علماء هذا الشأن.
5) ما جرى به العمل:
يقصد به الأخذ بقول ضعيف أو شاذ في مقابل الراجح أو المشهور لمصلحة أو ضرورة أو عرف أو غير ذلك من الأسس.قال محمد بن الحسن الحجوي: ( وهذا مبنى على أصول في المذهب المالكي …. فإذا كان العمل بالضعيف لدرء مفسدة، فهو على أصل مالك في سد الذرائع أو جلب مصلحة فهو على أصله في المصالح المرسلة …. فإذا زال الموجب عاد الحكم للمشهور لإن الحكم بالراجح ثم المشهور واجب…)[68].
وتجدر الملاحظة أن ما جرى به العمل عند متأخري المذهب المالكي ليس مراد بل عمل أهل المدينة، إذ مبنى عمل أهل المدينة على المشاهدة والملاحظة المستمرة لأمور حصلت منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمن الإمام مالك في مكان مخصوص هو المدينة المنورة، بخلاف ما جرى به العمل إذ مبناه على أقوال ضعيفة تعززت بأسس معتبرة في المذهب فأصبحت في مرتبة الراجح أو المشهور.
وقد أجمل الشيخ ميارة وغيره شروط ما جرى به العمل فيما يلي:
1- أن يكون العمل صدر من العلماء المقتدى بهم
2- أن يثبت بشهادة العدول المثبتين في المسائل
3- أن يكون جاريا على قوانين الشرع وإن كان شاذا[69].
- طرق الترجيح والتخريج:
1) طرق الترجيح:
إن المجتهد يتعلق نظره بالأدلة نظرا أوليا من حيث ترتيبها، كما جاء عن سيدنا معاذ رضي الله عنه حين سأله النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعثه إلى اليمن، كما يتعلق نظره أيضا بالأدلة حيث ترجيحها عند التعارض:- إما العمل بالدليلين المتعارضين إن أمكن الجمع بينهما.
– إما ترجيح أحدهما على الأخر بوجه من أوجه الترجيح
– إما كون أحدهما قد نسخ الأخر وذلك بمعرفة المتقدم من المتأخر منهما[70].
وقد أجمل الأستاذ محمد سليمان عبد الله الأشقر، طرق الترجيح، سواء في دائرة الإجتهاد أو التقليد فذكر: أنه إذا تعارضت الأقوال والوجوه فليس للمفتي حينئذ بالخيار يأخذ ما يشاء ويترك ما يشاء لأن ذلك من قبيل العمل بالهوى ولكن عليه أن يرجح، والترجيح حينئذن بأمور:
1- أن يكون على أحد القولين دليل والأخر مقول بمجرد الرأي والإستحسان أو نحو ذلك فيرجح القول المدلل.
2- أن يكون القولان مدللين، و أحدهما أقوى دليلا فيرجحه.
3- فإن لم يكن شيء من ذلك فإنه يرجح بمبلغ علمه في نفس المجتهدين أيهما أعلم واتقى وأروع واعمل بالكتاب والسنة وأصدق فهما ونحو ذلك.
4- فإن كان القولان لمجتهد واحد وعلم المتأخر من قوله ورجح المتأخر وخاصة إن صرح برجوعه عند القول الأول وكذا لو لم يصرح بذلك.
5- فإن كان الإمام قالهما معا، ورجح أحدهما ترجح.
6- وإن قالهما معا ولم يرجح رجح الأشبه بقواعد ذلك الإمام وأصوله
7- فإن كان أحد الرأيين في المذهب منصوصا عليه والأخر مخرجا قدم المنصوص عليه.
8- فإن إستوى الرأيان توقف[71].
- التخريج:
التخريج هو أن ينظر مجتهد المذهب في مسألة غير منصوص عليها فيقيسها على مسألة منصوص عليها في المذهب مع مراعاة ضوابط التخريج من علة وغيرها.( وقد يشتبه التخريج بالقياس، إلا أن بينهما فرقا، وهو أن القياس ما يفعله المجتهد المطلق من إخراج المسائل على النص و الآية والحديث،والتخريج هو ما يفعله مجتهد المذهب من إخراج مسألة على نظيرتها[72].
