منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

مفهوم التأويل

لطيفة اليوسفي

0

المطلب الأول: في اللغة

كلمة “التأويل”في اللغة لها معاني متعددة تطلق عليها، ولرصد هذه المعاني وبيان وجوهها اللغوية نورد ما ورد من تعريف لهذه الكلمة في بعض معاجم اللغة:

  • ففي ( مقاييس اللغة ) لابن فارس “(أول) الهمزة والواو واللام أصلان: ابتداء الأمر وانتهاؤه. أماالأول فالأول، وهو مبتدأ الشيء،والأصل الثاني قال الخليل: الأيل الذكر من الوعول، والجمع أيائل. وإنما سمي أيلا لأنه يؤول إلى الجبل يتحصن. وتأويل الكلام، وهو عاقبته وما يؤول إليه، وآل البعير: ألواحه وما أشرف من أقطار جسمه. قال الخليل: آل الجبل أطرافه ونواحيه، وآل الخيمة: العمد. فلم يبق إلا آل خيم منضد وسفع على آس ونؤي معثلب.”[1]
  • وفي ( أساس البلاغة ) للزمخشري ” آل الرعية يؤولها إيالة حسنة، وهو حسن الإيالة، وأتالها وهو مؤتال لقومه مقتال عليهم أي سائس محتكم. قال زياد في خطبته: قد ألنا وإيل علينا أي سسنا وسسنا، وهو مثل في التجارب. قال الكميت: وقد طالما يا آل مروان ألتم بلا دمس أمر العريب ولا غمل.”[2]
  • وفي ( مختار الصحاح ) للرازي” أول: (التأويل) تفسير ما يؤول إليه الشيء وقد (أوله) تأويلا.”[3]
  • وفى ( لسان العرب ) لابن منظور “الأول: الرجوع، آل الشيء يؤول أولا ومآلا رجع، وآول الشيء: رجعه، وألت عن الشيء: ارتددت، وفى الحديث: “من صام الدهر فلا صام ولا آل” أي: ولا رجع إلى خير. وأول الله عليك أمرك، أي جمعه، واذا دعوا عليه قالوا: لا أول الله عليك شملك.”[4]
  • وفي ( المصباح المنير ) للفيومي ” والآل أهل الشخص وهم ذوو قرابته وقد أطلق على أهل بيته وعلى الأتباع وأصله عند بعض أول تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا مثل قال البطليوسي في كتاب الاقتضاب ذهب الكسائي إلى منع إضافة آل إلى المضمر فلا يقال آله بل أهله وهو أول من قال ذلك وتبعه النحاس والزبيدي وليس بصحيح إذ لا قياس يعضده ولا سماع يؤيده قال بعضهم أصل الآل أهل لكن دخله الإبدال واستدل عليه بعود الهاء في التصغير فيقال أهيل والآل الذي يشبه السراب يذكر ويؤنث.”[5]
  • وفي ( المعجم الوسيط ) ” آل الشيء رده والشيء مآلا نقص ويقال آلت الماشية ذهب لحمها فضمرت واللبن ونحوه أولا وإيالا خثر وغلظ واللبن أولا صيره خاثرا غليظا(أول) الرؤيا عبرها.”[6]

وانطلاقا من المعاجم السابقة يتبين أن كلمة ” التأويل ” قد أخذت عند أهل اللغة “حيزا واسعا في الدلالة على المعاني المختلفة، واستعملت مادتها على نطاق واسع قل نظيره، مما يدل على سعة لغة العرب وغناها.”[7]

ونستطيع أن نذكر من هذه المعاني الثابتة لغة لكلمة ” التأويل ” ما يلي:

  • ابتداء الأمر وانتهاؤه
  • العاقبة والمصير
  • الأطراف والنواحي
  • التفسير
  • الرجوع
  • الجمع
  • النقص
  • التغيير
  • تعبير الرؤيا
  • السياسة والاصلاح
  • القرابة

وعند التأمل في هذه المعاني وبمقارنة بعضها ببعض يتبين أن كل واحد منها لا يشبه الآخر، أو يناقض المدلول اللغوي الذي عبرت عنه كلمة تأويل.

المطلب الثاني: التأويل في الشرع

  • الفرع الأول: في القرآن الكريم

إن المتتبع لما ورد من لفظ التأويل في القرآن الكريم، يجده قد ورد مستعملا في أوجه دلالية كثيرة. وقبل إيراد هذه الأوجه الدلالية التي زخر بها في القرآن الكريم نورد أولا نماذج من السور التي ورد فيها ذكر التأويل بلفظه ومادته اللغوية.

أ ) سورة آل عمران

ومنها قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ﴾.[8]

ولقد تعددت الآراء والخلافات حول كلمة ” تأويل ” في هذه الآية واستغرقت الكثير من صفحات كتب التفسير:

يقول الطبريالقول في تأويل قوله﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾اختلف أهل التأويل في معنىالتأويل، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾.

فقال بعضهم: معنى ذلك:الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مدة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجمل،”ألم”، و”ألمص”، و”ألر”، و”ألمر”، وما أشبه ذلك من الآجال.

وقال آخرون: بل معنى ذلك:”عواقب القرآن”.

وقال آخرون: معنى ذلكوابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن، يتأولونه – إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات – على ما في قلوبهم من الزيغ، وما ركبوه من الضلالة”.[9]

ويقول كذلك في تأويل قوله تعالى ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ﴾،” يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقت قيام الساعة، وانقضاء مدة أجل محمد وأمته، إلا الله دونَ من سواه من البشر الذين أملوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة.”[10]

ويقول القرطبي ” ومعنى﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾طلب الشبهات واللبس على المؤمنين حتى يفسدوا ذات بينهم، ويردوا الناس إلى زيغهم. وقال أبو إسحاق الزجاج: معنى ﴿وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم، فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله.”[11]

يتبين أن معنى “تأويل” يقصد به عاقبة الأمور التي لا يعلمها إلا الله إلا أن القرطبي يستطرد في بيان معنى كلمة “التأويل” وأنه يكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، إلى أن ساق معنى اصطلاحيا فيقول: ” ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه. واشتقاقه من آل الأمر إلى كذا يؤول إليه، أي صار. وأولته تأويلا أي صيرته. وقد حده بعض الفقهاء فقالوا: هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه.”[12]

