منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

(8) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب – الإمام أبو المعالي الجويني ت 478 هـ

الدكتور مصطفى العلام

0

(8) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب

الإمام (أبو المعالي الجويني ت 478 هـ)

الدكتور مصطفى العلام

 

لازلنا نتحدث عن جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب في المرحلة التاريخية الممتدة من القرن الخامس إلى السابع الهجري. فبعد حديثنا في الحلقة السابقة عن جهود أحد رواد علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب وهو الإمام ‘ابن حزم الأندلسي’ وكتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل)، نتحدث في هذه الحلقة بحول الله عن الإمام ‘أبو المعالي الجويني’ وكتابه (شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل). وقد وقع الاختيار على الإمام ‘الجويني’ وكتابه على اعتبار أنه أول كتاب مفرد لغرض الرد على أهل الكتاب من جهة، وعلى اعتبار إثارته لإشكالية النظر في نصوص التوراة الإنجيل، واختلاف علماء المسلمين حولها من جهة ثانية.

ـ التعريف بالإمام (أبو المعالي الجويني ت 478 هـ) [1]

نسبه: هو الإمام عبد الملك بن عبد الله بن يوسف … الجويني ، نسبة إلى (جوين) ، أو (كوين )” وهي نسبة ورثها عن والده . وكان أبوه أبو ‘عبدالله محمد الجويني’ عالما كبيرا له مؤلفات جليلة منها (الفروق)، و( التبصرة) و(التذكرة) ، وتفسير كبير للقرآن الكريم.

لقبه:  ولقب “بإمام الحرمين ” لأنه جاور بمكة أربع سنين يدرِّس ويناظر ويفتي، كما لقب أيضا ب “ضياء الدين”، وكني “بأبي المعالي “.

ولادته:  ولد الإمام ‘الجويني’ في الثامن عشر من محرم عام 419هـ ،الموافق الثاني والعشرين من فبراير عام 1028م، في قرية ‘بشتنقان’ ، أو ‘بشتنكان’، إحدى قرى نسابور ، ومع هذا فهو عربي أصيل من قبيلة طيء.

البيئة العلمية التي نشأ فيها: ترعرع الإمام ‘الجويني’ وظهر نبوغه مبكرا في وسط بيئة علمية مميزة ، حتى أنه عند وفاة أبيه عام 438 هـ جلس مكانه للتدريس، غير أنه لم ينقطع عن طلب العلم فكان يحضر مجالس (الإسفراييني، ت 2 5 4 هـ) و(الخبازي ،ت 9 4 4 هـ) وغيرهما.  وعندما وقعت الفتة بين السنة والشيعة في نيسابور سنة 46 4 ه نزح عنها ‘الجويني’ مع غيره من الأشاعرة ، فذهب إلى بغداد  ومنها إلى الحجاز التي قضى بها أربع سنوات ، إلى أن عاد إلى نيسابور بعد هدوء الأحوال بها ، وتولى التدريس في المدرسة النظامية ، وآلت إليه زعامة أهل السنة، وأسندت إليه أمور الأوقات .

مؤلفاته: ألف ‘الجويني’ مصنفات كثيرة ، جاء أغلبها ملائما لطبيعة الحياة الفكرية في عصره، فكانت أغلب مصنفاته في أصول الدين والجدل وعلم الكلام ومنها : كتابه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد)، وكتاب (الشامل في أصول الدين)، وكتاب(لمع الأدلة في عقائد أهل السنة والجماعة) ، وكتاب (غياث الأمم في إلْتِيَاث الظُّلَم ) ، وكتاب( الكافية في الجدل ) … إلى جانب مؤلفات في الفقه أهمها : (نهاية المطلب في دراية المذهب )، و( السلسلة في معرفة القولين والوجهين) . . . ومؤلفات في أصول الفقه أهمها : (البرهان في أصول الفقه)، و(كتاب المجتهدين)، و( مغيث الحق في اختيار الأحق ) … . وقد اهتم الناس بمؤلفاته كثيرا، ويظهر هذا من كثرة ما لكتبه من شروح ومختصرات.

وفاته: وبعد حياة علمية حافلة بالتدريس والتأليف في مختلف مجلات العلم خدمة لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، انتقل إمام الحرمين إلى جوار ربه ليلة الأربعاء الخامس والعشرين من شهر ربيع الآخر عام 478 هـ،رحمه الله رحمة واسعة.

