الزلازل.. وأسئلة في العقيدة
د. أحمد زقاقي
الزلازل والبراكين والفيضانات والجفاف والأعاصير والانهيارات الثلجية والحرائق والأوبئة والحروب شرور ظاهرة تطول آثارها الكثير من الأبرياء لاسيما الأطفال، وتَستتبِع زلزالا في العقيدة والفكر، واختلافا في التفسير والفهم:
1. سبق “لدافيد هيوم” أن تساءل: كيف يُجيز إله يوصف بالعدل والقدرة المطلقة والخير العميم وقوع كم هائل من الشرور العظيمة، فهل يقصد الرب إيقاف الشر لكنه لا يقدر؟ إذا فهو عاجز، أم هو قادر ولكنه لا يريد؟ ولذلك اعتقد الفيلسوف الكندي «جون ليزلي» أن وجود الشر لا ينسجم مع الصفات الإلهية كالعلم المطلق والقدرة المطلقة وإرادة الخير المحض.
2. لقد كان العالِم البريطاني «أنتوني فلو» يعتبر من أعمدة الإلحاد «العلمي» في العالم، قبل أن ترسو سفينة “بحثه” على شاطئ “الإيمان والأمان”، وقد ضَمَّن نتيجة رحلته العلمية التحقيقية كتابَه الماتع “هناك إله كيف غير أشهر ملحد رأيه” وفيه اعترف بأن أحد الأسباب المبكرة لتحوُّله إلى الإلحاد كان هو موضوع الشرور في العالم».
3. لقد كانت أطروحات أصحاب شبهة الشرور تتقاطع مع مسألة «الصدفة» كتفسير لوجود الكون، ولذلك ركز «فلو» في نقض مقالاتهم على أمرين: الأول: التأكيد على أن قضية وجود الشرور في العالم «موضوع منفصل عن التساؤل عن وجود إله، وأن «وجود الإله لا يعتمد على الظفر بتبرير لوجود الشر أو عدم الظفر بتبرير وجوده”.
الثاني: نقض لازمة «الصدفة»، لأن الصدفة تفسر كيفية الحدوث لا تحديد الفاعل، وتكرار الحدث يقلل من احتمالية الصدفة، كما أن الصدفة تتعارض مع قانون الاحتمالات، ولا تتناسب مع الدقة والنظام الموجود في الكون، على نحو يبدو أن الكون قد صُمِّم على أساس «أننا قادمون» على حد تعبير “فلو”، وأن صوت العقلانية يسمع من خلال آليات المادة، وأن قوانين الطبيعة صيغت على نحو يحرك العالم باتجاه نشأة حياة.
4. تميزت الرؤية القرآنية لمسألة الشرور بالدقة والعمق والشمول، فهي:
– أولا: تعتبر الحياة ميدان ابتلاء واختبار لتحقيق الأجود والأحسن بمعيار الصواب الديني والصلاحية التقنية، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا }،
– ثانيا: الابتلاء يكون بالشر ويكون بالخير قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
– ثالثا: العبرة بالخواتيم: فقد يكون الأمر خيرا ينتهي إلى شر، وقد يكون شرا ينتهي إلى خير، قال الله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ }.
– رابعا: مَقصِد اختبار الوفاء للمبادئ ورسوخ العقيدة، قال سبحانه:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}
– خامسا: وجوب التفريق بين الإرادة الإلهية التكوينية والإرادة الإلهية التشريعية، فمن الأولى قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، وهذه هي التي ينطبق عليها «لا ينفع حذر مع قدر»، فالمطلوب إزاءها الصبر والرضا، أما الإرادة التشريعية فمبنية على الأمر والنهي، والتقدير والتدبير، وتحديد المصالح والمفاسد، وهذه هي التي ينصرف إليها معنى الآية في قوله تعالى: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ}، فالمطلوب إزاءها أولا دفع القدر بالقدر، وعليها يتنزل قول عمر رضي الله عنه لما ضرب الطاعون الجزيرة العربية «نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللهِ إِلَى قَدَرِ اللهِ» ردا على من استغرب خروجه من أرض الوباء، وثانيا اتخاذ الأسباب المتصلة بالتدابير الاحترازية، واحترام قواعد السلامة العامة، التماسا للعافية في الأبدان حتى تحصل العافية في الأديان،
– سادسا: ثمة شرور يَنسُبها القرآن العظيم إلى الإنسان قال تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، منها هذا السعي الهستيري لامتلاك كل أسلحة الدمار الشامل، والتسبب في كوارث وحروب نووية وبيولوجية وكيميائية.
– سابعا: نسبية الشر في الطبيعة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ }، فما قد يظهر أنه شر قد يكون في جوهره خيرا عاجلا أم آجلا.
– ثامنا: الأخذ بعين الاعتبار قاعدة جبر الضرر المعمول بها قرآنيا في حق من صبر على البلاء ولم يجزع لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وقوله صلى الله عليه وسلم: “لا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ أو المؤمنةِ في جسدِه وفي مالِه وفي ولده، حتّى يلقى اللهَ وما عليه مِن خطيئةٍ”.
– ومن أعظم ما يُعين على تفسير مسألة وجود الشرور في العالم هو أن يُفتح للإنسان باب الفهم فيها كما قال الحكيم ابن عطاء الله السكندري: «ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك، متى فتح باب الفهم في المنع – عاد المنع عين العطاء، متى أعطاك أشهدك بِرَّه، ومتى منعك أشهدك قهره، فهو في كل ذلك مُتَعرِّف إليك ومُقْبل بوجود لطفه عليك، إنما يؤلمك المنع لعدم فهمك عن الله فيه»، و”من لم يقبل على الله بلطائف الإحسان سيق إليه بسلاسل الامتحان”.