عاشت البشرية موجات من الأوبئة أثرت لا محالة في اتجاهاتها القِيمية وتركيبتها النفسية والاجتماعية ،فشهدت تغيرات جذرية في نمط حياتها اليومية، وظهرت قيم وأفكار وأنماط مختلفة للحياة الإنسانية.وقد اكد علم النفس الاجتماعي أن ثمة أنماطًا سلوكية ونفسية جماعية ارتبطت بأوقات الأوبئة، مثل: الطاعون، أو وباء الإنفلونزا الإسبانية، فضلًا عن ارتباطها بانتشار أمراض مثل الإيدز لأول مرة بين بعض المجموعات، وهو ما دفع إلى دراسة أنماط استجابات المجتمعات خلال أوقات انتشار الأوبئة، وظهر في هذا الإطار مفهوم “سيكولوجيا الأوبئة” (Epidemic Psychology).[1]
ويركز المقال على أثر وباء كورونا في سلوك الأفراد داخل الأسرة خاصة في زمن الحجر الصحي وبروز مجموعة من الإشكالات النفسية والاجتماعية مثل الاكتئاب والعنف ، لتكون الإشكالية على النحو الآتي :ما أثر وباء كورونا على القيم الأسرية ،
إشكالية يتفرع عنها مجموعة من الأسئلة الفرعية:
ما أثر التمسك بالقيم الإسلامية في تحصين الفرد والأسرة في زمن الوباء ؟
ما موقع القيم الأسرية الحداثية في زمن الوباء ؟
ما التغيرات القيمية التي ستعرفها الاسر بعد زمن كورونا؟
أسئلة أعتقد أن الإجابة عنها ستمكننا من بيان أهمية القيم الإسلامية في تجاوز الإشكالات التي يعاني منها الفرد والأسرة عموما
القيم الأسرية الإسلامية: مقومات النجاح في زمن الوباء
القيم أساس من أسس قوة الأسرة وشرط من شروط بقائها واستمرارها، فلا صلاح للأسرة دون قيم ينشأ عليها الفرد منذ طفولته فيخرج إلى المجتمع وقد اكتسب معالم الخير في شخصيته ، شخصية متزنة تؤمن بالعدل والإحسان والمودة والرحمة والتعاون والتكافل.ولأجل توضيح ذلك نقف عند بعض السمات والمقومات بمزيد من الشرح.
1-العدل والإحسان
يعتبر العدل ركيزة أساسية في استقرار الأسرة يتجلى ذلك في إقرار التساوي بين الرجل والمرأة في الكرامة الإنسانية وفي التكاليف وفي الحقوق والواجبات ،وهي مساواة لا تقوم على المماثلة التامة والمطابقة بل تقوم على التكامل وتوزيع الأدوار، ذلك بأن المساواة المقصودة ليست مطلقة بل هي مقيدة بأحوال يجري فيها التساوي”[2].
أما الإحسان فهو حاضر في العلاقات الأسرية في جميع أحوالها سواء أثناء الارتباط أو عند الانفصال والافتراق، فنجاح البيت الأسري يستلزم حضور المودة والرحمة والتي من لوازمها الإحسان، وتطبيق ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر الإحسان إلى الزوجة من تمام الإيمان فقال عليه السلام:”إن أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وألطفهم بأهله”[3] والإحسان إلى الأخوات والبنات سبيل دخول الجنة قال عليه السلام :”من كانت له ثلاث بنات أو ثلاث أخوات أو ابنتان أو أختان فأحسن صحبتهن و اتقى الله فيهن فله الجنة”[4].
2– المودة و الرحمة
المودة روح تجمع أفراد الأسرة وتجعل كل واحد منهم يتودد للآخر بقدر ما يقدمه له من خدمة أو إعانة أو مساندة في أوقات الرخاء أو الشدة،وهي روح لا يتصور غيابها داخل الأسرة فإذا غابت انتفى السكن بل إن غياب السكن مؤشر حقيقي على غيابها، إذ لا معنى للمودة دون سكن نفسي يعود على الزوجين.