-كتاب شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل [2] :

لابد من التذكير أن كل العلماء الذين سبقوا الإمام ‘الجويني’  في الرد على أهل الكتاب كانت جهودهم تركز أساسا على مناقشة النصارى في عقائدهم، واليهود في قضية النسخ ، ونقض الشبهات والاعتراضات التي يثيرها القوم ضد الإسلام وعقائده وتشريعاته، إلى أن جاء إمام الحرمين فكان أول من أفرد كتابا كاملا لقضية التحريف والتبديل. لذلك فقد اعتبر كتابه كأول وأقدم ما وصلنا من مؤلفات مفردة لغرض الرد على أهل الكتاب.

ـ تركيزه على التبديل في التوراة والإنجيل: و قد ذكر الإمام ‘الجويني’ أن السبب الأول الذي دفع علماء الإسلام إلى  القول بالتبديل هو ما نطق به صريح القرآن الكريم في تبشير التوراة والإنجيل بخاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم. وقد عرض ‘إمام الحرمين’ حجج الفريقين في إنكار التحريف ونقضها من خلال منهج علمي يعتمد تدقيق النظر في المقدمات،فيقول : «إن كثرة العمايات في العلوم إنما جاءت من آخذ الحجج مسلمة ، من غير امتحان الفكر وتدقيق النظر في تصحيح مقدماتها »شفاء الغليل، ص:30. ثم تحدث عن سند النصوص التوراتية متبعا تاريخها، ومعددا الأسباب التي تدعو إلى القول بتحريفها.  كما ركز أيضا على الأسباب التي دفعت كل فريق اتهام  الفريق الآخر بالتبديل والتحريف، ص: 29 ـ 33.

نقد العهد القديم: وقد اكتفى إمام الحرمين في نقد العهد القديم بإبراز التفاوت بين النسختين العبرانية واليونانية فيما يخص أعمار البشر قبل الطوفان وبعده، وتمسك كل فريق بما عنده وتكذيب الفريق الآخر .. ثم ذكر بشكل موجز النسخة السامرية واختلافها عن النسختين العبرانية واليونانية. ص: 33 :38 .. كل هذا دفع بعض الباحثين ومنهم ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’ إلى القول « ويبدو واضحا تأثر ‘الجويني’ ب’ابن حزم’ فيما ذكره من انتقادات للنسخ والتفاوت الحاصل بينها». [3]

 نقد الأناجيل: تحدث الإمام الجويني، بإيجاز عن السند المفقود في نقل نصوص الأناجيل، مبينا أن ( السبب الذي أوقعهم في الغلط فيما نقلوه : غفلتهم عما تجب المبادرة إليه أزمانا يحصل في مثلها التبديل والنسيان لما طريقه السمع ” ص: 93 . وقد اهتم الجويني أيضا بإبراز ما في الأناجيل من الأغلاط التي لا تقنع أحدا بالدفاع عنها، ومنها قضية التناقض الفاحش في نسب ‘يوسف النجار’ بين إنجيل (متى 1 /1 :17 )،وإنجيل (لوقا 3/23:38)، بل بالأخطاء والتناقضات في كلام ‘متى’ نفسه. وقد اهتم الإمام الجويني بهذه القضية اهتماما اهتماما خاصا حيث خصص لها عددا كبيرا من الصفحات رغم حجم كتابه المختصر، وبعد أن انتهى منها إذ به يقول : «وكم اشتملت الأناجيل على نصوص – غير نسب يوسف – متباينة ، لا مطمع في تصحيحها وها أنا ذاكرها نصا نصا، وموضحا تباينها وتعذر الجمع بين معانيها . . . » ص: 47.

إشكالية مخالفة الإمام الجويني لمنهجه في ذكر نصوص الأناجيل كلها : إن الإمام الجويني ورغم تعهده الواضح بتتبع نصوص الأناجيل نصا نصا للرد على أهل الكتاب، إلا أن قارئ كتابه يفاجأ بنصوص ثلاثة فقط، أوردها وقارن بين الأناجيل في أحداثها، وأضاف إليها نصا رابعا ينتقد فيه انفراد ‘متى’ بذكر أحداث خارقة للعادة حدثت إثر صلب المسيح – بزعمهم – (من انشقاق حجاب الهيكل إلى نصفين ، وتزلزل الأرض ، وتشقق الصخور، وتفتح القبور، وقيام كثير من القديسين من قبورهم .. إلخ )  متى : . 53 : 5 1 /27

