قراءة في كتاب “الأخلاق والإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي” للأستاذ الدكتور أحمد بوعود ”في دلالات الإهداء”
محمد أغزيت
قراءة في كتاب “الأخلاق والإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي” للأستاذ الدكتور أحمد بوعود
”في دلالات الإهداء”
بقلم: محمد أغزيت
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، والحمد له إذ هدانا إلى الإسلام أجل النِّعم، ورفع قدرنا به بين الشعوب والأمم، والصلاة والسلام على أفصح من نطق بالضاد، ونصح للأمَّةِ، وناصر العبادَ، وبعد؛ شكر الله سعي أستاذنا الجليل مولاي أحمد بوعود الذي أبدع لنا هذا السفر الرصين، وجعل موضوعه بين الفلسفة والدين، منيرا به دروب الدارسين، باحثا عن الميزِ في مشروع واحد من أبرز الفلاسفة المغاربة المعاصرين، الذين تبنَّوا النزعة الشخصانية باعتبارها نظاما فكريا يقوم على اعتبار الشخص المبدأ التوضيحي والمعرفي والأنطلوجي الأخلاقي المطلق لجميع الحقائق، كما عبّر عن ذلك كلّ من أبو يعرب المرزوقي، والطيب تيزيني في كتابهما “آفاق فلسفية عربية معاصرة”[1]، بقولهما: »تضع الشخصانية المفهوم القائل بأنَّ الطبيعة هي المجمل الكلي للأرواح الفرديَّة … وتذهب الشخصانية إلى أنَّ المهمَّة الاجتماعية الرئيسية ليست تغيير العالم، إنَّما تغيير الفرد، أي دعم كماله الذاتي الروحيِّ«. أي محاولة الإجابة عن سؤال: هل من منقذ للمجتمعات الحالية من الشرنقة الذاتية التي تأسر الأنا، ومن الشرنقة الجماعية التي تحشر الدُّول في متاهات بلا مخرج؟ كما عبَّر عن ذلك الحبابي نفسه في غير ما موضع، راميا إلى نشر هذه الفلسفة في صفوف المثقفين في المجتمعات الإسلامية من أجل تخليصها من حالة الركود التي تعرفها، مع محاولة إكسابها (الشخصانية) نوعا من الخصوصية والتَّفرد اللذين يتناسبان والمرجعيةَ الفكرية الإسلامية.
إن هذا الكتاب “الأخلاق والإيمان” يتجاوز كونه مجرد دراسة تنظيرية فلسفية مقاربة لفلسفة الحبابي ومشروعه الفكري إلى كونه محاولة جادة من أكاديمي رصين، للسؤال عن علاقة المجتمعات الإسلامية المعاصرة بالأخلاق، باعتبارها عنصرا أساسيا من عناصر المرجعية الإسلامية، التي أوردت هذه التيمة في غير ما موضع، حيث يقول رسول الله ﷺ فيما يرويه جابر بن عبدالله فيما أورده الإمام الترميذي رحمه الله في سننه بسند صحيح: {إن َّمن أحبكم إليَّ وأقربكم منِّي مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا …}[2]، فشرط القرب من رسول الله ﷺ يوم القيامة- بناء على هذا الحديث الشريف -هو: حسن الخلق في الدنيا، وهذا مظهر من مظاهر حثِّ النص الدِّيني (الإسلامي) على التحلي بالأخلاق الفاضلة، التي أصبحت المجتمعات البرغماتية المعاصرة وحتى الإسلامية تفقد منها الشيء الكثير، عبر سؤال استنكاري مفاده هل “هل نحن فعلا نعاني من أزمة أخلاقية”[3]، و محاولة الإجابة عنه من خلال المشروع الأخلاقي للحبابي، عبر ربطه بمجموعة من الخلفيات الفكرية التي تنم عن موسوعية المؤلف و انفتاحه على مختلف المشارب المعرفية الأمر الذي يثبته تعدد المصادر و المراجع المعتمد عليها في إنجاز هذا العمل و كذا تعدد لغاتها بين العربية و الفرنسية و الإنجليزية، كما يعضده الإهداء الذي يفتح المتن على قراءات متعددة، كل دارس وفق إمكاناته و خلفياته الفكرية و مستوى استيعابه للمقروء، فبغض النظر عن القيمة الأكاديمية لهذا العنصر الذي يعد وجوده ضروريا ضمن كل الإنتاجات العلمية المحكمة، فإنه يعد بوابة المتن و يترجم كثيرا من فلسفة صاحبه في الكتابة و مدى عنايته بالمنتج الفكري، الأمر الذي جعلنا ننكب في قراءتنا القاصرة هذه على تفكيك بنية هذا العنصر لغويا و دلاليا و ربطها بشخصية المؤلف و اشتغاله الأكاديمي.