ويشترط الإمام القرافي في كتابه[73] والتخريج الإحاطة التامة بعلم القياس ومقاصد الشريعة إذ أنهما مبنية على مصالح ودرء مفاسد وشروط القواعد، كما ذكر أن علم أصول الفقه هو المتكفل بذلك.
ج) مصطلحات خاصة بالمذهب المالكي:
نشأت في ظل كل مذهب من المذاهب الإسلامية إصطلاحات خاصة، لكنها تنوعت وتعددت داخل المذهب المالكي وخاصة في نطاق الفروع الفقهية ولا يمكن تتبع، جميع هذه الإصطلاحات بل سنشير إلى بعضها بإيجاز:
- اصطلاحات عامة : ( 20 مصطلح)
المذهب- الروايات- الأقوال- الطرق- الأوجه- القول المعتمد- الإتفاق- لفظ الجمهور- الراجح- المشهور- ما جرى به العمل- القول المساوي لمقابله- الضعيف- الشاذ- التقليد- الإجتهاد- تجزؤ الإجتهاد- التلفيق- التخريج- الترجيح….
- ألقاب وأسماء بعض علماء المذهب:
المتقدمون- المتأخرون- المدنيون- المصريون- العراقيون- المغاربة- القرينان- الإخوان- القاضيان- الشيخان- القرويان- المغربي- الصقلي- الصقليان- الإمام- الشيخ- حافظ المذهب- الأستاذ- المساور- القاضي- المحمدان- المحمدون- أبو الحسن- أبو إسحاق- إبن رشد( الجد- الأب- الحفيد) – إبن العربي- الشاطبي- القرافي.
د) الكتب المفتى بها في المذهب المالكي:
كان العلم يتلقى مشافهة في العهود الأولى للإسلام، ومنذ ظهور تدوين العلوم قامت الكتابة مقام التلقي المباشر عن أصحابها،ومن كتب الفقه المعتمدة في الفتوى في المذهب المالكي:
- الموطأ للإمام مالك
- المدونة الكبرى التي رواها سحنون عن عبد الله بن القاسم
- المستخرجة برواية محمد العتبي
- الواضحة لعبد الملك بن حبيب
- الموازية لإبن المواز
- المجموعة لمحمد بن إبراهيم بن عبدوسي
- التهذيب في إختصار المدونة ، لخلق إبن أبي القاسم البرداعي
- النوادر والزيادات لإبن أبي زيد القيرواني
- الرسالة لإبني أبي زيد القيرواني
- التبصرة الجامعة للمدونة لأبي الحسن علي اللخمي
- التلقين للقاضي عبد الوهاب
- المقدمات الممهدات لإبن رشد الجد
- البيان والتحصيل لإبن رشد الجد
- تبصرة الحكام في أصول الاقضية ومناهج الأحكام لإبن فرحون
- مختصر الشيخ خليل بن اسحاق
- تحفة ابن عاصم المسماة بتحفة الحكام
+ كتب النوازل والفتاوى المعتمدة:
- فتاوي أو نوازل إبن رشد الجد
- أجوبة إبراهيم بن هلال بن علي
- المعيار المعرب عن فتاوى أهل إفريقية والأندلس والغرب، لأحمد بن يحيى الونشريسي
- نوازل محمد بن أحمد المسناوي
- نوازل علي بن عيسى العلمي
- أجوبة محمد المدني كنون
- النوازل الكبرى للشيخ محمد المهدي الوزاني
[1] ) الموافقات ج 3 ص 43
[2] ) الموافقات ج 3 ص 41
[3] ) ترتيب المدارك ج 1 ص 87
[4] ) إحكام الفصول للباجي ص 189
[5] ) احكام الفصول للباجي ص 189
[6] ) شرح الخطاب على الورقات ص 112
[7] ) الذخيرة للقرافي ج 1 ص 60
[8] ) مفتاح الأصول ص 112
[9] ) المقدمة ص 13 صورة مخطوط خاص.