وهنا يطرح السؤال  لماذا هذا الإيجاز في إيراد النصوص من جانب إمام الحرمين رغم اطلاعه  عليها، ورغم مكانته العلمية التي تؤهله لأكثر من هذا بكثير ؟. يجيبنا الإمام ‘الجويني’ على هذا التساؤل، ويقدم في نهاية كتابه ما يشبه التعليل لهذا الإيجاز الشديد فيقول : «ولعمري : إن الناظر في الكتابين – أعني التوراة والإنجيل – لواحد ما يقضي منه العجب ، وإنما أعرضت عن الإكثار من ذلك – حين ذكرت منهما ما تقوم به الحجة على الخصوم – لأن سيد المرسلين- صلوات الله عليه – حين رأى عمر ينظر في التوراة غضب منه وقال :” لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي”[4]. فلهذا السبب لم أكثر من النظر فيهما  » ص: 57 .

وردا على هذا التعليل الذي ذكره الإمام ‘الجويني’ وحاول من خلاله الإجابة عن التساؤل السالف الذكر، فإننا نجد أنفسنا أمام إشكالية لازلت تشغل بال علماء الإسلام ومفكريه في تعاملهم مع نصوص التوراة والإنجيل، حيث أن البعض يرى ضرورة الامتثال للأمر النبوي الموجه لسيدنا عمر بن الخطاب، والبعض الآخر الذي يرى أن سياق الأمر النبوي يختلف عن السياق الذي نعيشه اليوم، يقول ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’ « ولاشك أنه لا يخفى على إمام الحرمين أن التوجيه النبوي الكريم كانت له ظروفه وأسبابه ، في وقت كان الوحي يتنزل على قلب الني صلى الله عليه وسلم لينهل منه الجيل الأول عقائد الإسلام الصافية ومبادئه الواضحة، التي لم تكن تحتاج إلى مصدر آخر لمعرفتها والإيمان بها، من هنا كان هذا التوجيه الكريم للمحافظة على صفاء النبع ونقاء المصدر.. ثم إن ‘عمر بن الخطاب’ رضي الله عنه وأرضاه لم يكن يقرا صحائف التوراة قراءة نقدية ،وإنما – حسب نص الرواية – أمر أحد بني قريظة أن يكتب له جوامع من التوراة . أما في عصر’ الجويني’ – وقبله بكثير – فإن الحاجة إلى القراءة النقدية لأسفار الكتاب المقدس كانت في غاية الأهمية لمقاومة التيار الجارف للحركة الفكرية والجدلية الضروس ، التي شنها اليهود والنصارى على الإسلام والمسلمين. »[5].

وأخيرا فإن كتاب (شفاء الغليل) لصاحبه الإمام ‘الجويني’ ـ وإن كان صغير الحجم ـ فإنه يعد بحق أول كتاب مفرد في الرد على أهل الكتاب. كما أن هذا الكتاب طرح إشكالية أمام الباحثين تحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة فيما يتعلق بالحاجة الملحة لدراسة نصوص التوراة والأناجيل وتقديم أجوبة شافية لكل هذه التساؤلات.


الهوامش

[1] تراجع ترجمته في : طبقات الشافعية 3 /9 4 2 – وفيات الأعيان 1 /361 – شذرات الذهب 3/358 . ..

[2] الإحالات في المتن من كتاب (شفاء الغليل) ،للطبعة التي قام بتحقيقها د/ احمد حجازي السقا ونشرتها مكتبة الكلية الأزهرية بالقاهرة ، الأولى رمضان 1398هـ ـ  1978م . يراجع  أيضا كتاب ( الجويني إمام الحرمين ،  ا.د / فوقية حسين محمود ، سلسلة: أعلام العرب ( 0 4 ) ط الثانية 1970م – وتقديمها أيضا لنشرتها المحققة لكتاب الجويني (لمع الأدلة) ، ط المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر 5 69 1 م ، سلسلة : تراثنا – وتقديمها أيضا لنشرتها المحققة لكتابه (الكفاية في الجدل) ، ط عيسى الحلبي بالقاهرة . . .

[3] جهود علماء المسلمين في نقد الكتاب المقدس من القرن الأول حتى القرن السابع الهجري ـ عرض ونقد ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’، ص: 93

[4] أخرجه الإمام أحمد بسنده عن عبدالله بن ثابت.

[5] جهود علماء المسلمين في نقد الكتاب المقدس من القرن الأول حتى القرن السابع الهجري ـ عرض ونقد ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’، ص: 94-95

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.