يقول الدكتور مولاي أحمد بوعود:“إلى كل صاحب فكر يتجاوز المرسوم و يتطلع إلى أسنى الفهوم ليسمو بالبشرية أخلاقيا.”[4]و للناظر في هذه الألفاظ القليلة ذات المعاني الجزيلة أن يقف على مجموعة من الأبعاد الدفينة التي تظهر من خلال محاولة تفكيك بنيتها لغويا و دلاليا؛ فكلمة “كل” تفيد في المعجم التراثي الشمول و الاستغراق و وقوع الحكم الذي يطلق على ما بعدها وقوعا تاما، كما تفيد في نفس الآن التنوع و التفرق، كما نجد ذلك في قول الله عز و جل من سورة آل عمران :” كل نفس ذائقة الموت”[5] فكل هنا تشير إلى اقتران الموت بعموم من فيه روح من الجن و الإنس و الحيوان …، و هنا يتجلى فيها معنى التنوع، و هي في إهداء أستاذنا بنفس الغرض و المعنى فإضافتها إلى كلمة :”صاحب” تعبر عن أن هذا العمل موجه للكل المختلف دون استثناء لأحد مهما كانت أفكاره و معتقداته و مكانته الاجتماعية …، كأن المؤلف هنا يفتح هامش تقبله لاختلاف القارئ معه، شريطة أن يكون هذا القارئ صاحب فكر، و لعل هذا ليس غريبا على رجل تشرب الفكر الديني و الفلسفي معا و كلاهما يحثان على هذه الصفة ( التسامح ) و نبذ التعصب،كما أخبر بذلك ربنا سبحانه في محكم تنزيله بقوله :” ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن “[6]، كما نجد هذه التيمة تحظى بنفس الأهمية في الفلسفة و نورد في هذا الصدد على سبيل التمثيل لا الحصر قول الفيلسوف الفرنسي فرونسوا ماري ارويه المعروف باسم فولتير في كتابه”رسالة في التسامح ” إذ يقول:“قد أختلف معك في الرأي،و لكني على استعداد لأن أموت دفاعا عن رأيك “[7]، إحقاقا للمثل القائل بأن الاختلاف لا يفسد للود قضية.