إلا أن صاحب ” تفسير المنار ” أشار إلى أن معنى كلمة تأويل لا يقصد به هذا المعنى الاصطلاحي، ” قائلا إنما غلط المفسرون في تفسير التأويل في الآية، لأنهم جعلوه بالمعنى الاصطلاحي، وإن تفسير كلمات القرآن بالمواضعات الاصطلاحية قد كان منشأ غلط يصعب حصره.[13]

ب ) سورة النساء

قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[14]“أي: أحسن مآلا وعاقبة.”[15]

ت ) سورة الأعراف

قال تعالى ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾،[16]” قال مجاهد: (هل ينظرونإلا تأويله) جزاءه. وقال السدي: عاقبته.ومعناه: هل ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمرهم من العذاب ومصيرهم إلى النار. يوم يأتي تأويله، أي:جزاؤه وما يؤول إليه أمرهم.”[17]

يتبين أن الدلالات في هاتين السورتين متقاربة، وهي تعني ما يؤول إليه الأمر من وقوع ما أخبر به القرآن من أمر الآخرة.

ث ) سورة يونس

قال تعالى﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ[18]“أي: ولمايأتهم بعد بيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعدهم الله في هذا القرآن.”[19]

ج ) سورة يوسف

قال تعالى﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ[20]” يريد تعبير الرؤيا سمي تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل ما يؤول إليه عاقبة الأمر.”[21]

وقال تعالى﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ[22] ” أي: مكنا له في الأرض لكي نعلمه تأويل الأحاديث، وهي عبارة عن الرؤيا.[23]

وقال تعالى﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [24]” يقول: أخبرنا بما يؤول إليه ما أخبرناك أنا رأيناه في منامنا، ويرجع إليه، قال أبو عبيد: يعني مجاهد أن”تأويل الشيء”، هو الشيء. قال: ومنه:”تأويل الرؤيا”، إنما هو الشيء الذي تؤول إليه.”[25]

وقال تعالى﴿قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [26]“ويعنى بقوله (بتأويله): ما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه.”[27]

وهذا التأويل من يوسف عليه السلام كان بناءا على العلم بالغيب الذي علمه الله، قال الزمخشري مبينا ذلك ” لما استعبراه ووصفاه بالإحسان، افترص ذلك فوصل به وصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، وهو الإخبار بالغيب، وأنه ينبئهما بما يحمل إليهما من الطعام في السجن قبل أن يأتيهما ويصفه لهما، ويقول: اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت، فيجدانه كما أخبرهما.”[28]

وتفسير معنى ( التأويل ) بـ” ألوان الطعام من طرف المفسرين هو نقل للمعنى الظاهر الى معنى آخر يحتمله النص، ويستقيم مدلول الآية عليه، ولو حمل على معناه اللغوي الظاهر، كالمرجع والمصير والعاقبة والمآل، لكان فيه بعد.”[29]

وقد قال الشيخ إسماعيل حقي البرسوي[30] ” والتعبير﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾تطعمانه في مقامكما هذا حسب عادتكما المطردة ﴿إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ استثناء مفرغ من أعم الأحوال أي لا يأتيكما طعام في حال من الأحوال إلا حال ما نبأتكما به بأن بينت لكما ماهيته من أي جنس هو، ومقداره، وكيفيته من اللون والطعم، وإطلاق التأويل عليه بطريق الاستعارة فإن ذلك بالنسبة الى مطلق الطعام المبهم بمنزلة التأويل بالنظر إلى ما رؤى في المنام.”[31]

وقد رأى الطاهر بن عاشور أن ” معنى التأويل بألوان الطعاميتوافق مع مدلول التأويل في الاصطلاح، وهو العدول بالنص عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله، ويكون في الدلالة أقوى.”[32]

وقال تعالى﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ[33]” أي: وما نحن بما تؤول إليه الأحلام الكاذبة بعالمين.”[34]

وقال تعالى﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِفَأَرْسِلُونِ[35]” يقول: أنا أخبركم بتأويله.”[36]

وقال تعالى﴿وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ[37] ” أي: ما آلت إليه رؤياي التي كنت رأيتها.”[38]

وقال تعالى﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ[39]“يعني من عبارة الرؤيا.”[40]

يتبين أن كلمة تأويل في هذه المواضع الثمانية من سورة يوسف تدل على الإخبار بالأمر الذي سيقع في المآل من تحقيق الرؤى، منها ما رآه يوسف عليه السلام في منامه، ومنها ما عرض عليه طلبا لمعرفة حقيقتها.

ح ) سورة الإسراء

قال تعالى ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[41]“يقول: وأحسن مردودا عليكم وأولى إليه فيه فعلكم ذلك، لأن الله تبارك وتعالى يرضى بذلك عليكم، فيحسن لكم عليه الجزاء.قال قتادة: أي خير ثوابا وعاقبة.”[42]

خ ) سورة الكهف

قال تعالى﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا[43]” أي: بما يؤول إليه عاقبة أفعالي التي فعلتها.”[44]

وقال تعالى﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا[45] ” أي: هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني، تأويل: يقول: ما تؤول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها، وإنكارك لها صبرا.”[46]

فكلمة تأويل في هذه السورة يقصد بها الأمر الذي يقع في المآل تصديقا لعمل غامض يقصد به شيء يقع مستقبلا.

يستخلص من تفسير كلمة تأويل في هذه الآيات أن القرآن الكريم قد أعطاها دلالة يغلب عليها معنى العاقبة والمآل والمصير.

