فن الطعام، بين الذاكرة والنسيان..
بقلم: لمياء كرماس
مما صادفت مؤخرا خلال بحث أقوم به، معلومة فريدة لم أطلع عليها سابقا، تقول أن كلمة “جماعة” أو “شركة” بالإنجليزية هي “Company”.. وتتحدر اشتقاقا من اللاتينية وتعني حرفيا :”خبز مع”، أي الجماعة من الأفراد التي تقتسم الخبز فيما بينها.
ليس يوجد أفضل من هذا المعنى لأبدأ به طرح هذا المقال الجديد الذي أروم فيه إلى الحديث عن بعد آخر من أبعاد فنون الطبخ والطعام والمائدة..
اقتسام الخبز حسب كلمة Company قد يعني أيضا السعي إلى تحصيل لقمة العيش كأفراد ضمن جماعة ذات مشترك اجتماعي معين.. واقتسام الخبز في مشتركنا الاجتماعي المغربي يعني:“نشركوا الملح والطعام”
فمشاركة الطعام في ثقافتنا وعرفنا المغربي فعل ذو قيمة رمزية عظيمة كالمصاهرة و”مشاركة الدم”، وقد تفضي مشاركة الطعام إلى المصاهرة كما قد تمنع مشاركة الطعام انقطاع الرحم والنسب!!
إن أول ما يجب التذكير به بعد هذه الالتفاتة هو أن الطعام ليس حاجة فيزيولوجية فتم، بل هو سكة بحث أساسية، بالسير عليها يُعرف تاريخ الشعوب وتُعرف هويتها.. هو بحث في الشيفرة الثقافية للأكل وليست فقط وصفاته الطبيخية.
ولا يخفى عنا جميعا أن الطعام بالمغرب يأخذ مسميات كثيرة أخرى ك:”الطعام” والمقصود به أيضا “كسكسو” وك “الدواز” و “القوت” و “الماكلة” و”النعمة” و “القص” أيضا.. ويحمل كل مسمى من هذه المسميات مباشرة عند لفظه ذكرى مشتركة وذكرى خاصة فردية.. وهذا مرتبط بالذاكرة الذوقية المشتركة بين جماعة تتقاسم نفس المجتمع، وبالذاكرة الذوقية الفردية La mémoire sensorielle التي تتشكل منذ نعومة الأظافر..
يحمل كل منا ذاكرته الخاصة المرتبطة بالطعام ليس كغذاء لطمس الجوع وإنما كأحداث وسلسلات تفاعلات نفسية وَحسية تساهم بشكل كبير في بناء الهوية والشخصية.. فالإنسان دون ماض أو ذكرى هو شخصية بفراغ مهول يهز ثباتها كالشجرة دون جذور.
فالحديث عن بعض الأطباق والوصفات المكونة من مواد معينة كالكرنينة أو الحميطة أو طبق الرفيسة العمية أو الرفيسة الصمكة يحيلنا مباشرة إلى ذكرى المجاعة أو “عام الجوع” او “عام البون”.. حتما لم أعش هذه الفترة التاريخية لكن تناقل الأطباق جيلا عن جيل وتناقل سياقها التاريخي بتفاصيله وسرد شدائد وطرائف الأزمة كان كافيا بأن تسجل ذاكرتي الذوقية مذاق الرفيسة العمية الذي يغلب عليه طعم البقوليات وتربطه بمرحلة زمنية معينة.. لهذا نجد أكثر الأطباق تفضيلا لدينا تلك التي لها صلة بالذاكرة لما تحمله من موقف سابق أو جمع أحباب أو مناسبة أو حدث، وقد يكون مذاق الخبز اليابس المحمص في فرن الحطب (بُجْماطْ) أو فوق الفحم أَحَبَّ على الفطور لقوة ذكراه لا لقوة مذاقه!!
إن فصل صناعة الطعام أو إعداده عن جذره الرمزي والإجتماعي هو كسر عميق لرمزية الطعام ومشاركته.. فاقتسام الطعام هو تقاسم لمجموعة من الخصائص التي تحدد انتماءنا وهويتنا وتضعنا في نسق متجانس مصنف يميزنا.. وبهذا تصير ممارستنا لإعداد الطعام ومشاركته ممارسة رمزية وقيمية لا ممارسة وظيفية اقتصادية.
وبالتالي فإنه بمراقبة السلوك الغذائي للمجتمع يمكن أن نفهم ما يعرفه من تغيرات اجتماعية وثقافية أو طفرات أو تطورات أو تحولات اقتصادية.. وبعد المراقبة التي صارت الآن في متناول الجميع، فهو جلي لنا هذا الشرخ الحاصل بين الذاكرة الذوقية المشتركة وبين السلوك الغذائي الحديث في المجتمع المغربي..