و عودة إلى لمجالسة إهداءنا فإن كلمة “فكر” أيضا تحمل دلالة الشمول و التنوع في ذات الآن؛ حيث نجد تعريفاتها تتباين و إن نسبيا من معجم إلى آخر فيعرفها ابن منظور في لسان العرب بقوله:”الفَكر و الفـِكر، إعمال الخاطر في الشيء “ [8]، و هذا التعريف عام فصاحبه يصرح بأن التأمل في كل شيء بغض النظر عن طبيعته فهو فكر ،بينما يعرف بشيء من التخصيص في المعاجم الحديثة و أبرزها المعجم الوسيط الذي نقرأ فيه:”الفكر مقلوب عن الفرك، لكن يستعمل الفكر في الأمور المعنوية، وهو فرك الأمور و بحثها للوصول إلى الحقيقة.”[9] و لعل هذا التباين الحاصل في تعريف هذا اللفظ قد فرضته طبيعة المجتمعات العربية المعاصرة المتأثرة بالمناهج الغربية في كل الميادين، و خاصة المنهج البنيوي القائم على التفكيك و الفصل و إحداث الحدود الغائرة بين المفاهيم، إلى جانب ظهور الصراع المحتد و غلبة المادي البراغماتي النفعي الذي فرضه المد الإمبريالي الغربي على حساب المعنوي الأخلاقي القيمي الذي يمثل أبعاد الهوية العربية الإسلامية، القائمة على أسس إنسانية كونية؛ توازن بين النقيضين، الأمر الذي وضع هذه المجتمعات في مأزق أخلاقي شكلت محاولة الخروج منه هم المثقف العربي في هذه الآونة، و ما كتاب الأخلاق و الإيمان إلا ترجمة لهم أستاذنا مولاي “أحمد بوعود” في هذا الصدد. كما أن استعمال هذا اللفظ “الفكر” في الاصطلاح ذو دلالات متعددة تختلف من ميدان إلى آخر، فمحددات الفكر في الاصطلاح الفلسفي ليست نفسها في الاصطلاح الديني و لا في الاصطلاح العلمي… و لعل استخدام هذا اللفظ ذي الدلالات المتعددة لغة و اصطلاحا يحيل إلى نوع من الثورة على الفكرة القائلة “بالتخصص” الذي يجعل معرفة المثقف منحصرة في مجال معين فقط، فعلى طالب العلم أن يقرأ في جميع الميادين، مع شرط واحد لضمان نفع هذه القراءة، حدده أستاذنا مولاي”أحمد بوعود” بقوله:”يتجاوز المرسوم و يتطلع إلى أسنى الفهوم “، و في هذا حث على إعمال الفهم و محاولة تطويره قراءة بعد أخرى، و خاصية تجاوز المرسوم نجدها ضمن أهم مبادئ الاشتغال الفقهي التي تقوم على أساس مفاده أن للنص بناء ظاهري و آخر باطني، و الذي يعضده الحديث الشريف الذي رواه ابن حبان في صحيحه مرفوعا إلى ابن مسعود رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه و سلم قال:”أنزل القرآن على سبعة أحرف، لكل آية منها ظهر و بطن ” [10]، و على الرغم من تضارب الأراء حول مدى صحة هذا الحديث إلا أن الثابت أنه لا يمكن التعامل مع النص الديني ( القرآن الكريم)، دون هذا المبدء و إلا فمجموعة من الآيات يمكن أن تناقض المبادئ الكبرى للإسلام إذا ما أخذت على ظاهرها، وهنا تتجلى شخصية المؤلف باعتباره أكاديمي مشتغل بالعلوم الشرعية، عارف بدروبها و مطلع على خباياها و أسرارها، كما يمكن أن يحيلنا هذا القول إذا ما أردنا مقاربته مقاربة لغوية، إلى دلالة اصطلاحية أخرى في اللسانيات الحديثة و المعاصرة هي البنية السطحية و البنية العميقة عند تشارلز هوكيت في كتابه ” محاضرة في اللسانيات الحديثة ” ، و بعده عند تشومسكي في “مظاهر النظرية التركيبية ” ما يثبت بشكل أو بآخر أن الرجل إلى جانب اشتغاله بالعلوم الشرعية و ممارسته لفعل التفلسف فهو مطلع على شيء من الدراسات اللغوية الحديثة كذلك.
