التدرج في التشريع والاستفادة منه في مجال الدعوة
التدرج في التشريع والاستفادة منه في مجال الدعوة/ سهام مهدي
التدرج في التشريع والاستفادة منه في مجال الدعوة
بقلم: سهام مهدي
أنزل الله تعالى القرآن الكريم على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان نزوله حدثا جللا يؤذن بمكانته لدى أهل السماء والأرض، فإنزاله الأول أشعر العالم السماوي من الملائكة بشرف الأمة المحمدية التي أكرمها الله بهذه الرسالة الخاتمة لتكون خير أمة أخرجت للناس، وتنزيله الثاني مفرقا على خلاف المعهود في إنزال الكتب السماوية السابقة لحكم إلهية، ومن بينها:
-تثبيت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
-التحدي والإعجاز.
-تيسير حفظه وفهمه.
-مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع.
و هذا الأخير هو موضوع بحثنا، فكيف تدرج التشريع بالأمة؟ وكيف يمكن الاستفادة منه في مجال الدعوة؟
أولا: التدرج في التشريع
بدأ القرآن الكريم عند نزوله بأصول الإيمان، الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار، ويقيم على ذلك الحجج والبراهين حتى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنية ويغرس فيها عقيدة الإسلام، و كان يأمر بمحاسن الأخلاق التي تزكو بها النفس ويستقيم عوجها، وينهى عن الفحشاء والمنكر فيقتلع جذور الفساد والشر. ويبين قواعد الحلال و الحرام التي يقوم عليها صرح الدين، وترسي دعائمه في المطاعم والمشارب والأموال والأغراض والدماء[1].
وخير مثال على سير التشريع الإسلامي وتدرجه الحكيم:
- ما نزل في الخمر
روى الطيالسي في مسنده عن ابن عمر قال: نزل في الخمر ثلاث آيات فأول شيء:“يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا” ( البقرة:219) فقيل: حرمت الخمر فقالوا: يا رسول الله دعنا ننتفع بها كما قال الله فسكت عنهم. ثم نزلت هذه الآية:“لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ”( النساء:43) فقيل حرمت الخمر قالوا: يا رسول الله لا نشربها قرب الصلاة فسكت عنهم. ثم نزلت: ” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ”(المائدة 90-91) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:” حرمت الخمر”[2].
ثانيا: التدرج في الدعوة إلى الله تعالى
إن ما ورد في التشريع الإسلامي من تنجيم في نزول القرآن ومن تدرج في بناء الأحكام، يعتبر إرشادا إلهيا في كيفية تحويل أهل الجاهلية إلى أهل العلم والنور.
فعلى الداعية أن يعلم من أين يبدأ، وما الذي عليه، فلا يكفي أن يكون عالما بأحكام الدين، حافظا لها، عالما بمقاصد الشريعة الإسلامية ومدركا لأصولها، بل لابد له من الإلمام بواقع المجتمع، ودراسة ما عليه أهله من صفات وطبائع، ويشخص ما فيه من علل وأمراض حتى يتمكن من علاجها.
وفهم واقع المجتمع يمكن الداعية من تحديد عدة أشياء منها أمراض المجتمع على وجه التحديد، ثم من أين يبدأ العلاج، وكيف يتدرج به، وما هو الأولى في التطبيق، وفهم الواقع يساعد على تحديد كمية العلاج في كل مرحلة من مراحل التدرج[3].
وما يؤكد أهمية التدرج في الدعوة ما ذكرته أمنا عائشة رضي الله عنها:”إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا”[4].
وبين الإمام ابن حجر في شرحه لهذا الحديث الحكمة من هذا التدرج:” فقال أشَارَتْ إِلَى الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي تَرْتِيبِ التَّنْزِيلِ وَأَنَّ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ الدُّعَاءُ إِلَى التَّوْحِيدِ وَالتَّبْشِيرُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْمُطِيعِ بِالْجَنَّةِ وَلِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي بِالنَّارِ فَلَمَّا اطْمَأَنَّتِ النُّفُوسُ عَلَى ذَلِكَ أُنْزِلَتِ الْأَحْكَامُ وَلِهَذَا قَالَتْ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُهَا وَذَلِكَ لِمَا طُبِعَتْ عَلَيْهِ النُّفُوسُ مِنَ النَّفْرَةِ عَنْ تَرْكِ الْمَأْلُوفِ”[5].
وهكذا فإن الدعوة إلى الله تحتاج إلى تدرج، فإذا أراد الداعية تحقيق المبتغى من دعوته فلا يتوهم أن يتحقق له ذلك دفعة واحدة، بل لابد من تقديم الأهم من الأمور على المهم منها، وأن ينطلق من كليات الأمور إلى الجزئيات منها.
والحمد لله رب العالمين.
[1] مناع القطان، مباحث في علوم القرآن، مؤسسة الرسالة ناشرون- دمشق، الطبعة الأولى2011م-1432ه، ص102.
[2] محمد عبد العظيم الزُّرْقاني (ت ١٣٦٧هـ)، مناهل العرفان في علوم القرآن،الناشر: مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاه، الطبعة: الثالثة، (1/101).
[3] معاوية أحمد سيد أحمد، فقه التدرج في التشريع الإسلامي فهما وتطبيقا، مجلة جامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية، العدد التاسع1425ه-2004م،ص:48.
[4] أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري الجعفي، صحيح البخاري، المحقق: د. مصطفى ديب البغا، الناشر: (دار ابن كثير، دار اليمامة) – دمشق، الطبعة: الخامسة، ١٤١٤ هـ – ١٩٩٣ م، كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن، رقم الحديث4707.
[5] أحمد بن علي بن حجر العسقلاني (٧٧٣ – ٨٥٢ ه)، فتح الباري بشرح صحيح البخاري،الناشر: دار المعرفة – بيروت، ١٣٧٩
رقم كتبه وأبوابه وأحاديثه: محمد فؤاد عبد الباقي، قام بإخراجه وصححه وأشرف على طبعه: محب الدين الخطيب،عليه تعليقات العلامة: عبد العزيز بن عبد الله بن باز،(9/40).