ويذهب ابن تيمية إلى أبعد من ذلك إذ يقول: ” وأما الإخبار فتأويله عين الأمر المخبر به إذا وقع ليس تأويله فهم معناه.”[47]

وابن تيمية في قوله هذا يبين أن كلمة تأويل في القرآن هو عين المخبر به، وليس معناها الشرح والتفسير وذلك من خلال قوله تعالى ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ[48] فيقول: “ففرق بين الإحاطة بعلمه وبين إتيان تأويله. فتبين أنه يمكن أن يحيط أهل العلم والإيمان بعلمه ولما يأتهم تأويله وأن الإحاطة بعلم القرآن ليست إتيان تأويله فإن الإحاطة بعلمه معرفة معاني الكلام على التمام وإتيان التأويل نفس وقوع المخبر به وفرق بين معرفة الخبر وبين المخبر به فمعرفة الخبر هي معرفة تفسير القرآن ومعرفة المخبر به هي معرفة تأويله.”[49]

ومن خلال استقراء الآيات يتضح أن ورود لفظ التأويلداخل هذه السورمتفاوت، حيث تمثلت أعلى نسبة لوروده في سورة يوسف التي جاء التأويل فيها بكثافة في سرد قصصي طويل تميزت به سورة يوسف المكية على سائر السور، ثم تليها سورة الكهف، ثم سورة آلعمران ثم سورة الأعراف ثم سورة يونس ثم الإسراء فالنساء. ويفهم من هذا أن ” حضور المفهوم في القرآن المكي أكثر منه في القرآن المدني، ولهذا كانت أمور العقيدة المتمثلة في الايمان باليوم الآخر والكتاب أحد المتعلقات المهمة بموضوع التأويل.”[50]

وورود لفظ التأويل بهذه النسب المتفاوتة يوحي بوجوه دلالية، وقد ذكر ابن الجوزي أنها على خمسة أوجه:

أحدها: العاقبة، ومنه قوله تعالى﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ[51]يعني عاقبة ما وعد الله تعالى﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾.[52]

والثاني: اللون، ومنه قوله تعالى﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا [53] يعني بألوانه.

والثالث: المنتهين، ومنه قوله تعالى﴿ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[54]، يعني ابتغاء منتهى ملك محمد وأمته وذلك زعم اليهود حين نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فواتح السور أنها من حساب الجمل وأن ملك امته على قدر حساب ما أنزل عليه من الحروف.

والرابع: تعبير الرؤيا، ومنه قوله تعالى ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾،[55]﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾،[56]﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾،[57]﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾.[58]

والخامس: التحقيق، ومنه قوله تعالى﴿هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ ﴾”([59])([60]).

يتبين من خلال هذه الأوجه للتأويل أن ” الدلالة الاستعمالية في النص القرآني تفيد ما يؤول إليه الكلام وإن وافق ظاهره، وذلك إما لمعنى عملي يقصد به شيء في المستقبل يقع في المآل تصديقا لخبر أو رؤيا. وإما لتفسير معنى متشابه حصل الخفاء فيه بسبب الاحتمال. وكان البحث عن حقيقة ما يؤول إليه الكلام وإزالة ما فيه من احتمال في سياقات النص الشرعي مسلكا علميا موصلا لبناء مفهوم التأويل وتأسيس قوانينه وقواعده.”[61]

وهذه الوجوه لكلمة التأويل في القرآن ” زاد من شحذ قرائح العلماء ودفعهم للبحث في موضوع التأويل، والتنافس في مجاله العلمي والفكري للوصول إلى الحقيقة، وبيان وجه الصواب في قضاياه من عدمه، خاصة وأنها تضمنت معاني لغوية مألوفة الاستعمال عند العرب بأسلوب رفيع، ومستوى عال من الدقة في التعبير عن المقصود، فتأويل الأحاديث، هو تعبير ما تؤول اليه من المعنى، والتأويل بمعنى الألوان وقد استعير لألوان الطعام وأنواعه، ويتضمن خروجا بالنص عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله.”[62]

  • الفرع الثاني: في السنة النبوية

ورد التأويل في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بمعنى تعبير الرؤيا وتأويلها، وبمعنىإذا كان طلبا -أمرا أو نهيا -كان تأويله أن يفعل هذا الطلب،وبمعنى الفهم والتفسير.

وفيما يلي أمثلة من الأحاديثالشريفة التي تدلعلى هذه المعاني دلالة صريحة قوية:

أ ) بمعنى تعبير الرؤيا وتأويلها:

ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة: «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس، خرجت من المدينة حتى نزلت بمهيعة، فتأولتها أن وباء المدينة نقل إلى مهيعة» وهي الجحفة.[63]

إن تأويل الرؤيا في هذا النص هو تحقيقها المادي في عالم الواقع حيثأن الحمي والمرض والوباء قد أخرجه الله من المدينة إلي الجحفة، وهي من ” الرؤيا المعبرة، و مما ضرب به المثل، ووجه التمثيل أنه شق من اسم «السوداء» السوء والداء، فتأول خروجها بما جمع من اسمها.”[64]

وما رواه أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت ذات ليلة، فيما يرى النائم، كأنا في دار عقبة بن رافع، فأتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب.»[65]

وما رواه أبو أمامة بن سهل، أنه سمع أبا سعيد الخدري، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بينما أنا نائم، رأيت الناس يعرضون وعليهم قمص، منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا ماذا أولت ذلك يا رسول الله قال: «الدين».[66]

وما رواه حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «بينما أنا نائم، إذ رأيت قدحا أتيت به فيه لبن، فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب» قالوا: فما أولت ذلك؟ يا رسول الله قال: «العلم».[67]

وقد تحققت رؤياه عليه الصلاة والسلام في عالم الواقع، فشربه اللبن في الرؤيا، وارتواؤه منه، تأويله الواقعي تمكنه من العلم، ورسوخه فيه، وهذا متحقق في سيرته وشخصيته عليه الصلاة والسلام.

وتأويل إعطائه فضله من اللبن لعمر في عالم الواقع، هو تمكن عمر من العلم ورسوخه فيه، وهذا متحقق في شخصيته رضي الله عنه.”[68]

ب ) بمعنى إذا كان طلبا -أمرا أو نهيا- كان تأويله أن يفعل هذا الطلب:

ما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي ” يتأول القرآن»،[69]في قوله تعالى ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا﴾.[70]

وما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على راحلته في السفر حيثما توجهت به» قال مالك: قال عبد الله بن دينار: وكان ابن عمر يفعل ذلك.”[71]في قوله تعالى ﴿فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ﴾.[72]

ج ) بمعنى الفهم والتفسير:

عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضع يده على كتفي ثم قال:«اللهم فَقهه فِي الدينِ، وعلمه التّأوِيل».[73]

فالتأويل في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس في هذا النص يعني التعمق في المعنى المراد ومعرفة المقصود، وهذا لا يدركه إلا أصحاب التدبر والفكر الثاقب، وتلك هي المنزلة التي أرادها الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس.