أما الرحمة فهي صفة تبعث على حسن المعاملة[5]“وخلق رفيع يجعل كلاً من الزوجين يخشى ربه ويراعي ما عليه من حقوق تجاه زوجه.فالرحمة عنصر من أهم عناصر العشرة بين الزوجين وهي تبقى في حالات الرخاء والشدة وتكون أكثر وضوحا في حالات الشدة”[6].
يقول الأستاذ عبد الحليم أبو شقة: “أما إذا فتر الحب فلا بد من الأصل الثاني الذي تقوم عليه الأسرة وهو الرحمة، وهنا يتأكد البحث في الحقوق حتى لا تضيع”[7].
3-العفو والتكافل
العفو هو التَّجاوُزُ عن الذنب وتَرْكُ العِقابِ عليه وأَصلُه المَحْوُ والطَّمْس وهو من أَبْنِية المُبالَغةِ، يقال عَفَا يَعْفُو عَفْواً فهو عافٍ وعَفُوٌّ، قال الليث العَفْوُ عَفْوُ اللهِ عز وجل عن خَلْقِه والله تعالى العَفُوُّ الغَفُور
والعفو من الركائز الأساس لتماسك الأسرة المسلمة،فالحياة الأسرية هي حياة قد يختلط فيها رغد العيش بنكده،والسعادة والمحبة بالخصام والتنافر،من هنا كان العفو والتسامح عما يحدث من زلات وهنات ومن عدم أداء الحقوق في بعض الأحيان مظنة لاستمرارها إذ التمسك بالحقوق دائما قد يؤول إلى ما لا يحمد عقباه بل إن قبول الميسور من أخلاق الناس قد يجعل العلاقات أكتر لحمة وارتباطا ذلك بأن الطباع تختلف وأحاديث النفس تفترق ومشاكل الحياة تتناسل، لذلك كان العفو ترياقا شافيا لكثير من المعضلات والأزمات الأسرية.
أما التكافل:
فهو مساهمة أفراد الأسرة القريبة والبعيدة في حل مشاكل الأسرة وفض ما يحدث من خصام و صراع داخلها، بل وفيما يعترضها من صعوبات مادية قد تهوي بها إلى أسوار المحاكم وبؤس العيش،
تلك إذن بعض القيم الأسرية في القرآن الكريم وهي قيم تنضوي تحت لواء قيم حاكمة يمكن أن نجعلها في أربع وهي قيم إيمانية وقيم إنسانية وقيم تربوية وقيم عمرانية
أما القيم الإيمانية فهي تحدو بالمكلف إلى الاستسلام الطوعي للأحكام،استسلاماً مؤسساً على العلم نابعاً من الرضى والحب راجيا الثواب والجزاء الأخروي.وحضوره يجعلنا في منأى عن عدة إشكالات تعاني منها الأسر اليوم تتجلى في عدم مراقبة الله عز وجل واستعمال الأحكام في غير المصلحة التي شرعت لها.
وأما القيم الإنسانية:
فهي مجموعة من المواهب والملكات التي تميز الإنسان عن غيره ،مواهب تدل على طبيعته وحقيقته وصفته ودوره الذي أنيط به.وهي تراعي كرامة الانسان تطبيقاً لقوله تعالى( ولقد كرمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر)[8].
يقول الدكتور مصطفى بن حمزة بقوله :وعلى هذا الذكر لا يمكن أن يفاضل بينه وبين الأنثى إلا كما يمكنه أن يفاضل بين يده ورجله أو بين سمعه وبصره أو بين قلبه وكبده من أعضاء التي إن اختلفت وظيفةً وعملاً فإنها تتكامل في منحه فرصة الحياة [9] .
