مقاصد العبادات والعادات في منظومة الدكالي
بقلم: إسماعيل هادي
نظم الشيخ الأصولي محمد ضياء الدين الدكالي المغربي منظومة مراصد المقاصد، تحدث فيها عن مقاصد الشريعة الإسلامية من الأحكام الشرعية، وخصص ثلاث أبيات لمقاصد العبادات والعادات، سأتناولها بالشرح المختصر، قدر المستطاع، وهي كالتالي :
57 – فصل في المقاصد المخصوصه عبادة المهيمن المنصوصه
58 – والأصل فيها عدم التعليل وقد تجلى حكمة الجليل
59 – والعكس في المعاملات والحدود كذا جنايات الجناة في الورود
1) العبادة المخصوصة المنصوصة
قال الشيخ في البيت:
57 – فصل في المقاصد المخصوصه عبادة المهيمن المنصوصه.
فالمقاصد المخصوصة: هي المقاصد الخاصة؛ ويقصد بها: (المعاني والحكم الشرعية الخاصة بباب معين من أبواب الشريعة دون غيره، أو بأبواب متجانسة منه، (1)، أو المعاني الجامعة لإحدى جهات الشريعة، المؤثرة في جنس أحكامها). (2)
عبادة المهيمن: والمهيمن اسم من أسماء الله الحسنى: وهو اسم جامع يجمع أوصاف الفضل والكمال، وينقض أوصاف النقص، ويتضمن معان جليلة، وصفات جميلة. وعبادة المهيمن، عبادة الله عز وجل لأنه أهل لذلك.
المنصوصة: والمنصوصة: التي وردت في النص الشرعي؛ في القرآن أو السنة. كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}. سورة البقرة: 110.
وقوله عز من قائل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}. سورة البقرة:197.
وقال سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}. سورة البقرة: 183.
وفي السنة: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بُنيَ الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان). رواه البخاري ومسلم.
المقاصد المخصوصة والمنصوصة: من عبادات محددة ومبينة إجمالا وتفصيلا، تم ضبطها وبيانها وتفصيلها وشرحها في نصوص القرآن الكريم، وفي السنة النبوية القولية والفعلية والتقريرية. وهي ثابتة وباقية ودائمة إلى يوم القيامة، لا ينبغي تغييرها وتبديلها، ولا يجوز البتة الزيادة فيها أو الإنقاص منها، وليس على المكلف إلا أن يلزم الأمر الشرعي، والإلزام الرباني الذي بين العبادة المطلوبة للشارع والمرادة له؛ لأنها أوامر إلهية لا يجوز مخالفتها؛ ولا يشرع منها إلا ما شرعه الله تعالى، ومقصود الشارع في العبادة والطاعة أن يعبدوه ويطيعوه كما أمرهم وكلفهم، وليس كما اشتهوا واجتهدوا وغيَّروا ولذلك تقررت القاعدة الشرعية المقاصدية المعروفة: “لا يُعبَد الشارع إلا بما شرع. (3) قال الله تعالى: {أمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ} الشورى 21.
فالعبادات هي كل الأقوال والأفعال التي يقوم بها المكلف بالكيفية التي اشترطها الشارع عليه، قصد التقرب والامتثال والانقياد والخضوع له. وهي تضبط العلاقة بين العبد وربه، من حيث الأركان الأربعة للإسلام: الصلاة والزكاة والصوم والحج وما يندرج تحت ذلك.
قال ابن عابدين في حاشيته: «المراد بالعبادات ما كان المقصود منها في الأصل تقرب العبد إلى الملك المعبود، ونيل الثواب والجود، كالأركان الأربعة ونحوها«. (4)
2)- هل العبادة معللة ومعقولة المعنى أمْ هي تعبدية محضة؟
58 – والأصل فيها عدم التعليل وقد تجلى حكمة الجليل
في الشطر الأول من البيت: 58 – “والأصل فيها عدم التعليل”
التعليل: الكشف عن علل الأحكام وبيانُها. والعلل جمع علة. قال الشاطبي: ” وأما العلة فالمراد بها الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي، أي: الحكمة والمصلحة التي لأجل رعايتها وتحقيقها وُضع الحكم.”(5)
هنا يشير الشيخ الدكالي: إلى أن الأصل في العبادات التعبد، وعدم التعليل؛ لأن الشارع الحكيم لم يضعها على محض عقولنا.(6) ولأن الأصل فيها التوقيف.