وما رواه عقبة بن عامر الجهني، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هلاك أمتي في الكتاب واللبن». قالوا: يا رسول الله، ما الكتاب واللبن؟ قال: ” يتعلمون القرآن فيتأولونه على غير ما أنزل الله، ويحبون اللبن فيدعون الجماعات والجمع ويبدون.”[74]

ففي هذا النص نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يذم صنفا من الناس، وهم الذين”يتعلمون القرآن، ويدرسونه، ولكنهم لا يفهمونه فهما صائبا، ولا يتأولونه تأولا صحيحا، وإنما يفهمونه فهما خاطئا، ويفسرونه تفسيرا مغلوطا، ويؤولونه تأويلا مردودا باطلا، علي غير ما أنزل الله، وبذلك يحرفون بهذا التأويل الباطل الآيات عن معناها الصحيح، إلى معنى آخر مرفوض، لا تدل عليه، ولا تشير إليه.”[75]

وما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من حوسب يوم القيامة، عذب» فقلت: أليس قد قال الله عز وجل:﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا[76]؟ فقال: «ليس ذاك الحساب، إنما ذاك العرض، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب».[77]

ففي هذا النص قد أول الرسول صلى الله عليه وسلم لفظ ﴿حِسَابًا﴾في الآية الكريمة على أنه ” العرض “.

ويذكر المفسرون أنه حسابلا مناقشة فيه، وأن المعنى السابق إلى الفهم من كلمة ﴿حِسَابًا﴾هو المناقشة أو المؤاخذة، وتقدير الحسنات والسيئات.[78]

المطلب الثالث: التأويل في الاصطلاح

  • الفرع الأول: التأويل عند السلف

قبل الحديث عن التأويل عند السلف لابد من تحديد من هم السلف؟

أ ) السلف في اللغة:

في لغة العرب تدور لفظة سلف على ما تقدم وسبق من أمم في الأزمنة الغابرة، قال ابن فارس ” (سلف) السين واللام والفاء أصل يدل على تقدم وسبق. من ذلك السلف: الذين مضوا. والقوم السلاف: المتقدمون. ” [79]

وذكر ابن منظور أن ” السلف يجيء على معان: السلف القرض والسلم ” ثم قال: ” وللسلف معنيان آخران: أحدهما أن كل شيء قدمه العبد من عمل صالح أو ولد فرط يقدمه، فهو له سلف، وقد سلف له عمل صالح، والسلف أيضا: من تقدمك من آبائك وذوي قرابتك الذين هم فوقك في السن والفضل. ” [80]

أما معناه كما ورد في الذكر الحكيم فقد أشـار إليه الراغب الأصفهاني – رحمه الله – بقوله: ” السلف: المتقدم، قال تعالى﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ[81]، أي:معتبرا متقدما، وقال تعالى﴿فَلَهُ مَا سَلَفَ[82]، أي: يتجافى عما تقدم من ذنبه، وكذا قوله﴿وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ[83]، أي: ما تقدم من فعلكم، فذلك متجافى عنه، فالاستثناء عن الإثم لا عن جواز الفعل، ولفلان سلف كريم، أي:آباء متقدمون، جمعه أسلاف، وسلوف.” [84]

من خلال هذه النقول السابقة يتبين أن تصاريف هذه الكلمة في اللغة تدل على:

  • السبق والتقدم.

ب ) السلف في الاصطلاح:

إذا كان مفهوم السلف في المعنى الشائع يراد به تلك الفترة الزمنية التي تتمثل في القرون الثلاثة الأولى التي امتدحها الرسول صلى الله عليه وسلم قال:«خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته».[85]فقد حصل خلاف في تحديد هذه الفترة التاريخية الزمنيةعلى أقوال:

  • القول الأول: السلف في الاصطلاح ينحصر معناه في القرون الثلاثة الأولى ” والمعنى الاصطلاحي المستقر لهذه الكلمة، هو القرون الثلاثة الأولى من عمر هذه الأمة الإسلامية، أمة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. [86]
  • القول الثاني:السلف هم الصحابة فقط رضوان الله عليهم.[87]
  • القول الثالث:السلف هم الصحابة والتابعون.[88]
  • القول الرابع:السلف هم الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين وهو قول جمهور أهل العلم.[89]

وهو ما تم ترجيحه بدليل الحديث الذي سبق ذكره، وبدليل ” قول المحققين من أهل العلم، كابن تيمية، [90] والشوكاني، [91] والسفاريني،[92] [93] وغيرهم.” [94]

فالسلف هم ” الصحابة والتابعون وتابعيهم، والحديث الصحيح دليل وحجة لا يسوغ لأحد إنكارها، ونص في المسألة لا يقبل التأويل، ولا اجتهاد مع وجود نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت. ” [95]

أما التأويل عند السلف:

فالتأويل عند السلف محصور عند ابن تيمية في ” معنيين:

أحدهما: تفسير الكلام وبيان معناه، سواء أوافق ظاهره أو خالفه، فيكون التأويل والتفسير على هذا مترادفين، وهذا هو ما عناه مجاهد من قوله: “إن العلماء يعلمون تأويله” يعنى القرآن، وما يعنيه ابن جرير الطبري بقوله في تفسيره: “القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا” وبقوله: “اختلف أهل التأويل في هذه الآية”… ونحو ذلك، فإن مراده التفسير.