هذا الإنتشار الرهيب للمأكولات السريعة الذي يكرس ثقافة الانفرادية ويلغي ثقافة المشاركة والجماعة، وهذا ضمور خطير للتضامنات الإجتماعية لصالح السرعة والاستهلاك والمصلحة الفردية، وهوة فراغ كبيرة تمنع تشكل الذاكرة الذوقية للأطفال والشباب اليافع الذي هو حامل التاريخ للمستقبل.
تغيرت العادات الغذائية بالبيوت التي كانت المحضن والرحم الولود الذي ينسل التقاليد الغذائية ويحفظها، وصفات و أطباقا وعادات وطقوس… ، ويحفظ السياق الاجتماعي والثقافي والاقتصادي لفن المائدة وتاويلها، ويرضع جيلا بعد جيل حليب الهوية ورمز “الدواز” و”الطعام” ورمز “العيد الكبير” و”حاكوزة” و”المولد” و”عاشورة” ورمز “حق الملح والطعام”.
اهتمام الجيل الناشئ بفن الطعام يسير في منحى غير الذي يجب، ولست هنا أعزل الجيل الناشئ أنه ضعيف أو مقصر أو فاشل.. إنما أحاول انطلاقا من احتكاكي اليومي به أن أحدد مدى وجوب استدراك توعيته بأهمية حرصه على الذاكرة التشاركية للطعام ومنه تأسيس ذاكرته الخاصة عن طريق البحث والتنقيب والمشاركة والإعداد والنشر لمميزات الطعام المغربي بصفة عامة، أي ثقافة الطعام في شموليته كما سبق وليس في معناه الفيزيولوجي.
خلال تقييم تشخيصي Evaluation diagnostique قمت بها مع أكثر من 7 مجموعات تتكون كل منها من 18 شابا متهممين بفنون الطبخ أعمارهم بين 17 و25 سنة.. تفاجأت أن معظمهم يصنفون “زعزع”(1) و “البوكاديو” و”الطورطيا” أطباقا مجالية مغربية تراثية!! إذا ميزنا الكسكس والطاجين (لحم أو دجاج لا غير) والرفيسة، فإن غيرها من الأطباق الغنية الغزيرة الأخرى لا تجد لها مكانا في ذاكرة الشباب، سواء من حيث السياق التاريخي ولا من حيث الذكرى الذوقية كطعم ومواد ونكهات..
إن غياب هذا الارتباط بالجذور التاريخية لفنون الطعام والمائدة، وافتقار الذاكرة هو ظلم وسلب وكسر نتحمل مسؤوليته جميعا، أفرادا وجماعات.. لا يمكن الآن بأي حال الحديث عن أطباق مبتكرة ناجحة ومواكبة للتطور إلا إن كانت تحمل بين جزيئات الطعم ذكرى، فيها ذرات تنقل المتذوق إلى فترات معينة من طفولته أو شبابه، أو تحيله على أحداث مغروسة في ذاكرته. وكنموذج لذلك مقطع من فيلم La Ratatouille حيث غير الناقد رأيه في المطعم والطباخ كليا بمجرد تذوقه لطبق ذكّره في صباه وذكرياته مع جدته..
لا يمكن لمحضر الطعام والطباخ الحرفي خاصة أن يقوم بمعالجة المواد وطهيها بشكل آلي تقني محض دون أن يحقن فيها جرعات من ترياق ذاكرته، وليس يحتل الطبخ المغربي مراتب متقدمة في التصنيف العالمي إلا لما يكتنزه من تاريخ عريق وأحداث مهمة تميز كل طبق بمناسبات متعددة وما يلازمها من رموز أخرى كاللباس و”الجلسة” و الألفاظ والطقوس والأحوال…
فواجب حفظ التراث الذوقي المغربي عن طريق تخزينه كذكرى في حياة الشباب اليافع، كمركب متجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتطلعات مهمة الجميع، أما وأبا وجارا وصديقا وأقارب ومكونين متخصصين ينتجون شبابا واعيا بهويته..
فالطعام ذاكرة تستنطق تاريخا اجتماعيا كما أنه شيفرة رمزية لقراءة الإرث الثقافي للمجتمع، وحفظها وتناقلها هو حفظ وضمان لاستمرار هذه الهوية التي هي رأسمال المستقبل.
مراجع معتمدة:
كتاب “قرابة الملح” لمؤلفه الدكتور عبد الرحيم العطري.
(1): عصير فواكه مركب يضاف إليه كزينة مكسرات وقشطة مخفوقة وقطع من حلوى”الفلان Flan”.
الانتقال من الطعام من مجرد تكديسه في البطن إشباعا لشهوة عابرة إلى ربطه بالذاكرة والأحداث التاريخية أو الاجتماعية لهو التجديد بعينه في مجال الطبخ،وسمو بهذه الهواية إلى أفق يميزنا عن سائر البهائم،وتحقيق لإنسانيتنا واستخلافنا في الأرض…
دام لك التألق والتميز