قال الشاطبي: “إن مقصود العبادات الخضوع لله، والتوجه إليه والتذلل بين يديه، والانقياد تحت حكمه، وعمارة قلبه بذكره حتى يكون العبد بقلبه وجوارحه حاضرًا مع الله ومراقبًا له غير غافل عنه، وأن يكون ساعيًا في مرضاته، وما يقرب إليه على حسب طاقته”(7).
أما في الشطر الثاني من نفس البيت فقد قرر الشيخ بأن للأحكام مقاصد خفية يجليها أهل العلم:
“وقد تُجلّى حكمة الجليل”. فقد استهله بأداة قد التي إذا اتصلت بالفعل المضارع تفيد التقليل والاحتمال، والاحتمال يفيد النسبة. بمعنى أن مقاصد العبادات وحكمها التي وضعها الله تعالى، بعضها ظاهر من خلال النصوص الشرعية، وبعضها خاف يجليه العلماء.
والقول بأن العبادات توقيفية غير معللة لا يعني البتة خلوها من المصالح والحِكم والفوائد؛ وإنما يعني فقط ثبوتها ودوامها على ذلك الأمر؛ كي لا تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، وكي يتحقق منها واجب التدين والتعبد والامتثال؛ إذ لا يعد الإنسان مطيعًا ومنقادًا إلا إذا فعل ما أمر به من مطيعه على الوجه الذي أراد وبالكيفية التي طلب. فالعبد إذا صلى نافلة محل الفريضة لا تقبل منه ولا يعتبر مطيعا.
وتعليل الحكم مقرر ومعلوم وثابت؛ إذ المقصد الأصلي من العبادات هو الخضوع والانقياد، والمقصد التبعي هو نيل بعض الحظوظ والمنافع العاجلة.
قال الله جل جلاله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ } (سورة العنكبوت: 45)
في هذه الآية يأمرنا الله تعالى بإقامة الصلاة، ووجه التوقيف وعدم التعليل فيه هو عدد الصلوات، وعدد الركعات، فهو عدد توقيفي لا دخل للإنسان فيه.
وأما وجه التعليل في الصلاة المفروضة فهي مرتبطة بمصلحتين جامعتين عظيمتين:
الأولى تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولا يخفى على أحد المصالح المترتبة عليها فردا و جماعة، دنيا وأخرى.
والثانية التي عللت بها الصلاة في هذه الآية، هي المقصد الأعظم وهي ذكر الله.
وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. (سورة البقرة:183). فالمقصد الذي لأجله شرع الصيام هو اتقاء المعاصي، والتحلي بالصفات الملائكية.
3)- بالحدود والجنايات تصان العادات.
59 – والعكس في المعاملات والحدود كذا جنايات الجناة في الورود
استفتح شيخنا بيته التاسع والخمسين بكلمة ” والعكس” أي أن المعاملات على عكس العبادات وفيهما قاعدتان فقهيتان:
الأولى: قاعدة الأصل في العبادات التعبُّد، وفي العادات التعقُّل.
والثانية: الأصل في العبادات التوقف، وفي العادات الإباحة.
فالأصل في المعاملات الإباحة والزيادة وعدم الوقوف على الصور الواردة فيها من الكتاب والسنة، وذلك أن العبادة لله، والله تعالى يتعبدنا بما يشاء، فهي حق خالص له، ومن هنا، فإن الاجتهاد في العبادات محدود جدا، أما المعاملات، فهي مبنية على الاجتهاد، وتنوع الصور، واختلافها من زمان لزمان، ومن مكان لمكان، وخلاصة القاعدة أن العبادات ثابتة، والمعاملات متنوعة متغيرة.