ثانيهما: هو نفس المراد بالكلام، فإن كان الكلام طلبا كان تأويله نفس الفعل المطلوب، وإن كان خبرا، كان تأويله نفس الشيء المخبر به، وبين هذا المعنى والذى قبله فرق ظاهر، فالذي قبله يكون التأويل فيه من باب العلم والكلام، كالتفسير، والشرح، والإيضاح، ويكون وجود التأويل في القلب، واللسان، وله الوجود الذهني واللفظي والرسمي، وأما هذا فالتأويل فيه نفس الأمور الموجودة في الخارج، سواء أكانت ماضية أم مستقبلة، فإذا قيل: طلعت الشمس، فتأويل هذا هو نفس طلوعها.”[96]

  • الفرع الثاني:التأويل في الاصطلاح العام

مصطلح التأويل شهد توسعا ونموا ملحوظا ساير ” حركة التطور العلمي عبر مختلف الأزمنة، وشهدت النهضة العلمية التي عرفتها القرون العشرة الأولى وما تلاها اشتغالا ملحوظا بعلم التأويل من طرف علماء الكلام والفلاسفة، وعلماء التفسير والأصوليين واللغويين والمحدثين الذين تباروا وتنافسوا كثيرا في الخروج بمفهوم شامل وكلي لمصطلح التأويل، حيث تناوله كل فريق من زاوية تخصصه، وبحسب المنهجية التي سلكها.”[97]

  • فعند الفقهاء: ” هو إبداء احتمال في اللفظ مقصود بدليل خارج عنه.”[98]
  • وعند المفسرين: ” هو ما ترك ظاهره لدليل.”[99]
  • وعند المحدثين:” التأويل صرف الآية إلى معنى يوافق ما قبلها وما بعدها غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط.”[100]
  • وعند النحاة: ” التأويل: الدليل على جواز ترك صرف ما ينصرف.”[101]ويعبر عن التأويل عندهم بألفاظ أخرى تحمل المعنى نفسه، ومن هذه الألفاظ ” التخريج، الحمل، وقد تستعمل لفظة المحمل بدلا من الحمل، التوجيه، التقدير، الوجه، الاعتقادات، الاحتمال، الحجة، التناول، حل، القانون، الحيلة والتمحل، ولفظة التفسير، ولقد فرق النحويون بين تفسير المعنى وتفسير الإعراب، فتفسير المعنى لا يعتد بالصناعة النحوية، أما تفسير الإعراب فلا بد فيه من الصناعة النحوية.”[102]

فالتأويل عند النحاة يدور في فلك حمل النص على غير ظاهره، لتصحيح المعنى، أو الأصل النحوي، وقد أول النحويون الآيات القرآنية لتصح أصولهم النحوية.

  • وعند المتكلمين: ” هو صرف اللفظ عن ظاهره الى معناه المرجوح مع قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال.”[103]
  • وعند الفلاسفة: ” إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية.”[104]
  • وعند المتصوفة: ” عدل بالكلمة عن وجه إلى وجه أو أكثر يقتضيه النظر العقلي على حسب ما تسمح به الكلمة في الوضع اللغوي مع مراعاة القرائن وهو يحتمل القوة والضعف، والصواب والخطأ.”[105]
  • الفرع الثالث:التأويل في الاصطلاح الخاص بالأصوليين

ارتبط مفهوم التأويل عند الأصوليين بدراستهم ” للدلالات اللغوية الواضحة والخفية والمنطوقة والمفهومة في النص الشرعي، وباستثمارهم لمقاصده على أساس قواعد علمية مستمدة من منطق اللغة والتشريع والاجتهاد العقلي. وقد عرف هذا الاستمداد تطورا معرفيا من حيث تحديد المناهج الأصولية وقواعدها العلمية بعد الإمام الشافعي رحمه الله، وذلك تجاوبا مع التفاعلات الحضارية والتحولات التاريخية السياسية والعلمية التي أنتجت اتجاهات تأويلية كثيرة شكلت آراء واتجاهات ومدارس من النظر العقلي في النص الشرعي.”[106]

فالتأويل ” كان ولا يزال مجالا خصبا عند الأصوليين، ومادة أساسية يفسرون على ضوئها النصوص، ويعطونها صبغة قانونية يمكن للفقيه والأصولي أن يسير على هديها، ويقرر انطلاقا منها أحكاما وقواعد هو بأمس الحاجة إليها.”[107]

ولبيان ذلك نورد فيما يلي سلسلة من تعاريفهم التي رصدوا بها مفهوم التأويل وضبطوا بها حقيقته:

لم يرد عند الإمام الشافعي تعريفا محددا للتأويل، إلا أنه ” أشار في عدة مواضع أنه مرتبط بلغة النص الشرعي، وذلك من خلال إدراكه أن أسباب الاختلاف في فهم النص وتأويله تنحصر في وجوه الفهم اللغوي أو الإبلاغي”[108]، وذلك لأن ” لسان العرب: أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي، ولكنه لا يذهب منه شيء على عامتها، حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه.”[109]

ومن هذه المواضع الذي تحدث فيها الإمام الشافعي عن التأويلموضع حديثه عن العلم إذ قال: ” العلم علمان: علم عامة، لا يسع بالغا غير مغلوب على عقله جهله.مثل الصلوات الخمس، وأن لله على الناس صوم شهر رمضان، وحج البيت إذا استطاعوه، وزكاة في أموالهم، وأنه حرم عليهم الزنا والقتل والسرقة والخمر، وما كان في معنى هذا، مما كلف العباد أن يعقلوه ويعملوه ويعطوه من أنفسهم وأموالهم، وأن يكفوا عنه ما حرم عليهم منه.وهذا العلم العام الذي لا يمكن فيه الغلط من الخبر، ولا التأويل، ولا يجوز فيه التنازع.

والوجه الثاني: ما ينوب العباد من فروع الفرائض، وما يخص به من الأحكام وغيرها، مما ليس فيه نص كتاب، ولا في أكثره نص سنة، وإن كانت في شيء منه سنة فإنما هي من أخبار الخاصة، لا أخبار العامة، وما كان منه يحتمل التأويل ويستدرك قياسا.”[110]

وكذلك في حديثه عن حجية خبر الآحاد: ” فلا يجوز عندي عن عالم أن يثبت خبر واحد كثيرا، ويحل به، ويحرم، ويرد مثله: إلا من جهة أن يكون عنده حديث يخالفه، أو يكون ما سمع ومن سمع منه أوثق عنده ممن حدثه خلافه، أو يكون من حدثه ليس بحافظ، أو يكون متهما عنده، أو يتهم من فوقه ممن حدثه، أو يكون الحديث محتملا معنيين، فيتأول فيذهب إلى أحدهما دون الآخر.”[111]

وبهذا يتبين أن الإمام الشافعي وإن ” لم يعرف التأويل تعريفا محددا، فإنه قد كشف عن إشكالية التأويل وارتباطها بمنطق النص الشرعي وبمنطق اللغة وبالمؤول الذي يتدبر النص الشرعي ويتفكر فيه. فكانهذا الكشف لبنة من اللبنات التي أسهمت في بناء قاعدة التأويل عند الأصوليين، وتمييزها عن اتجاه التأويل في مجال علم الكلام والعقائد والفلسفة والتصوف والأدب…”[112]

وقد انطلق في مشروعه الاجتهادي التأويلي هذا من كشفه عن مفهوم البيان حيث يقول في تعريـفه “والبيان اسم جامع لمعاني مجتمعة الأصول، متشعبة الفروع.”[113] ثم وضح ذلك بقوله ” فأقل ما في تلك المعاني المجتمعة المتشعبة: أنها بيان لمن خوطب بها ممن نزل القرآن بلسانه، متقاربة، الاستواء عنده، وإن كان بعضها أشد تأكيد بيان من بعض. ومختلفة عند من يجهل لسان العرب.

