ما حقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل في بعض الأحيان بيده اليسرى، لرفع الحرج عن المسلمين؟
من الآداب العامة المرعية المنسجمة مع محاسن العادات ومكارم الأخلاق استحباب التيمن في كل شيء إلا ما استثني، ففي صحيح مسلم (268) عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي نَعْلَيْهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ». حيث إن تَأْكِيد (الشَّأْنِ) بِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلِّهِ) يَدُلُّ عَلَى العموم، وهذا الاستحباب مرتبط بالاستطاعة، فمتى لم يستطع المرء التيمن لعلة مانعة ساغ له التياسر. فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ، فِي طُهُورِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَتَنَعُّلِهِ» صحيح البخاري (426). ويستثنى من ذلك مواطن، منها دُخُول الْخَلَاءِ، وَالْخُرُوج مِنَ الْمَسْجِدِ، والاستنجاء وغيرها، حيث يُبْدَأُ فِيهِا بِالْيَسَارِ، فهو من العام المخصوص.
ومن هذا الباب الأكل باليمين، وهو مِنْ جُمْلَةِ عُمُومُ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَكْلِ، فقد أخرج البخاري (5376) أن عُمَرَ بْن أَبِي سَلَمَةَ كان يَقُولُ: كُنْتُ غُلاَمًا فِي حَجْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا غُلاَمُ، سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ».
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَكُلْ بِيَمِينِكَ) حَمَلَهُ أَكْثَرُ الشَّافِعِيَّةِ عَلَى النَّدْبِ. قال النووي في شرحه على صحيح مسلم (13 /191-192) عند ذكره لحديث النهي عن الأكل بالشمال: “فِيهِ اسْتِحْبَابُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بِالْيَمِينِ، وَكَرَاهَتُهُمَا بِالشِّمَالِ، وَقَدْ زَادَ نَافِعٌ الْأَخْذَ وَالْإِعْطَاءَ، وَهَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْرٌ، فَإِنْ كَانَ عُذْرٌ يَمْنَعُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ بِالْيَمِينِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ جراحة أو غير ذلك فلا كراهة فِي الشِّمَالِ، وَفِيهِ أَنَّهُ يَنْبَغِي اجْتِنَابُ الْأَفْعَالِ الَّتِي تُشْبِهُ أَفْعَالَ الشَّيَاطِينِ”
وحمل آخرون (وَكُلْ بِيَمِينِكَ) عَلَى الوُجُوبِ لوُرُود الْوَعِيدِ فِي الْأَكْلِ بِالشِّمَالِ، فَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2021) مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ (أَنَّ رَجُلًا أَكَلَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِمَالِهِ، فَقَالَ: «كُلْ بِيَمِينِكَ»، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: «لَا اسْتَطَعْتَ»، مَا مَنَعَهُ إِلَّا الْكِبْرُ، قَالَ: فَمَا رَفَعَهَا إِلَى فِيهِ). وأخرج مسلم في صحيحه (2019) عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَأْكُلُوا بِالشِّمَالِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِالشِّمَالِ». وفي مسند الإمام أحمد (24479) عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “مَنْ أَكَلَ بِشِمَالِهِ أَكَلَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ، وَمَنْ شَرِبَ بِشِمَالِهِ شَرِبَ مَعَهُ الشَّيْطَانُ“، وفيه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً (4537): “إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه، فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله“. ورَأَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَجُلًا وَقَدْ ضَرَبَ بِيَدِهِ الْيُسْرَى لِيَأْكُلَ بِهَا، قَالَ: «لَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ يَدُكَ عَلِيلَةً، أَوْ مُعْتَلَّةً»” مصنف ابن أبي شيبة 5/132:” رقم الحديث 24442
وأما حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: (رَأَيْتُ فِي يَمِينِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِثَّاءً، وَفِي شِمَالِهِ رُطَبًا، وَهُوَ يَأْكُلُ مِنْ ذَا مَرَّةً وَمِنْ ذَا مَرَّة) فقد قال فيه ابن حجر بعد عزوه للطبراني في الأوسط: “وَفِي سَنَدِهِ ضَعْفٌ ” الفتح9/689. وقال العيني عنه: “وَهُوَ ضَعِيف جدا، وَلَا يلْزم من هَذَا الحَدِيث لَو ثَبت أكله بِشمَالِهِ، فَلَعَلَّهُ كَانَ يَأْخُذ بِيَدِهِ الْيُمْنَى من الشمَال رطبَة فيأكلها مَعَ القثاء الَّتِي فِي يَمِينه، فَلَا مَانع من ذَلِك” عمدة القاري 21/66.
