فقه الصلاة وروحها – 3 – استقبال القبلة وإسلام الوجه لله.
فقه الصلاة وروحها – 3 - استقبال القبلة وإسلام الوجه لله/ يعقوب زروق
فقه الصلاة وروحها – 3 – استقبال القبلة وإسلام الوجه لله
بقلم: يعقوب زروق
إسلام الوجه لله:
ها قد تطهرت الطهارتين، طهارة الحس وطهارة القلب. وها قد تزينت باللباسين، لباس الثوب ولباس التقوى، أو بالأحرى رجوتها وتحريتها. وها قد تأهلت بذلك للقاء العظيم. وقد بقي شرط آخر يذكره الفقهاء في شروط الصحة وهو استقبال القبلة. تستقبل بوجهك بيت الله الحرام، وتستقبل بقلبك ووجهك وكلك رب البيت الحرام. قال سبحانه مخاطبا نبيه صلى الله عليه وسلم متوددا له: ﴿ قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ﴾ [البقرة 144] .
قال القشيري رحمه الله في لطائف الإشارات: ” ولكن لا تعلق قلبك بالأحجار والآثار، وأفرد قلبك لي، ولتكن القبلة مقصود نفسك، والحق مشهود قلبك، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره، ولكن أخلصوا قلوبكم لي وأفردوا شهودكم بي”[1] .
عندما يول المؤمن وجهه للبيت، امتثالا للأمر الالهي واقتداء بالحبيب صلى الله عليه وسلم يكون قد أسلم وجهه إلى الله وسلم له ذاته محبة وخوفا وطمعا. وتلك هي العبودية الحقة التي بها الفوز والفلاح. قال سبحانه: ﴿ ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الامور ﴾ [لقمان 22]
يقول الطاهر بن عاشور رحمه الله: “وإسلام الوجه لله هو تسليم الذات لأوامر الله تعالى أي شدة الامتثال لأن أسلم بمعنى ألقى السلاح وترك المقاومة “[2] .
وقال أيضا: “وإسلام الوجه إلى الله تمثيلٌ لإفراده تعالى بالعبادة كأنه لا يقبل بوجهه على غير الله”[3]
استقبال القبلة بالوجه خضوع واستسلام لله تعالى. فأنت تسلم له أشرف ما تملك وجهك الدال على هويتك وحقيقتك.
قال سبحانه: ﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن ﴾ [آل عمران 18_ 20]
قال ابن عطية رحمه الله: ” أسلمت شخصي وذاتي وكليتي؛ وجعلت ذلك لله. وعبر بالوجه إذ الوجه أشرف أعضاء الشخص وأجمعها للحواس” [4].
انخراط في خير أمة:
من المعاني العظيمة لاستقبال القبلة أيضا دلالة ذلك على أنك انتظمت في صف الأمة وانخرطت في جماعتها لتشملك خيريتها. فأنت تولي وجهك إلى قبلة واحدة مع ملايين المؤمنين الذين استقبلوها ويستقبلونها وسيستقبلونها إلى قيام الساعة. تستشعر ذلك فتخرج من أنانية ذاتك. وهذا مؤهل آخر يؤهلك لأن تقف بين يدي الله. فإنه سبحانه يحب الصف المرصوص ويحب الجماعة.
وإن علماء المسلمين جعلوا لفظ ” أهل القبلة ” شعارا لكل المسلمين مهما كانت مذاهبهم أو طوائفهم وأدخلوا فيه أهل الأهواء أيضا. فانظر كيف كانت القبلة جامعة للمسلمين موحدة لهم ساترة عيوبهم.
اقتداء بخير قدوة:
وأنت تستقبل القبلة تستحضر أيضا أن هذه القبلة رضيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يرجو أن يحول إليها إذ كانت قبلته في بداية الأمر إلى بيت المقدس. فكان صلى الله عليه وسلم يقلب وجهه في السماء راجيا أن يحول إلى البيت الحرام. فحقق الله له رجاءه. تستحضر محبة الله تعالى لنبيه وكرامته له. فيزيدك ذلك تعلقا به واقتداء به صلى الله عليه وسلم سيما وأنت مقبل على أعظم عبادة أمرك أن تصليها كما صلاها “صلوا كما رأيتموني أصلي”[5]
زيال وسمت حسن:
إن الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجو تحويل القبلة، حرصه على مخالفة اليهود الذين كان يعجبهم أن يصلي جهة بيت المقدس، قبلتهم. وقد كانت سنته مزايلتهم والأمر بذلك. صام عاشوراء لما فيه من الحق الذي معهم، وهو الفرح بنجاة نبي الله موسى عليه السلام. وعزم على مخالفتهم في العام القابل فقال: ” لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع”[6].
أمة واحدة لا شرقية ولا غربية. تولي وجهها بعربها وعجمها حيثما كانوا قبلة واحدة في كل صلاة. مشكلين دوائر عالمية حول البيت. إنه الجلال والجمال الذي يكرهنا عليه الأعداء ويغبطنا عليه الأصدقاء. والحمد لله رب العالمين.
[1] – تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ)
[2] – التحرير والتنوير — ااطاهر بن عاشور (1393 هـ)
[3] – نفس المصدر السابق.
[4] – المحرر الوجيز— ابن عطية (546 هـ).
[5] – صحيح البخاري | كِتَابُ الْأَذَانِ | بَابُ الْأَذَانِ لِلْمُسَافِرِ.
[6] – صحيح مسلم – كتاب الصيام –