المعاملات: هي ما يقصد بها تنظيم علاقة الأفراد فيما بينهم، وهذه تشمل جميع روابط القانون العام والخاص في لغة القانون. (8)
وهي أيضا معرفة الأحكام الشرعية العملية المتعلقة بالمعاملات المالية والأسرة والقضاء والجنايات والعقود وغيرها، وهي خمسة كما يقول ابن عابدين الدمشقي:» المعاوضات المالية، والمناكحات، والمخاصمات، والأمانات، والتركات«(9). ومن المعاصرين من يقيد فقه المعاملات بالأمور المالية،(10) وتحت هذا العنوان العام (فقه المعاملات) تندرج عدة اصطلاحات؛ الاقتصاد الإسلامي، النظام المالي، القانون المدني، القانون التجاري.
قال ابن عابدين في حاشيته: المراد “بالمعاملات ما كان المقصود منها في الأصل قضاء مصالح العباد كالبيع والكفالة والحوالة ونحوها، وكون البيع أو الشراء قد يكون واجبًا لعارض لا يُخرجه عن كونه من المعاملات” (11)
جاءت توجيهات القرآن والسنة في مقاصد المعاملات تنهى عن الاعتداء على المال أو محاولة تنميته عن طريق الإضرار بالناس وأكل أموالهم بالباطل.
كقول الرسول صلى الله عليه وسلم، في خطبة حجة الوداع: “إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا في بلدكم هذا“(12).
وللحفاظ على حقوق العباد؛ شرع الله عز وجل حدودا للردع والزجر؛ لكون النفس البشرية ميالة للشهوات والملذات، التي لو تُركت للناس لطغوا وتجبروا وأفسدوا الدين والعقل والمال والنفس والنسل.
قال الله تعالى:” وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ” (سورة الطلاق:1).
وذهب ابن عاشور إلى أن الحدود هي الأحكام الشرعية، فقال: “وَحُدُودُ اللَّهِ اسْتِعَارَةٌ لِلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الشَّرْعِيَّةِ بِقَرِينَةِ الْإِشَارَةِ، شُبِّهَتْ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ الْفَوَاصِلُ الْمَجْعُولَةُ بَيْنَ أَمْلَاكِ النَّاسِ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ، تَفْصِلُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَتَفْصِلُ بَيْنَ مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ بَعْدَهُ.” (13)
إن نظام الحدود والعقوبات في التشريع الإسلامي وضع على منهج رباني، يراعي الفطرة الإنسانية وما يناسبها من عقوبات، حتى تستقيم، وله مقاصد نبيلة يرمي إليها. وأن هذه المقاصد الزجرية تعتني بالمجني عليه وبالدفاع عنه، وتراعي كذلك حقوق الجاني فلم تهمل إنسانيته وإن كان جانيا. كما أنها تراعي مصالح المجتمع، وتدفع عنه المفاسد. أذكر منها ما يلي:
-1- إصلاح وتأديب الجاني. -2- ردع وزجر الجاني.
-3- التشهير بالجاني والإعلام به. -4- إرضاء المجني عليه.
-5- حفظ كرامة المجني عليه وسمعته. -6- حفظ نظام الأمة.
كان المراد من نظام العقوبات ومقاصدها في التشريع الجنائي الإسلامي؛ حفظ النوع الإنساني واستدامة صلاحه، يقول ابن عاشور مبينا المقصد العام من التشريع: ”هو حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان، ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه.”(14)
الهوامش.
-1- مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور، ص 183.
-2- مقاصد العبادات وأثرها الفقهي للنجران، ص 114.
-3- كتاب علم المقاصد الشرعية للخادمي، ص166
-4- حاشية ابن عابدين، ، ج 4 ، ص 500.
-5- الموافقات للشاطبي، ج1 ص 265.
-6- الموافقات للشاطبي، ج 2، ص 300.
-7- نفس المصدر، ص301.
-8- المدخل إلى الشريعة الاسلامية لعباس كاشف الغطاء، ص 191.
-9- حاشية ابن عابدين، ، ج 4 ، ص 500.
-10- المعاملات المالية المعاصرة لمحمد شبير، ص 10.
-11- حاشية ابن عابدين، ، ج 4 ، ص 500.
-12- رواه مسلم في باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه، ج8، ص10.
-13- التحرير والتنوير للطاهر بن عاشور ج 2 / ص: 413.
-14- مقاصد الشريعة الإسلامية للطاهر بن عاشور، ص: 163.