فجماع ما أبان الله لخلقه في كتابه، مما تعبدهم به، لما مضى من حكمه جل ثناؤه: من وجوه.

فمنها ما أبانه لخلقه نصا. مثل جمل فرائضه، في أن عليهم صلاة وزكاة وحجا وصوما وأنه حرم الفواحش، ما ظهر منها، وما بطن، ونص الزنا والخمر، وأكل الميتة والدم، ولحم الخنزير، وبين لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك مما بين نصا.

  • ومنه: ما أحكم فرضه بكتابه، وبين كيف هو على لسان نبيه؟ مثل عدد الصلاة، والزكاة، ووقتها، وغير ذلك من فرائضه التي أنزل من كتابه.
  • ومنه: ما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما ليس لله فيه نص حكم، وقد فرض الله في كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى حكمه، فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل.
  • ومنه: ما فرض الله على خلقه الاجتهاد في طلبه، وابتلى طاعتهم في الاجتهاد، كما ابتلى طاعتهم في غيره مما فرض عليهم.”[114]

وعرفه ابن حزم بقوله ” والتأويل نقل اللفظ عما اقتضاه ظاهره وعما وضع له في اللغة إلى معنى آخر فإن كان نقله قد صح ببرهان وكان ناقله واجب الطاعة فهو حق وإن كان نقله بخلاف ذلك اطرح ولم يلتفت إليه وحكم لذلك النقل بأنه باطل.”[115]

ويلاحظ في تعريف ابن حزم ” تشدده في قبول التأويل وإن كانت تلك مسحة المدرسة الأصولية وابن حزم أصولي متكلم، إلا أنه يبالغ في التشدد إلى حد إنكار التأويل إذا لم تتحقق شروط معينة في التأويل وفي المؤول معا، وتلك هي صبغة المذهب الظاهري الذي ينتمي إليه.”[116]

وعرفه الإمام الجويني بقوله ” التأويل رد الظاهر إلى ما إليه مآله في دعوى المؤول.”[117]

وهو من التعاريف الاصطلاحية التي ” يلحظ فيها تطور التعريف، ويظهر أنه مستمد من الدلالة اللغوية بمعنى الارجاع والتصيير، كما أنه مستمد من الدلالة الاستعمالية في النص القرآني الكريم ( حقيقة ما يؤول إليه الكلام ).

وهذا التعريف رصد فقط عملية التأويل بكونها قيام المؤول برد الظاهر المحتمل على حقيقته التي يؤول إليها.”[118]

وعرفه الإمام الغزالي بقوله: ” التأويل عبارة عن احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي يدل عليه الظاهر، ويشبه أن يكون كل تأويل صرفا للفظ عن الحقيقة إلى المجاز.”[119]

وانتقد هذا التعريف الإمام الآمدي واعتبره غير صحيح لأمور ثلاثة فقال:

  • أما أولا، فلأن التأويل ليس هو نفس الاحتمال الذي حمل اللفظ عليه، بل هو نفس حمل اللفظ عليه، وفرق بين الأمرين.
  • وأما ثانيا: فلأنه غير جامع فإنه يخرج منه التأويل بصرف اللفظ عما هو ظاهر فيه إلى غيره بدليل قاطع غير ظني، حيث قال: يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر.
  • وأما ثالثا: فلأنه أخذ في حد التأويل من حيث هو تأويل، وهو أعم من التأويل بدليل، ولهذا يقال تأويل بدليل وتأويل من غير دليل.”[120]

وهذا النقد فيه ما يدعو إلى الأخذ والرد. يقول الدكتور محمد أديب صالح في بيان موقفه من نقد الإمام الآمدي:

  • أما في الأمر الأول:” فنحن نوافقه على ما ذهب إليه، إذ جعل الغزالي التأويل هو الاحتمال الذي حمل عليه اللفظ، غير مستقيم، لأن التأويل حمل اللفظ عليه نفسه، والاحتمال شرط له، إذ لا يصح حمل اللفظ على ما يحتمله. والفرق واضح بينهما.
  • ولكننا نخالفه في الأمر الثاني، إذ أن الدليل الذي يصير إليه المعنى المرجوح، أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر، لا ينافي أن يكون التأويل سليما، فيما إذا كان الدليل قاطعا، بل هو داخل في التعريف من طريق الأولى، ولكنها ملاحقة الآمدي للغزالي في كل تعريف وفي كل كلمة…رحمهما الله.
  • أما عن الأمر الثالث: فأعتقد أن من الطبيعي أن يكون الغزالي قد قصد تعريف التأويل الصحيح، وسياق كلامه يدل على ذلك.”[121]

وقد رد تعريف الإمام الغزالي كذلك ابن الحاجب[122]فقال ” إنه ضعيف إذ يرد عليه أن الاحتمال ليس بتأويل إنما التأويل هو الحمل عليه والاحتمال شرط له إذ لا يصح حمل اللفظ على ما لا يحتمله ويرد على عكسه التأويل المقطوع به فإنه تأويل ولا يصدق عليه الحد إذ لا يعضده دليل يصير به أغلب على الظن دليل يفيد القطع وهو ضد الظن.”[123]

ورغم هذه الانتقادات التي وجهت للإمام الغزالي في تعريفه إلا أنه يمثل ” خطوة كبيرة في طريق التأويل الاصطلاحي، ويعد أرضية صلبة هيأت لتعريف شامل وكامل للموضوع، وهذا قليل في حقه لأن الرجل اشتغل في حياته العلمية بعلم الكلام، ونافح عن عقائد أهل السنة، وهو من واضعي شروط وقوانين التأويل.”[124]

