المساجد بين الإحسان والجشع المادي المخرب لها | سلسلة خطبة الجمعة
الأستاذ بن سالم باهشام
المساجد بين الإحسان والجشع المادي المخرب لها | سلسلة خطبة الجمعة
الأستاذ بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عباد الله، الأرض كلها لله، قال تعالى في سورة الأعراف: (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ، يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]، إلا أن هناك بقاعا فضّلها الله سبحانه وتعالى على غيرها من البقاع؛ وما ذلك إلّا لأنّها تميّزت بما يُوجب لها التفضيل والتعظيم، ككونها محلاً للعبادة وممارسة الشعائر، أو لغير ذلك من الامتيازات، وبما أن لمعرفة البقعة الأفضل أهمّية كبيرة؛ لما يترتّب على ذلك من آثار فقهية وأخلاقية من جهة وجوب احترامها وتقديسها أكثر من غيرها، وقصدها لغرض العبادة والدعاء، والإكثار من الطاعات فيها، ونحو ذلك من الآثار والأحكام، والمساجد أحب البقاع إلى الله تعالى.
روى مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللَّهِ أَسْوَاقُهَا)[ أخرجه مسلم (1/464 ، رقم 671)]، وأحبها كذلك إلى رسوله – صلى الله عليه وسلم-، وإلى عباده المؤمنين الصالحين؛ حتى شبهها النبي -صلى الله عليه وسلم- ببيوتهم؛ من دخلها فقد حل ضيفًا على ربه، فلا قلب أطيب، ولا نفس أسعد من رجل حل ضيفًا على ربه، وفي بيته، وتحت رعايته. روى الطبراني، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْمَسْجِدُ بَيْتُ كُلِّ تَقِيٍّ، وَتَكَفَّلَ اللَّهُ لِمَنْ كَانَ الْمَسْجِدُ بَيْتَهُ، بِالرَّوْحِ وَالرَّحْمَةِ، وَالْجَوَازِ عَلَى الصِّرَاطِ، إِلَى رِضْوَانِ اللَّهِ إِلَى الجَنَّةِ) [أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (2/22) . وابن أبى شيبة (7/114 ، رقم 34610)]، وهذه الضيافة تكون في الدنيا بما يحصل في قلوبهم من.الاطمئنان والسعادة والراحة، وفي الآخرة بما أَعَدَّ لهم من الكرامة في الجنة. وروى البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ نُزُلًا كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاحَ).[ أخرجه البخاري (1/235 ، رقم 631) ، ومسلم (1/463 ، رقم 669)]
وقد بينت السيرة النبوية مكانة المسجد من الدين، ومرتبته في إطار فقه الأولويات، بحيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اهتم ببناء المساجد في أي تجمع سكني، ويظهر ذلك في كونه -صلى الله عليه وسلم- لم يستقر به المقام عندما وصل إلى حي بني عمرو بن عوف في قباء، حتى بدأ ببناء مسجد قباء، وقباء هذه؛ ضاحية من ضواحي المدينة المنورة، تقع في الجهة الجنوبية الغربية الموالية لمكة، على طريقها المسمى طريق الهجرة، وهو الطريق الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم عندما خرج من مكة، واتجه صوب المدينة مهاجراً إليها، وبرفقته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد كان جمهور الأنصار رضي الله عنهم من أهل المدينة، قد تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهر المدينة في الحرة فرحين به مسلمين عليه وعلى صاحبه، فعدل الرسول صلى الله عليه وسلم ذات اليمين حتى نزل بقباء، وأقام في دار بني عمرو بن عوف، وذلك في يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وكان نزوله عند كلثوم بن الهدم، شيخ بني عمرو بن عوف، ومكث عنده أربعة أيام يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس – وقيل بضع عشرة ليلة – وأسس خلالها بقباء، المسجد الذي أُسِّسَ على التقوى، وصلى فيه.وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم أساس المسجد، وقام بالمشاركة الشخصية في بنائه، وسارع الصحابة المهاجرون منهم والأنصار في إعماره،وكان مسجد قباء، هو أول مسجد أسس على التقوى، وفيه قال سبحانه وتعالى في سورة التوبة مشيدا به وبمعمريه: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ، فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) [التوبة: 108]