وأما ما أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْخُذُ الرُّطَبَ بِيَمِينِهِ، وَالْبطِّيخَ بِيَسَارِهِ، فَيَأْكُلُ الرُّطَبَ بِالْبِطِّيخِ، وَكَانَ أَحَبَّ الْفَاكِهَةِ إِلَيْهِ» فقد قال عنه في الفتح “وَسَنَدُهُ ضَعِيفٌ”9/689، كما أنه لا يصلح لمعارضة الأحاديث الصحاح الآمرة بالتيمن في الأكل. وذكر الطبري “عن أبي الجنوب أن عليًّا رضي الله عنه أخذ كبدًا مشوية بيده ورغيفًا بيده الأخرى فأكل.” التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن 26/77. قال الطبري: “لا يجوز الأكل والشرب باليد اليسرى إلا لمن كانت بيمنى يديه علة مانعة من استعمالها…وقصة عليِّ السالفة لا تدفعه؛ لأنه إنما يدل على استعمال اليسرى في وقت شغل اليمنى بالطعام”التوضيح 26/88.
ومن أحسن ما قيل في فهم أحاديث الباب التي يظن أنها متعارضة قول أبي العباس القرطبي شارحا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بها)، قال رحمه الله: “هذا الأمر على جهة الندب؛ لأنَّه من باب تشريف اليمين على الشمال، وذلك لأنها أقوى في الغالب، وأسبق للأعمال، وأمكن في الأشغال. ثم هي مشتقة من اليمن، والبركة. وقد شرف الله تعالى أهل الجنة بأن نسبهم إليها، كما ذمَّ أهل النار حين نسبهم إلى الشمال، فقال: (فَأَصحَابُ المَيمَنَةِ مَا أَصحَابُ المَيمَنَةِ) وقال: (وَأَمَّا إِن كَانَ مِن أَصحَابِ اليَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِن أَصحَابِ اليَمِينِ) وقال عكس هذا في أصحاب الشمال. وعلى الجملة: فاليمين وما نسب إليها وما اشتق عنها محمود لسانًا وشرعًا ودنيا وآخرة. والشمال على النقيض من ذلك. وإذا كان هذا، فمن الآداب المناسبة لمكارم الأخلاق، والسيرة الحسنة عند الفضلاء اختصاص اليمين بالأعمال الشريفة، والأحوال النظيفة، وإن احتيج في شيء منها إلى الاستعانة بالشمال فبحكم التبعية. وأما إزالة الأقذار، والأمور الخسيسة فبالشمال لما يناسبها من الحقارة، والاسترذال”المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 5/295-296 .
والخلاصة أن الأكل باليمين هو السنة، والأمر به هو على جهة الندب، والأكل بالشمال لغير عذر مكروه شرعا، وفيه مخالفة للهدي النبوي. وأما رفع الحرج عن أصحاب الأعذار فهو من القواعد المرعية في الشريعة، يشهد لذلك ما رواه البخاري في صحيحه عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ» فقوله: (ما استطاع) فيه رفع للحرج عن الناس، ويؤكد ذلك قول عمر رضي الله عنه حينما رأى رجلا كاد يستعمل يده اليسرى في الأكل: «لَا، إِلَّا أَنْ تَكُونَ يَدُكَ عَلِيلَةً، أَوْ مُعْتَلَّةً»”، فإن أكل بشماله لعذر ارتفعت الكراهة.