الكوارث والتضييق على العمل الخيري التطوعي المنظم
ادريس قافو
الكواثر والتضييق على العمل الخيري التطوعي المنظم
بقلم: ادريس قافو
الأصل في زمن الكوارث كالزلازل والفيضانات… أن تُنسي كل الانتماءات ولا يبقى إلا انتماء واحد، وهو الانتماء للإنسانية، وأن تُقدَّم إغاثةُ ومواساةُ المنكوبين على كل الحسابات، خصوصا حسابات الاستقطاب بين الدولة ومؤسساتها وبين المعارضين لسياساتها، وأن يُؤجَّل الصراع السياسي الذي هو سُنَّة ثابتة من سنن تداول الأيام بين الناس إلى غاية انكشاف الكُرَب.
لكن الدولة بتشريعاتها لها رأي مخالف لذلك؛ فهي تحاول احتكار كل المؤسسات الخيرية ([1])، بل وسنَّت قوانين تحدُّ من نشاط الجهات غير الموالية لسياساتها، كالقانون 18.18 الخاص بتنظيم عمليات جمع التبرعات من العموم وتوزيع المساعدات لأغراض خيرية ([2])، الذي يُجرِّم جمع التبرعات بدون ترخيص، مما يجعل الاهتمامات في الساعات الأولى لكل كارثة، إن لم نقل في الأيام الأولى، تنصرف إلى الحصول على التراخيص، بدل أن توجه إلى التدخل الفوري العاجل.
صحيح أن هذا القانون استثنى عمليات جمع التبرعات التي تتم بالطرق التقليدية والعرفية ([3])، لكن الإشكال هو فيمن له صلاحية تحديد الطرق التقليدية والعرفية. ثم إن العمل التقليدي العشوائي غير المنظم ليس له كبير فائدة.
مبررات الدولة
تسوق الدولة لتبرير تشريعاتها عدة مبررات منها:
أولا: قطع الطريق أمام أشخاص وصفتهم بأنهم مرتزقة العمل الخيري. ولكن هذا المبرر يقابل بسؤال: هل وجود مرتزقة العمل الخيري، وهي حقيقة قائمة إلى قيام الساعة يستدعي منع الجميع؟ أليست هناك طرق زجرية أخرى تحدُّ من الظاهرة؟ ثم أليست استفادة بعض المنكوبين مع احتيالٍ مُحتمَلٍ لمرتزق خير من إغلاق الباب سداً للذرائع؟
ثانيا: منع استغلال الحالات الاجتماعية. وهنا يطرح سؤال: ما هو نوع الاستغلال الذي يمكن أن يتعرض له منكوبين حين تُقدَّم لهم مساعدات؟ هل هو انتزاع الاعتراف للمتطوعين بفضلهم، والنفس تميل إلى الاعتراف بمن أحسن إليها، والدولة تريد أن تحتكر كل اعتبارٍ ومزية لها ولمن يؤيد سياساتها؟ أم زعزعة (دين الانقياد) ([4])؟ أم عملا بدعاء: اللهم لا تجعل لأي معارضٍ لسياساتنا منَّة على الشعب فترزقه منه محبة؟ أم بالحكمة القائلة: لأن يبقى المصابون في أبدانهم وأموالهم بدون إغاثة أهون من أن يصابوا في قلوبهم بمعروف العدو.
وهذه المبررات وغيرها تُعطّل طاقات بشرية كان الأجدر بالدولة أن تسعى إلى استثمارها، بل وتُضيِّق أفق العمل الخيري التطوعي المنظم الذي يسع الجميع، والذي قد يحقِّق إنجازات تعجز عنها الدول.