عباد الله، لقد خرج – صلى الله عليه وسلم- راكبا ناقته متوجها حيث أمره الله، فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف، فصلاها في بطن الوادي، فخرج إليه رجال من بني سالم منهم العباس بن عبادة، وعتبان بن مالك، فسألوه أن ينزل عندهم ويقيم، فقال : خلوا الناقة فإنها مأمورة. وعن الصورة المفصلة لوضع أساس المسجد وقت بنائه؛ روى الطبراني عن جابر رضي الله عنه قال: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، قال لأصحابه: انطلقوا بنا إلى أهل قباء نسلم عليهم، فأتاهم فسلم عليهم؛ فرحبوا به، ثم قال: يا أهل قباء؛ ائتوني بأحجار من هذه الحرة، فجمعت عنده أحجار كثيرة، ومعه عنزة له (وهي عصا مثل نصف الرمح؛ لها سنان مثل سنانه)، فخط قبلتهم، فأخذ حجراً فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا أبا بكر؛ خذ حجراً فضعه إلى حجري، ثم قال: يا عمر خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر أبي بكر، ثم قال: يا عثمان خذ حجراً فضعه إلى جنب حجر عمر، ثم التفت إلى الناس فقال: ليضع كل رجل حجره حيث أحب على ذلك الخط)، وروى الطبراني في المعجم الكبير، عن الشموس بنت النعمان قالت: (نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم وأُنزل وأسس هذا المسجد مسجد قباء، فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يهصره الحجر ،”أي يقيمه ويضمه إليه لثقله”، وأنظر إلى بياض التراب على بطنه أو سُرّته، فيأتي الرجل من أصحابه ويقول: بأبي وأمي يا رسول الله، أعطني أَكْفِك، فيقول: لا؛ خذ مثله)، ويرجَّح أن يكون المسقط الأصلي، عبارة عن قطعة أرض مربعة، أحيطت بسور من الحجر أُخذ من الحرة المجاورة، ومن المؤكد أنه لم يكن به أروقة مغطاة عند الإنشاء، حيث إن الفترة التي قضاها الرسول صلى الله عليه وسلم في قباء، كانت قصيرة ولم تتجاوز أربعة أيام، ولا تسمح بعمل سقيفة. وبهذا كان مسجد قباء، أول مسجد بُني في المدينة، وأول مسجد بني لعموم المسلمين؛ في تاريخ الإسلام، في الجنوب الغربي من المدينة المنورة، ويبعد ب 3.5 كيلومترات عن المسجد النبوي الشريف، ويبعد أيضاً عن المسجد النبوي الشريف مقدار نصف ساعة بالمشي المعتدل، وعندما واصل -صلى الله عليه وسلم- طريقه إلى المدينة، كان أول عملٍ قام به هو تخصيص أرض لبناء مسجده -صلى الله عليه وسلم-.[ أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي، البداية والنهاية، صفحة 519. بتصرّف]، قبل بناء بيته، وقبل استقراره، لأن المسجد هو ساحة العبادة، ومدرسة العلم، ومنطلق الجيوش لمقارعة الأعداء، و فيه يجتمع الناس كل يوم خمس مرات، الغني والفقير، والأمير والمأمور، والصغير والكبير، جنبًا إلى جنب، فيشعرون بالمواساة والمحبة والمودة، ويتفقد بعضهم بعضًا، وفي نهاية الأسبوع، يكون لخطبة الجمعة الأثر البالغ في نفوسهم، وفيه تُعْقَدُ حِلَقُ العِلمِ التي خَرَّجَت الآلاف من العلماء، وطلبة العلم من شتى البقاع، وكذلك حلق تحفيظ القرآن الكريم، والدروس والمحاضرات، والكلمات،.. ونحوها.
عباد الله، لما استوعب الصحابة رضي الله عنهم أهمية المسجد، ودوره الأساسي في وسط أي تجمع سكني، لم يكتفوا بالحفاظ على مساحة وشكل مسجد قباء،بل اهتموا بعمارته خلال العصور الماضية، لتتماشى طاقته الاستيعابية مع عدد السكان، لهذا جدده عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم عمر بن عبد العزيز رحمه الله في عهد الوليد بن عبد الملك، وتتابع مَن بعدَهم على توسيعه وتجديد بنائه؛ حتى كانت التوسعة الأخيرة، وانتهت أعمال التوسعة عام 1407 هـ، فبلغت مساحة المصلى وحده 5000 متر مربع، وبلغت المساحة التي يشغلها مبنى المسجد مع مرافق الخدمة التابعة له 13500 متر مربع، وأصبح يستوعب 20.000 مصلي، وفي رمضان 1443هـ، تم إطلاق أكبر توسعة في تاريخ مسجد قباء، وتطوير المنطقة المُحيطة به، ويهدف المشروع إلى رفع المساحة الإجمالية للمسجد لـ 50 ألف متر مُربع، وبطاقة استيعابية تصل إلى 66 ألف مُصلٍ، وأبواب مسجد قباء أصبحت تفتح طوال اليوم، بدءاً من ليلة 14 ربيع الآخر 1440هـ، وهكذا ينبغي التعامل مع كل المساجد في كل بقاع العالم، تشييدا وتوسعة، لما لها من دور فعال في المجتمع المسلم.