وأما القيم التربوية:
فهدفها:تطهير الباعث كي لا يحرك الإرادة إلى تحقيق غايات غير مشروعة تناقض مقاصد الشارع،ويظهر ذلك جلياً في قصد المكلف من خلال موافقة قصد المكلف لقصد الشارع في التشريع ” فكل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له فقد ناقض الشريعة وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل،فمن ابتغى في التكاليف ما لم يشرع له فعمله باطل” [10].أ
هذه القاعدة من شأنها أن تدفع المكلف وتوجهه نحو السلوك الأخلاقي السليم لعلمه أن التكاليف إنما وضعت في أساسها تحقيقاً لمصلحة المكلف الخاصة والعامة دنيا وآخرة
وأما قيم التعمير:
فهي عملية شاملة تشمل الإنسان الفرد كما تشمل المجتمع كله.،ذلك بأن صلاح الفرد وقدرته على التعمير هو صلاح للمجتمع،وصلاح المجتمع هو صلاح للفرد كذلك، ومن ثم يتمكن كل منهما الإسهام في توجيه الحضارة الإنسانية بل من صياغة أجوبة سديدة لمختلف ما يموج في الواقع من صراع فكري بين تيارات مختلفة تريد أن تبخس من البناء الأسري الإسلامي.
إن النظر الدقيق في مقومات القيم الأسرية يتضح له بأنها الحل الشافي للإشكالات التي تعاني منها الأسرة في زمن الوباء ،فالإنسان الذي كان يستطيع الخروج من منزله أصبح مجبرا على البقاء فيه، والذي كان يكد على عائلته أصبح عاطلا ، والتي كانت تعتقد أن السعادة في قيم استهلاكية أضحى حلمها ضائعا ،فلا قيم الأكل العولمية أصبحت صالحة ولا القيم المستوردة التي يقلد فيها المغلوب الغالب أضحت غالبة ، ولا قيم اللباس التي كانت هاجسا يتأثر فيه الفرع بالأصل باتت معبرة عن الحضارة،
إن المتفحص في مقومات القيم الأسرية الإسلامية ليجدها تدور مع الحالات التي يعيشها الإنسان في حياته كلها وجودا وعدما، فتعالج فرحه وقوته وتجد الدواء الشافي لمعضلاته ومشكلاته، وترسم آفاقا لاستقرار نفسي قد يضيع كلما ابتعد الإنسان عن ربه وعقيدته.
إن القيم الإسلامية تهدف إلى تمكين الفرد من تقدير ذاته والذي يعتبر دعامة أساسية للشخصية على مستوى رصيدها المعرفي والوجداني ونشاطها السلوكي، فقد يؤثر التقدير الايجابي أو السلبي للذات على حاضرها ومستقبلها وعلى اختياراتها وقراراتها ،فارتفاع مستواه يعني أن يمضي الإنسان بطاقاته الخلاقة إلى الأمام ، وانخفاض مستواه يعني انحصار الإمكانية والطاقة داخل الذات وظهور الأعراض المرضية.
ولذلك فقد احتل مفهوم تقدير الذات مكانة محورية لدي علماء النفس والصحة النفسية ، فهو يكشف عن السواء واللاسواء ، وعن الطاقات الكامنة وعن الإحباطات أيضا.كما أن تقدير الذات هو النتيجة المباشرة للعلاقة بين انجازاتنا وانتظارتنا أو بتعبير آخر بين من نكون وما نريد أن نكون، وكلما كانت الهوة كبيرة بين الذات الواقعية والذات المثالية تكون نسبة تقدير الذات ضعيفة.
إن تقدير الذات هو تعبير عن القيمة أو الحب وكلها عناصر أساسية لتحقيق التوازن النفسي والشعور بالرضا، والإحساس بقيمة ما داخل الوجود وهو الذي يحدد مدى التوازن النفسي الذي يحققه ،فإذا كان ايجابيا فهذا يتيح للفرد إمكانية القيام بردود أفعال مناسبة والشعور بالتوافق والسعادة وهذا ولا شك يمنح الذات القدرة على مواجهة صعوبات الحياة والأزمات والمشاكل والأحداث غير المتوقعة، لكن إذا كان سلبيا فسيفضي إلى الإحساس بالتشاؤم وفقدان الثقة بالنفس والشعور بالمعاناة مما يعيق التواصل مع الأشخاص والتكيف مع الواقع فيؤثر على صحتنا النفسية.