أهمية العمل الخيري التطوعي المنظم للوطن والمواطن
إن كثيرا من الدول اليوم شبه عاجزة عن تغطية كل الأساسيات في قطاعات حيوية كالتعليم والصحة. والعمل التطوعي حين ينتقل من ردود الأفعال، ومن الاستجابات الفورية للطوارئ، إلى الاستثمار في العقول والمشاريع العابرة للأجيال قد يأتي بنتائج تعجز عنها كثير من الدول؛ فجامعة هارفارد الأمريكية (Harvard University) ([5])على سبيل المثال لا الحصر، كانت انطلاقتها بمساهمة مادية ومعنوية للقس البروتستانتي جون هارفارد ([6]) عام 1636م. وكانت تلك المساهمة دفعة قوية للجامعة وللقائمين عليها فيما بعد. وهي اليوم إحدى أقدم وأفضل جامعات العالم، وأكبرها من حيث مبلغ الوقف ([7]).
أما عندنا في المغرب فإن جامعة القرويين ([8]) التي تعد أقدم جامعة في العالم، وقد تخرج فيها كثير من كبار العلماء والفلاسفة، ولا زالت تعمل إلى اليوم، رغم أن التهميش والسنوات العجاف أطفأت إشعاعها، فقد كانت في الأصل عملا خيريا ومؤسسة تابعة لمسجد القرويين.
وما قيل في مجال المؤسسات التعليمية يمكن أن يقال كذلك في المجال الصحي، فمؤسسة (the welcome trust) ([9]) على سبيل المثال، وهي مؤسسة غير حكومية للأبحاث الطبية تهتم بعلم الوراثة ومكافحة الأمراض المعدية والمزمنة الخيرية… قامت على العمل الخيري، وهي اليوم تعدُّ من أكبر المؤسسات الخيرية في مجالها، وتُجمع لها تبرعات سنوية تفوق 22 مليار دولار. وهذا عمل تعجز عن دول.
خطورة هذا التضييف على المدى البعيد
أمَّمت الدولة الأوقاف احتكارا لكل مصادر التمويل، وحاولت احتكار العمل الخيري، مع ترك هامش ضيِّق متحكم فيه للمؤيدين لتوجهاتها، وهدفها في ذلك إثبات قوتها من خلال إضعاف خصومها السياسيين بالتضييق على أنشطتهم، وهذا سلاح ذو حدي:
فبهيمنتها على العمل الخيري التطوعي، تقتل حسَّ التضامن والتكافل بين الأفراد، وتؤسس لدى الفرد (عقلية المطالبة)، فالمواطن ينظر إلى ما تقدمه له الدولة على أنه حقه، وهذا لا ينمِّي فيه الشعور بضرورة أن يبذل هو الآخر وأن يساهم، بقدر ما ينمي فيه المطالبة بالمزيد، بخلاف لو جاءته المساعدة من موطنين مثله. فاحتكار الدولة للعمل الخيري يُحدِث خللا في الموازنة بين (عقلية الواجب) و(عقلية المطالبة) عند المواطن.
وأما الترخيص للبعض دون البعض بدون معايير موضوعية، فإنه يضعف المنافسة والإبداع في المشاريع الخيرية. والظلم مؤذن بالخراب ([10]) قاعدة تشمل كل المجالات، ولو كان الظلمُ ظلمَ الأب لأبنائه. قال الله تعالى: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) ([11]). وأول ما يُخرِّبه الظلم هو الحافز والإرادة الباعثان على العمل، سواء عند المظلوم، أو عند الذي قُدمت له امتيازات لم تقدم لغيره.
خلاصة
مصائب الكوارث يجب أن تكون فوق كل الانتماءات والحسابات. وقوة الدولة يجب أن يبحث عنها المسؤولون في إنجازات تسبق بها معارضي سياساتها، ويكتسب الحكام من خلالها شرعية الريادة والقيادة، وشرعية الاستئثار ([12]) بنيل الاعتبار … لا أن يبحثوا عنها من خلال توجيه الجهود والتشريعات في اتجاه تضييق الخناق على المعارضين، ووضع العصي في الدواليب وفوق الرؤوس. والعمل الخيري التطوعي المنظم له مجالات واسعة تسع الجميع.