و بعد هذا الشطر الأول من شرط نفعية القراءة تقبل علينا صيغة تفعَّل في زمن المضارع متجسدة في الفعل ” يتطلع ” بعد واو للعطف، و هذه الصيغة تفيد في احدى دلالتها اللغوية كما أورد ذلك أهل الصرف و على رأسهم رضي الدين الاسترابادي في “شرح شافية ابن الحاجب ” معنى التكلف؛ أي تعرض الفاعل للمشقة في إحداث هذا الفعل،و في ذلك رمز إلى أن “أسنى الفهوم” أي ألمعها و أقومها لا يمكن تحصيله إلا بالمشقة الناتجة عن القراءة و مزيد من القراءة في مختلف المجالات، لينتهي المؤلف في هذا الاهداء الى تبيان الغرض و الغاية من دعوته القارئ إلى قراءة ما و السطور و إعمال الفهم في ملاحقة الحقيقة، هذا الغرض الذي ربطه بشكل مباشر بالفكرة السابقة عبر “لام ” للتعليل فقال:”ليسمو بالبشرية أخلاقيا” فجعل الغرض من تحصيل المعرفة و إحقاق الفكر هو السمو بالبشرية أخلاقيا، و البشرية هنا لفظ عام شامل لكل بني البشر على اختلاف مللهم و أفكارهم و معتقداتهم و أجناسهم …وهنا يظهر جليا البناء القيمي الأخلاقي لهذا المتن حتى في إهداءه حيث بدأه متسامحا و أنهاه كذلك، كما تظهر مرة أخرى شخصية الفقيه الفيلسوف أو الفيلسوف الفقيه ليثبت أن لا تعارض بين الدين (الإسلام) و الفلسفة كما قال بذلك الفيلسوف العربي المسلم أبو الوليد ابن رشد في كتاب “فصل المقال” بقوله: ” و إذا كانت هذه الشريعة حقا و داعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق، فإنا معشر المسلمين نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع :فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه و يشهد له .”[11]
و ختاما بعد هذه الجلسة البسيطة مع عنصر “الإهداء ” و محاولة استنطاقه و استشراف أبعاده لغويا و دلاليا، أستأذن أستاذنا مولاي”أحمد بوعود” في محاولة الرد على إحدى المؤاخذات الموجهة إلى هذا الكتاب “الأخلاق و الإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي ” و هي ضمن قراءة أنجزها الباحث عبد الهادي المهادي نشرت في صفحة مركز ابن غازي للأبحاث و الدراسات الاستراتيجية،يقول فيها :”و مؤاخذتي الوحيدة على الكتاب أن الصديق الدكتور أحمد بوعود- لاعتبارات منهجية وعيت بها و لم أوافقه عليها -عوضا أن يسوق نصوصا لعزيز الحبابي أثناء نقاشه لبعض أفكاره، أو على الأقل يغلب إيرادها، أكثر من استدعاء كلام لغيره من المفكرين و الفلاسفة العرب و الغربيين، مما أضر بحضور صاحب” الشخصانية الإسلامية ” …فالواجب كان يحتم عليه إذا أن يكثر من الاسترشاد بنصوصه .”
نقول و بالله التوفيق: إن أساتذنا الدكتور أحمد بوعود كان واضح الموقف بيّن التوجه منذ الإهداء؛ عندما أهدى هذا العمل إلى كل قارئ يتجاوز السطور و يتطلع فهم خبايا الأمور، و بتبنى أهداف كبرى تتجاوز المصلحة الشخصية و الاجتماعية في نطاقها الضيق إلى خدمة البشرية، و بهذا يصبح( النص )الممثل للمعرفة محض وسيلة لتحقيق هذا الهدف؛ فما يهم القارئ هو تبين مشروع الحبابي و كيفية إحقاقه على أرض الواقع خدمة للبشرية..و لا ضير إن تمت مناقشته من داخل أو من خارج…
[1] أبو يعرب المرزوقي، الطيب تيزيني، آفاق فلسفية عربية معاصرة، دمشق، دار الفكر، 1991، ص 310.
[2] صحيح الترميذي، رقم الحديث 2018.
[3] أحمد بوعود، الأخلاق و الإيمان في فلسفة محمد عزيز الحبابي، دار الثقافة، ص 31
[5] سورة آل عمران ، الآية 185
[6] سورة النحل ، الآية 125
[7] فولتير، رسالة في التسامح، ترجمة هنرييت عبودي، دار باترا للنشر و التوزيع، دمشق،ط1، 2009
[8] ابن منظور، لسان العرب، ت يوسف خياط و نديم مرعشلي، دار احياء التراث العربي، بيروت
[9] مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط، ج2 ، ص 698
[10] ابن حبان ، الصحيح ، تحقيق و نخريج الشيخ خليل بن مامون،دار المعارف بيروت
[11] ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة و الحكمة من اتصال، مركز دراسات الوحدة العربية ، ط3 ، بيروت،2002