ويمكن إبراز أهمية تقدير الذات من خلال العناصر الآتية :
العلاقة مع الجسد:
من خلال تصحيح الصورة حيث إن تصحيح الصورة هو السبيل إلى تحقيق التوازن النفسي كما أن تكوين فكرة ايجابية حول الجسد من شأنه إعادة التوازن الوجداني للشخص.
العلاقة مع الآخرين:
من أجل التغلب على الخوف والقلق وتعزيز الشعور بالقوة والانتماء إلى الجماعة لذلك فهو يسعى إلى البحث عن طرق وآليات الحوار وربط العلاقات الاجتماعية لأن الخلل في ذلك هو الشعور بالإحباط والفشل .
العلاقة مع الفعل أو الانجاز:
والمقصود به تكوين الثقة بالذات إزاء الأفعال والأنشطة التي ينجزها والتي تمنحه القوة والقدرة والإرادة، وذلك بأخذ المبادرة والرغبة في النجاح واتخاذ القرارات المناسبة لأن التقدير الايجابي يدفعنا إلى العمل والابتكار والإبداع والاستقلالية في مقابل أن التقدير السلبي يحكم علينا بالفشل والإحباط والضعف والتبعية.
القيم الأسرية الحداثية :خبو في زمن الوباء
لم يمض على الوباء سوى أيام حتى خبت قيم أسرية كثيرة كان يعدها بعضهم إلى حد قريب مصدر الحضارة والتحضر، ولاشك أن العارف بأسس القيم الأسرية الحداثية يتأكد له بأنها لا تصلح لبيئة إسلامية تؤمن بالأسرة الممتدة وتهدف إلى أمن أسري مستدام ،من هنا وجب الوقوف عند تلك الأسس حتى نتمكن من فهم سبب هذا الضمور والكمون في زمن الوباء .
أسس القيم الأسرية الحداثية
أ- غياب البعد العقدي:
لا تقوم أحكام الأسرة في الفكر الحداثي على أساس عقدي، فلا مطمع في ثواب أخروي ولا في جزاء أو عقاب، فالكل مقيد بالزمان والمكان، لذا نجد تهافتا محموما لبلوغ الأهداف والمصالح المادية، فسقطت بذلك الأسرة في مجموعة من الانقلابات، تحولت فيها المروءة إلى الإمعية والالتزام إلى الحظوظية والسعادة إلى اللعب[11] كما ألغت الوحي في استمداد الأحكام فلا عبرة بالنصوص إذا خالفت العقل والواقع، وكأن لسان الحال يقول: “اتركوا قضايا الأسرة للعقلاء وللعرف السائد”.
يقول “محمد أركون”: “ينبغي إعادة تفحص كل من مكانة العامل الديني والتقديسي والوحي ودراستها على ضوء النظرية الحديثة للمعرفة[12]. ويذهب “نصر حامد أبو زيد” أبعد من ذلك حيث يعتبر أن الاعتماد على المرجعية الدينية هو تعقيد لمشكلات الواقع، يقول: “إن حل مشكلات الواقع إذا ظل يعتمد على مرجعية النصوص الإسلامية يؤدي إلى تعقيد مشكلات الواقع، مع التسليم بأن الخطاب يقدم حلولا ناجعة، ذلك أن اعتمادها لحل المشكلات على مرجعية النصوص الإسلامية من شأنه أن يؤدي إلى إهدار حق المواطنة بالنسبة لغير المسلمين[13].
إذن، من نتائج اعتماد العقل والواقع غياب البعد العقدي بل تغييبه، فأدى ذلك إلى تكريس دنيوية الأحكام.