وعرفه ابن قدامة المقدسي فقال:” التأويل صرف اللفظ عن الاحتمال الظاهر إلى احتمال مرجوح به لاعتضاده بدليل، يصير به أغلب على الظن من المعنى الذي دل عليه الظاهر.”[125]

وابن قدامة في تعريفه قد ” خالف الغزالي ـ مع اتباعه له في كثير من الأحيان ـ في جعل التأويل هو الاحتمال نفسه، ولكنه وافقه في غلبة الظن، وكونه عرف التأويل الصحيح، والآمدي وابن الحاجب أرادوا من الغزالي أن يعرف التأويل من حيث هو تأويل، وإذا أراد الصحيح كان عليه التقييد باعتضاد الاحتمال بالدليل.”[126]

وقد قيل عن تعريف ابن قدامة بأنه ” ما جنح إليه هو الأقرب.”[127]

وعرفه الآمدي بقوله ” وأما التأويل المقبول الصحيح فهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده.”[128]

ثم ذكر قيود التعريف فقال: ” (حمل اللفظ على غير مدلوله) احترازا، عن حمله على نفس مدلوله.

(الظاهر منه) احتراز عن صرف اللفظ المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر فإنه لا يسمى تأويلا.

(مع احتماله له) احتراز عما إذا صرف اللفظ عن مدلوله الظاهر إلى ما لايحتمله أصلا، فإنه لا يكون تأويلا صحيحا.

(بدليل يعضده) احتراز عن التأويل من غير دليل، فإنه لا يكون تأويلا صحيحا أيضا.

(بدليل يعم القاطع والظني) وعلى هذا فالتأويل لا يتطرق إلى النص ولا إلى المجمل، وإنما يتطرق إلى ما كان ظاهرا. وإذا عرف معنى التأويل فهو مقبول معمول به إذا تحقق مع شروطه، ولم يزل علماء الأمصار في كل عصر من عهد الصحابة إلى زمننا عاملين به من غير نكير.”[129]

والملاحظ على تعريف الآمدي أنه ” لم يبين هل نحمل ظاهر اللفظ على غير مدلوله لضرورة استدعت ذلك، كان يكون المعنى الظاهر غير مقبول شرعا، أو لأن المعنى المؤول إليه النص أقوى في الدلالة على المراد من المعنى الظاهر؟ أو أننا نذهب إلى التأويل لمجرد التأويل؟ “[130]

ومما قيل أيضا أنه ” لم يفصل الآمدي في تعريفه علاقة التأويل بالمجاز، وهل هما شيء واحد أم يختلفان، وإنما ترك تعريف التأويل بمعناه العام مما يدل على شموله للمجاز وغير المجاز.”[131]

وبمثل ذلك عرفه ابن الحاجب فقال: ” هو حمل الظاهر على المحتمل المرجوح بدليل يصيره راجحا.”[132]

وعرفه السبكي بقوله ” التأويل حمل الظاهر على المحتمل المرجوح، فإن حمل لدليل فصحيح أو لما يظن دليلا ففاسدا، أولا لشيء فلعب لا تأويل.”[133]

وقوله ” (حمل الظاهر) أي صرفه وهو من إضافة المصدر لمفعوله، والمراد الحمل لدليل أو شبهة بدليل ما بعده، وخرج بحمل الظاهر حمل النص على معنى مجازي لدليل وحمل المشترك على أحد معنييه فلا يسمى تأويلا اصطلاحا.”[134]

وحسب السبكي، فإن ” التأويل على ثلاث مراتب:

  • الأولى: التأويل الصحيح، وهو أن يحمل الظاهر على المحتمل المرجوح لدليل.
  • الثانية: التأويل الفاسد، وهو حمل اللفظ على المعنى المرجوح لدليل مظنون، ومثل هذا التأويل لا يقبل شرعا.
  • الثالثة: التأويل الخالي من الدليل، وهو أيضا تأويل باطل.”[135]

ورغم ” الاحتياط الذي ساقه السبكي وهو يشترط الدليل الصحيح ليكون التأويل مقبولا شرعا، إلا أنه أغفل ذكر السبب والأسباب التي تفرض علينا أن نحمل الظاهر على المحتمل، ولم يبين المقصود بالمرجوح الذي يحمل عليه اللفظ الظاهر، لأنه إذا كان الظاهر سليما، ولا تناقض بينه وبين نصوص شرعية أخرى، فكيف يجوز لنا حمله على المحتمل المرجوح؟ فهذا أمر غير مستساغ شرعا، ولا يقبل عقلا.”[136]إنه” تعريف شامل فيلزم أنه غير مانع ولا يخفى ضعفه فالأولى أنهتعريف بالأعم.”[137]

وعرفه الباجي ” صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله.”[138]

ثم بين ذلك فقال: ” ومعنى ذلك أن يكون الكلام يحتمل معنيين فزائدا إلا أن أحدهما أظهر في ذلك اللفظ إنما لوضع أو استعمال أو عرف، فإذا ورد وجب حمله على ظاهره إلا أن يرد دليل يصرفه عن ذلك الظاهر إلى بعض يحتمله.”[139]

وعرفه محمد أمين بن محمود البخاري المعروف بأمير بادشاه الحنفي[140] بأنه ” ما ترجح من المشترك بعض وجوهه بغالب الرأي.”[141]

وقد انتقد هذا التعريف بما يأتي:

أ ) التأويل لا يكون من المشترك فقط، اذ في هذا تضييق لمجال التأويل، فالمجمل والخفي والمشكل والمشترك اذا زال خفاؤها بدليل فيه شبهة كخبر الواحد والقياس يسمى مؤولا.”[142]

ب ) ترجحه قد لا يكون بغالب الرأي، لأنه يخرج ما ترجح بنحو القياس وخبر الواحد وهما دليلان معتبران من ادلة التأويل، فالأولى ان يقال: ما ترجح بدليل ظني ” أي التأويل لم ينشأ عن الوضع، بل هو ناشئ عن إزالة إبهام حاصل بازدحام احتمالات ناشئة من الاشتراك بدليل ظني قياسي أو خبر. “[143] فيدخل بذلك غالب الرأي والقياس وخبر الواحد، ورد هذا الانتقاد بأن المراد:

أ ) تعريف المؤول من المشترك، لأنه من أقسام النظم صيغة ولغة ” معنى كونه باعتبار الوضع أن الحكم بعد التأويل يضاف إلى الصيغة.”