عباد الله، إن المساجد هي بيوت الله – تعالى- في أرضه، جعلها الله أمناً وأماناً، ومكاناً لعبادة الله -سبحانه تعالى- وحده، قال – تعالى- في سورة الجن : (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا) [سورة الجن، آية:18]،
عباد الله، لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على من يعمر المساجد حسا ومعنى، فقال -جلَّ جلاله- في سورة التوبة: ﴿إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِين ﴾ [سورة التوبة، آية:18].
عباد الله، إن بناء المساجد لله، من الصدقات الجارية، والحسنات الدائمة التي يستمر أجرها للإنسان بعد موته، روى ابن خزيمة في صحيحه، أن رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ). [ابن خزيمة في صحيحه ج4/ص121 ح2490].
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ، بَنَى اللَّهُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ مِثْلَهُ)[ البخاري برقم 450، وصحيح مسلم برقم 533.].
عباد الله، إذا كان الواقع المعيش يشهد لكثير من المحسنين الذين رغبوا فيما عند الله من أجر وثواب وبركة في الرزق والعمر، فتصدقوا بخالص أموالهم، وشيدوا مساجد في أماكن متعددة، فإنه بالمقابل لذلك أصناف من أباطرة العقارات في جل المدن، والذين غلبه عليهم الطمع، وأهلكهم الجشع، وغلف حب الدنيا قلوبهم، فتجاهلوا لقاء ربهم، واستهانوا بانتقام خالقهم؛ ممن تطاول على بيوت الله، فغيروا تصاميم الأراضي المعدة للبناء، بعد حصولهم على رخص البيع، وباعوا البقع التي خصصت لبناء المساجد، وحرموا السكان من صلاة الجماعة، ولقد بيَّن سبحانه وتعالى أن من أعظم الجرائم، صد الناس عن بيوت الله، والسعي في خرابها، وأن الجزاء في ذلك خزي في الدنيا، وعذاب عظيم في الآخرة، قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا، أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ، لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم ﴾ [البقرة: 114].
فإطلاق هذا النص القرآني، يوحي بأنه حكم عام في منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، والسعي في خرابها . ويدخل ضمن هؤلاء، هذا الصنف ممن يتطاول على البقع المخصصة لبناء المساجد في تلك التجزئات العقارية، والمجموعات السكنية، ويشملهم كذلك الحكم الذي يرتبه تعالى على هذه الفعلة، ويقرر أنه هو وحده الذي يليق أن يكون جزاء لفاعليها . وهو قوله تعالى : ﴿ أُوْلَـئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَآئِفِينَ﴾، أي أنهم يستحقون الدفع والمطاردة والحرمان من الأمن بكل أنواعه، إلا أن يلجأوا إلى بيوت الله، معتصمين بها، والتي لم تكن لها اعتبار عندهم من قبل، لتطاولهم على البقع المخصصة لها، مستجيرين محتمين بحرمة المساجد المشيدة التي بناها المحسنون، مستأمنين، وذلك كالذي حدث في عام الفتح، إذ نادى منادي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يوم الفتح : من دخل المسجد الحرام فهو آمن …فلجأ إليها المستأمَنون من جبابرة قريش ، بعد أن كانوا هم الذين يصدون رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ومن معه، ويمنعونهم زيارة المسجد الحرام، ويزيد على هذا الحكم ما يتوعدهم االله به، من خزي في الدنيا، وعذاب عظيم في الآخرة : ﴿ لهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ، وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم ﴾، فليعلم هذا الصنف من الطماعين الجشعين، أن وعد الله حق، وأن انتقامه واقع لا محالة، وأن الله يمهل ولا يهمل، وأن باب التوبة مفتوح في وجه كل من أراد أن يتوب إلى الله، ويرد الأراضي المخصصة لبناء المساجد إلى أصحاب تلك التجزئات العقارية، والمجموعات السكنية، لتشييد المساجد بها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.