ب- تكريس دنيوية الأحكام:
إن استبعاد البعد الأخروي من أحكام الأسرة وتكريس الواقع المعيش في استنباط أحكامها، جعل منها أحكاما دنيوية، تهدف إلى تنظيم علاقات أفرادها وفق القيم السائدة في المجتمع دون مراعاة للبعد الديني، فأدى ذلك إلى تغليب الجانب المادي على الجوانب الأخرى لتحصيل أكبر قدر من الرغبات المادية الدنيوية. يقول الأستاذ “طه عبد الرحمان” متحدثا عن الأسرة ما بعد الحداثية[14]: “فلكل فرد منهم الحق في أن يطلب ما يرغب فيه وأن يفعل ما يعجبه كأن ذاته لا تتحقق وتتفتح إلا بالرغبة والإعجاب، ولذا فهو يتولى تحديد رغباته وتنظيمها بحسب ما يراه نافعا وصالحا لوجوده داخل الأسرة متى ترغب في بقائها وإلا فبيده أمر حلها[15].
ويؤكد ذلك الأستاذ “عبد الوهاب المسيري” رحمه الله بقوله: “فالإنسان الذي يتحدثون عن حقوقه هو وحدة مستقلة بسيطة كمية أحادية البعد غير اجتماعية وغير حضارية لا علاقة له بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية هو مجموعة من الحاجات المادية البسيطة المجردة التي تحددها الاحتكارات وشركة الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة والإباحية[16].
ج- خلق الصراع بين أفراد الأسرة:
لا شك أن تغليب دنيوية الأحكام على حساب البعد الأخروي أدى إلى ظهور نوع من الصراع بين أفرادها، خاصة بين دعامتيها وهما الرجل والمرأة، فظهرت حركة التمركز حول الأنثى لمناصرة قضايا المرأة، وبرزت للوجود جمعيات تنادي بضرورة تجريد الرجل من سلطاته داخل الأسرة، وأخرى تدعو إلى الانتقال من الأسرة الأبيسية إلى أسرة يتساوى فيها الطرفان المؤسسان لها.
يقول الأستاذ “عبد الوهاب المسيري”: “والهدف الأساسي لحركة التمركز حول الأنثى في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير هو رفع وعي النساء بأنفسهن وتحسين أدائهن في المعركة مع الرجال وتسييسهن لا بالمعنى الشائع المتداول أي أن يدرك الإنسان الأبعاد السياسية للظواهر المحيطة به ولحقوقه وواجباته السياسية وإنما بمعنى أنه يدرك أن كل شيء إنما هو تعبير عن هذا الصراع الكوني بين الذكور والإناث[17].
إن تبني مثل هذه الأخلاق أدى إلى صياغة منظومة قيمية جديدة تجعل من اللذة والفردية والاستقلالية والحرية الجنسية ركيزة لها، برز ذلك في مجموعة من الاتفاقيات والإعلانات كإعلان حقوق الإنسان، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة وغيرها.
د- الحظوظية
إن تكريس دنيوية أحكام الأسرة وغياب البعد الأخروي جعل منها أحكاما مادية لا يرى فيها إلا المنفعة المادية اللحظية.فالفرد في الأسرة يرجو بلوغ منفعته ورغبته المادية وهو بذلك يغفل عن مصلحة أعظم وهي مصلحة أسرته، يقول الدكتور “طه عبد الرحمان”: “فلكل فرد منهم الحق في أن يطلب ما يرغب فيه وأن يفعل ما يعجبه كأن ذاته لا تتحقق ولا تتفتح إلا بالرغبة والإعجاب، ولذا فهو يتولى تحديد رغباته وتنظيمها بحسب ما يراه نافعا وصالحا لوجوده داخل الأسرة ومتى رغب في بقائها وإلا فبيده أمر حلها[18].
إن تبني مثل هذا الطرح أدى إلى انقلاب الإلزام والذي يتمثل في حفظ الواجب في كل حق إلى حظ لا يقترن بواجب، ولا شك أن غياب ذلك في مؤسسة الأسرة له خطورة بالغة عليها، تمثل في مطالبات بحقوق فردية تتجاهل الأسرة، ومنها، حق الإجهاض، حق الطلاق بالنسبة للمرأة إثباتا لذاتها وإظهارا لشجاعتها، وإنفاق المرأة على الأسرة كالرجل تماما..