ب ) المراد بغالب الرأي الظن الغالب، سواء حصل من خبر الواحد أو القياس أو التأمل في الصيغة.”[144]

وعرفه أبو زهرة بقوله ” إخراج اللفظ من ظاهر معناه، إلى معنى آخر يحتمله، وليس هو الظاهر فيه.”[145]

ومما انتقد به هذا التعريف أنه ” أسقط قيدا هاما في التعريف، وهو ” الدليل ” الذي يعضد ذلك الاحتمال، لأن مجرد الاحتمال غير كاف في صحة التأويل.”[146]

التعريف الراجـح:

وقد بدا لي من خلال هذه المراجعة في هذا الفرع أن التعريف الراجح للتأويل هو ما نص عليه الدكتور فتحي الدريني بقوله:

هو ” تبيين إرادة الشارع من اللفظ، بصرفه عن ظاهر معناه المتبادر منه، إلى معنى آخر يحتمله، بدليل أقوى يرجح هذا المعنى المراد.”[147]

تحليل التعريـف:

( اللفظ ) أي ” ما هو أعم من أن يكون لفظا خاصا أو عاما أو مطلقا، فإن دلالة كل من هذه الألفاظ على معناه الذي وضع له دلالة قطعية.

ومع ذلك، فإن الخاص يصرف عن معناه الحقيقي إلى المعنى المجازي بدليل، واللفظ العام يصرف عما يفيد ظاهره من العموم إلى الخصوص بدليل، واللفظ المطلق، يصرف عن إطلاقه وشيوعه في أفراد جنسه، بتقييده، وتقليل شيوعه، بدليل.

لكن المعنى المحتمل الذي يؤول إليه اللفظ معنى مرجوح، لأنه خلاف المعنى الحقيقي الظاهر المتبادر، ومع ذك، فإن دليل التأويل الأقوى يصير هذا المعنى المرجوح راجحا، أي: يغلب على ظن المجتهد أنه مراد الشارع، كما رجحه الدليل.”[148]

(معنى آخر يحتمله) هو ” شرط في صحة النقل، لأن التأويل إذا كان لمعنى بعيد عن مدلول اللفظ، أو لغير معنى، يعتبر ترفا فكريا، وعبثا بالنصوص، بل وكان تأويلا فاسدا، وعليه فلا بد من التنصيص على أن التأويل ينبغي أن يحتمله المعنى لغة أو مجازا.

(بدليل أقوى يرجح هذا المعنى المراد) معناه: ” أن يصاحب كل تأويل صحيح دليل أو أدلة تجعله راجحا على الظاهر، مثل الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، أو بقرينة لغوية، أو بمقصد شرعي.”[149]

وقد اشترط صاحب التعريف هنا:

  • أولا: الدليل الذي يصح بموجبه ترك الظاهر واللجوء الى المحتمل.
  • ثانيا: أن يكون المعنى الذي نذهب اليه مما يحتمله اللفظ، ولا تعسف فيه ولا تكلف.
  • ثالثا: أن يكون الدليل اقوى بحيث يرجح المعنى الذي صرفنا اليه اللفظ، على المعنى الأصلي.
  • رابعا: أن يكون المراد من التأويل تبيين ارادة الشارع من اللفظ، بمعنى هناك حاجة إلى التأويل.”[150]

ومما قيل عن هذا التعريف أنه ” تعريف منضبط ودقيق وواضح، اشترط فيه أن يكون دليل المؤول أقوى، وأضاف إليه أن التأويل هو تبيين إرادة الشارع من اللفظ، وهو ضابط مهم جعل من التعريف ذا دلالة، تعني أن اللجوء إلى التأويل ضرورة شرعية ولغوية.”[151]

والمفهوم المستخلص للتأويل من خلال ما تقدم عرضه من تعاريف، والذي يعتبر قاسما مشتركا بينها هو ” حمل اللفظ على المعنى المرجوح بدليل” [152] وهذا يوافق ما أتى به ابن تيمية حيث يقول ” فإن التأويل في عرف المتأخرين من المتفقهة، والمتكلمة، والمحدثة والمتصوفة ونحوهم:هو صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لدليل يقترن به، وهذا هو التأويل الذى يتكلمون عليه في أصول الفقه ومسائل الخلاف. فإذا قال أحد منهم: هذا الحديث – أو هذا النص – مؤول أو محمول على كذا. قال الآخر: هذا نوع تأويل والتأويل يحتاج إلى دليل.والمتأول عليه وظيفتان: بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي ادعاه، وبيان الدليل الموجب للصرف إليه عن المعنى الظاهر”[153].

وهذا المعنى الأخير هو ما نستخلصه من تعريفات الأصوليين ومناقشتها حيث أنهم ” قد حددوا مجال التأويل وأصوله وشروطه وأنواعه واتجاهاته، وأبرزوا علاقاته بالاجتهاد البياني والاجتهاد الاستنباطي والاجتهاد المقاصدي، وإن ركزوا في تحديدهم ذلك وإبرازهم هذا على الوجهة اللغوية وارتباطها بإفادة الحكم الشرعي ومقصده، فإنهم قد أسسوا منهجا تأويليا شكل قاعدة اجتهادية في الوحي بالبيان في القطعيات الواضحة وبالترجيح في الظنيات المحتملة بالاستناد إلى الأدلة العلمية القوية المستمدة من الشرع واللغة والعقل. وبهذا وضعوا قانونا للتأويل منضبطا في التعامل مع الوحي القرآني والحديث النبوي لا يقف عند حدود ما يوحى به في منطق اللغة في الظاهر من معنى بل يتجاوزه إلى ما يفيده الدليل العلمي من معنى آخر يصبح راجحا معمولا به.”[154]

مقتطف من كتاب:

”التأويل في الخطاب الأصولي وأثره في الفقه الحضاري للأمة”

رابط تحميل الكتاب:

https://www.islamanar.com/he-fundamentalist-discourse/

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.