[10] ) منار السالك ص 80
[11] ) إحكام الفصول ص 507)
[12] ) إيصال السالك ص 16
[13] ) مقاصد الشريعة لعلال الفاسي ص 105
[14] ) ( رواه ابو داود الترمذي والدرامي)
[15] ) ( الموافقات ج 4 ص 12
[16] ) الموطأ بتنوير الحوالك ج 2 ص 161
[17] ) الخبر شرح تنقيح الفصول ص 387
[18] ) ترتيب المدارك للقاضي عياض ج1 ص 36
[19] ) العرف والعمل في المذهب المالكي . د: عمر ألجيدي ص 269
[20] ) ترتيب المدارك ج 1 ص 46
[21] ) الإعلام لخير الدين الزركلي ر5 ص 248
[22] ) الفكر السامي ج 1 ص 390
[23] ) إحكام القران ج 1 ص 88
[24] ) رواه مسلم عن أبي سعيد الخذري (2541)
[25] ) مذكرة أصول الفقه ص 165
[26] ) رسائل الإصلاح ج 2 ص 121
[27] ) شرح تنقيح الفصول ص 322.
[28] ) المقدمة في أصول الفقه ص 6
[29] ) إيصال السالك ص 30
[30] ) الموافقات ج 4 ص 202
[31] ) الإعتصام ج 2 ص 145
[32] ) سنن المهتدين في مقامات الدين ص 4
[33] ) أحكام الفصول ص 528
[34] ) شرح تنقيح الفصول ص 383
[35] ) شرح تنقيح الفصول ص 385
[36] ) الفروق ج2 ص 76
[37] ) الإعتصام ج 2 ص 139
[38] ) أحكام الفصول ص 688
[39] ) الموافقات ج 4 ص 205
[40] ) المحصول في علم الأصول ج 3 ص 278
[41] ) مالك لأبي زهرة ص 360
[42] ) المغني لإبن قدامة ج 6 ص 182.
[43] ) منتهى الوصول والأمل ص 204
[44] ) شرح تنقيح الفصول ص 447
[45] ) في أصول الفقه ص 25
[46] ) شرح تنقيح الحصول ص 448
[47] ) أحكام القران ج 2 ص 787
[48] ) لسان العرب ج 2 ص 517
[49] ) الموافقات ج 2 ص 8
[50] ) الموافقات ج 2 ص 8
[51] ) الموافقات ج 2 ص 8
[52] ) أصول الفقه لمحمد أبي زهرة ص 279
[53] ) شرح تنقيح الفصول ص 446
[54] ) المرجع السابق 448
[55] ) الإعتصام ج 2 ص 129
[56] ) مالك ص 404
[57] ) العرف والعمل في المذهب المالكي. د. عمر الجيدي ص 31
[58] ) العرف والعمل في المذهب المالكي ص 393
[59] ) شرح تنقيح الفصول 448
[60] ) أحكام القرآن ج 3 ص 1472
[61] ) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام ص 249
[62] ) ترتيب المدارك ج 4 ص 74
[63] ) رفع العتاب والملام ص 19
[64] ) منار السالك ص 44
[65] ) كشف النقاب الحاجب لإبني فرصون ص 62
[66] ) الإحكام في تمييز الفتاوي عن الإحكام ص 79
[67] ) الموافقات ج 4 ص 135
[68] ) الفكر السامي ج 2 ص 406.
[69] ) شرح ميارة على لامية الزقاق م45 ص 3
[70] ) تقريب الأصول لإبن جزي ص 162
[71] ) الفتيا ومناهج الإفتاء – لمحمد سليمان عبد الله الأشقر- ص 39
[72] ) العذب السلسبيل في حل الفاظ خليل ص 55
[73] ) الفروق ج 2 ص 108