[1] – كمؤسسات الأعمال الاجتماعية لعدة قطاعات وغيرها
[2] ) – أنظر القانون رقم 18.18 الخاص بتنظيم عمليات جمع التبرعات من العموم وتوزيع المساعدات لأغراض خيرية، الصادر في الجريدة الرسمية عدد 7159 – 16 جمادى الآخرة (09 يناير2023). وهو تعديل للقانون رقم 004.71 المسمى قانون التماس الإحسان العمومي في المغرب، الصادر سنة 1971.
[3] ) – أنظر المادة 4 من القانون 18.18
[4] – (دين الانقياد): يعود هذا المصطلح إلى ابن خلدون ويعبر به عن حال الأمم حين تستسلم وتنقاد لحكامها، يقول: (ورسخ في العقائد دين الانقياد لهم والتسليم، وقاتل الناس معهم على أمرهم قتالهم على العقائد الإيمانية… كأن طاعتها كتاب من الله لا يُبَدل ولا يُعْلم خلافه). ابن خلدون: (المقدمة)، ص 194.
[5] ) –جامعة هارفرد (Harvard University) من أكبر جامعات العالم، تخرج فيها 32 رئيسًا حكموا بلدانهم في مختلف دول العالم، من بينهم رؤساء للولايات المتحدة، مثل: جون آدامز، وفرانكلين روزفلت، وجون كينيدي، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما، والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. كما درس فيها أيضًا 47 عالمًا حصلوا على جائزة نوبل، وتمتلك أكبر مكتبة أكاديمية في العالم، تبلغ محتوياتها 19 مليون كتاب وأربعمئة مليون مخطوطة. نقلا عن موقع: http://www.aljazeera.net/encyclopedia
[6])–جون هارفارد (John Harvard) (1607 -1638)، قس إنجليزي، ارتحل عام 1637م إلى نيو انجلند (New England)… أوصى، قبيل وفاته بالسل، بمكتبته ونصف ثروته لكلية كانت قد أنشئت عام َ1636م في نيو تاون (New Towne) كمبريدج (Cambridge) اليوم، فأُطلق اسمه على تلك الكلية عام 1639م، وهي اليوم جامعة هارفرد (Harvard University) . البعلبكي، منير: معجم أعلام المورد، ص464.
[7] ) -تقدم الجامعات الأميركية نموذجاً مميزاً لاستثمار الأموال المتبرع بها للإنفاق على تطوير التعليم، فبنهاية يونيو/ حزيران 2017، بلغت قيمة (HARVARD MANAGEMENT COMPANY) الذي يعد أكبر وقف جامعي في العالم 37.1 مليار دولار، وتعتبر جامعة هارفارد أغنى الجامعات الأميركية، تليها جامعة YALE بنحو 25.6 مليار دولار، ثم جامعة تكساس بنحو 24.1 مليار دولار، المصدر: https://www.alaraby.co.uk/economy/2017/9/20
[8] ) – جامعة القرويين (859م- إلى الآن) توجد بمدينة فاس بالمغرب، وهي أقدم جامعة في العالم، ولا زالت تعمل إلى الآن بدون انقطاع حسب اليونسكو وموسوعة غينيس للأرقام القياسية. وقد أسست قبل الأزهر بمصر 988م، وجامعة (Bologne) بإيطاليا 1088م، نقلا عن [https://www.univ-paris1.fr/lesorbonnaute]. وكانت مؤسسة تعليمية تابعة لجامع القرويين الذي أسسته فاطمة بنت محمد الفهري القيرواني.
[9] ) -مؤسسة خيرية مستقلة ماليًا و(سياسيا؟)، تعمل في المجال الطبي، تدعم البحث العلمي والعلماء والباحثين، مقرها في بريطانيا، أسسها (Henry Wellcome) (1853م- 1936م) مقاول في الصناعة الصيدلية، وهي حاليًا تدعم أكثر من 14000 شخص في أكثر من 70 دولة. المصدر: https://wellcome.ac.uk/about-usK
[10]) – مقتبس من “الظلم مؤذن بخراب العمران” هو عنوان لفصل في مقدمة ابن خلدون
[11]) _ سورة النمل الآية 52
[12]) –الاستئثار: استحواذ الشخص على الشيء، والانتفاع به دون أحد غيره.