ه- التكثير
يرفض الفكر الحداثي كل ثابت ويؤمن بالتحول والتطور،و نتيجة لذلك لم تخرج حقوق الأسرة عن هذه القاعدة، فأصبحت حقوقا متغيرة لا ثابت فيها، تتبع الوقائع والمستجدات والمصالح والغايات..
إن بناء أحكام الأسرة على سمة التغيير جعلها تتصف بالتكثير بل بالغلو، ولذلك لم تعد المطالبات قاصرة على حقوق الأسرة الطبيعية، بل اهتمت المطالبات بحقوق الشواذ وأبناء الزنا والمرأة العازبة وغيرها.
يقول الأستاذ “طه عبد الرحمان”: “فكما أن لأسرة النكاح حقوقا فكذلك لأسرة السفاح حقوقا وكما أن لأسرة الجنسين الضدين حقوقا فكذلك لأسرة الجنسين المثلين حقوقا، وكما أن لأسرة الأم المطلقة حقوقا فكذلك لأسرة الأم العازبة حقوقا[19].
و ما قاله الأستاذ ترجم بشكل واضح في مؤتمر بكين الذي أعترف بتعدد أنماط الأسر وبحقوق الشواذ وغيرها من الحقوق التي لا تنبني للأسرة الطبيعية، وكل ذلك دليل على تميزها بخاصية التكثير.
وخلاصة القول :إن المتفحص في أسس القيم الاسرية الحداثية يتضح له أنها لا تصلح للأسرة الإسلامية خاصة في زمن الوباء فهي قيم تؤمن بالفردانية والتغيير وتخلق الصراع بين أفرادها وتغيب الفعل التكافلي
ولاشك أن القيام بمقارنة بين القيم الأسرية الإسلامية والقيم الحداثية يتضح له أن القيم الحداثية قد خبث فأصبح التآزر والتكافل عنوان المرحلة وأضحت العلاقات الاسرية أكثر تماسكا، ولذلك فالمرحلة هي مرحلة لها ما بعدها في سلم القيم ،فما على المسلمين إلا التنبه لما يصلحهم ويحسن أحوالهم .
[1] مقال سيكولوجيا الأوبئة لهالة الحناوي مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة
[2] – عبد السلام فيغو، المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والالتزامات في الإسلام، الواقع والشبهات، دار القلم للطباعة والنشر، ط1/2005 ص 15.
ص 15.
[3] – الإمام أحمد، المسند باقي مسند الأنصار رقم :24676.
[4] – نفسه، مسند بني هاشم،عبدالله بن عباس،رقم:2000
[5]– المرجع نفسه 10/72.
[6]– يوسف حامد العالم، المفاصد العامة للشريعة الإسلامية، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط 1 1412 1991، ص 413
[7]– عبد الحليم أبو شقة، تحرير المرأة في عصر الرسالة، دار القلم، الكويت 1410هـ/1990م. 163/5،
[8]– سورة الإسراء: الآية 70
[9]– مصطفى بن حمزة، كرامة المرأة من خلال خصوصيتها جامعة الصحوة الإسلامية أكتوبر 1998 ص20
[10] – إبراهيم بن موسى اللخمي الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، دار الكتب العلمية بيروت 1991 2/615
[11] – روح الحداثة، طه عبد الرحمان، ص 114-121-123، المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، الدار البيضاء، المغرب.
[12] – الفكر الإسلامي، قراءة علمية، محمد أركون، ص 183، ترجمة هاشم صالح، المركز الثقافي العربي.
[13] – النص، السلطة الحقيقية، نصر حامد أبو زيد، 143.
[14] – اعتبر أن الأسرة ما بعد الحداثية هي امتداد للأسرة الحداثية.
[15] – روح الحداثة، طه عبد الرحمان، ص 122.
[16] – مقال، ما بين حركة المرأة وحركة التمركز حول الأنثى، رؤية معرفية، عبد الوهاب المسيري، ص 84، مجلة المنعطف، عدد 15/16، 1420/2000، وجدة.
[17] – نفسه، ص 84.
[18] – روح الحداثة، طه عبد الرحمان، ص 130.
[19] – روح الحداثة، طه عبد الرحمان، ص 123.