منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الكوارث والزلازل من منظور قرآني

يعقوب زروق

0

الكوارث والزلازل من منظور قرآني

بقلم: يعقوب زروق

يتساءل الناس لماذا هذه الكوارث تصيب العالمين وينال المسلمون منها نصيبا كبيرا؟ ويحتج الملحدون بها ويزعمون أن وجود الشرور في الأرض دليل يثبت نكرانهم لله سبحانه. إذ كيف يكون موجودا ويسمح بحدوث هاته المصائب كلها. وإن كان موجودا وسمح بها فهو إله لا يستحق أن يعبد. ويتشدد بعض المتدينين فيردون كل بلاء إلى ذنوب العباد وأنه عقاب من الله لهم. فما هو التفسير القرآني الصحيح لهذه الابتلاءات؟

ثمة قواعد مهمة نستخلصها من كتاب الله كفيلة بالإجابة عن هذا السؤال أعرضها على القارئ الكريم في هذه المقالة.

  • القاعدة الأولى: الدنيا دار نقص لا دار كمال:

من خلال النظرة القرآنية نعلم أن الحق سبحانه خلق دارين: دار الدنيا وجعلها دار نقص، كونها دار عمل وابتلاء ومكابدة. وجعل الآخرة دار كمال بما فيها من النعيم المطلق أو العذاب المقيم.

قال سبحانه: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” [آل عمران: 185]. قال ابن كثير رحمه الله: وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ تَصْغِيرًا لِشَأْنِ الدُّنْيَا، وَتَحْقِيرًا لأمرها، وأنها دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ قَلِيلَةٌ زَائِلَةٌ.[1]

وقال سبحانه واصفا الدنيا باللعب واللهو لحقارتها: “وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ” [الأنعام: 32]

وقال عز وجل مبينا نسبة الدنيا إلى الآخرة:“اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ” (26) [الرعد: 26]

يوضح رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبة الدنيا في الآخرة في هذا الحديث:

” والله ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه – وأشار يحيى بالسبابة – في  اليم  فلينظر بم ترجع ؟ “.[2]

وقال سبحانه مقارنا بين الدارين فبين أن الأولى لهو ولعب من شاكلة ما يلهو به الصبيان ويلعبون، وأن الآخرة هي الحياة الحقيقية: “وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”  [العنكبوت: 64]

وعبر عنها بالحيوان للمبالغة . قال الآلوسي: وهو أبْلَغُ مِنَ الحَياةِ لِما في بِناءِ فَعْلانٍ مِن مَعْنى الحَرَكَةِ والِاضْطِرابِ اللّازِمِ لِلْحَياةِ، ولِذَلِكَ اخْتِيرَ عَلَيْها في هَذا المَقامِ المُقْتَضِي لِلْمُبالَغَةِ، وقَدْ عَلِمْتَها في وصْفِ الحَياةِ الدُّنْيا المُقابِلَةِ لِلدّارِ الآخِرَةِ”.[3]

وقال سبحانه واصفا الدنيا بأوصاف خمسة كلها تبين دناءتها ومشبها إياها بماء أخرج زرعا  ما إن نما واستوى حتى هاج فاصفر وصار حطاما وذلك ليبين سرعة تحولها وانقضائها: “اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ” [الحديد: 20]

وقال سبحانه موبخا معاتبا عباده على تقديمهم الحياة الدنيا وتفضيلها : “وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ”  [الأعلى: 14-17]

  • القاعدة الثانية: الدنيا دار عمل ومكابدة وامتحان:

هب أن مدرسة ندب إليها تخريج متخصصين في مجال دقيق على أعلى مستوى من الكفاءة والجد والخبرة في تخصصهم، هل كان مرتادوها سيقضون فترة التكوين في راحة وهناء أم كانوا سيثابرون ويكابدون الليالي والأيام ما دامت فترة التكوين محدودة ومختومة بشهادة عليا وجائزة مثلى. كذلك حال الدنيا، هي مدرسة للعمل والجد يتخرج منها  المؤمنون المحسنون فينالوا  مقعد الصدق  في جنات ونهر عند مليك مقتدر. عندما يعلم المؤمن هذا فإنه سيصبر ويصابر ويوقن أن ما أصابه في هذه الدنيا من بلاء هو امتحان لرفع درجاته . ولذلك ورد الحث على العمل في القرآن الكريم بصيغ متنوعة ومحرضة .{لا أُقْسِمُ بِهذَا البلد (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا البلد (2) وَوالِدٍ وَما ولد (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كبد (4)}[البلد: 1-4]

الكبد هو التعب والمشقة. والتي يكابدها الإنسان منذ أن يولد حيث كبد مفارقة مألوفه في رحم أمه، فكبد الفطام وتعلم الكلام والمشي، إلى أن يصير شابا فيكابد الحياة كدحا في سبيل العلم والرزق ومكابدة العبادات وتجنب الحرام وكبد تكوين الأسرة وتربية الأبناء إلى أن يتوفى.

قوله تعالى: { فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)[البلد: 11-18]

قال الآلوسي:” الِاقْتِحامُ: الدُّخُولُ بِسُرْعَةٍ وضَغْطٍ وشِدَّةٍ. ويُقالُ: قَحَمَ في الأمْرِ قُحُومًا رَمى نَفْسَهُ فِيهِ مِن غَيْرِ رَوِيَّةٍ. والعَقَبَةُ الطَّرِيقُ الوَعِرُ في الجَبَلِ وفي البَحْرِ هي ما صَعُبَ مِنهُ وكانَ صَعُودًا… وقال: ” وهي هُنا اسْتِعارَةٌ لِما فُسِّرَتْ بِهِ مِنَ الأعْمالِ الشّاقَّةِ المُرْتَفِعَةِ القَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.”[4]

وقال سبحانه في سورة الحديد بعدما بين حقيقة الدنيا حاثا على مسابقة الزمن: “سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)” [الحديد: 21]

وقال سبحانه حاثا على التنافس في العمل لنيل نعيم الاخرة:”تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)” [المطففين: 24-26]

 وحيث أن النفس البشرية تتحفز للعمل أكثر إن علمت أن هناك من يراها ويشكرها فإن الله أخبر أنه هو من يرى عملنا ورسوله والمؤمنون فقال سبحانه:  “وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ” [التوبة: 105]

وعن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ” إِنَّ أَعْمَالَكُمْ تُعْرَضُ عَلَى أَقَارِبِكُمْ وَعَشَائِرِكُمْ مِنَ الْأَمْوَاتِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا اسْتَبْشَرُوا بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ قَالُوا : اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُمْ حَتَّى تَهْدِيَهُمْ كَمَا هَدَيْتَنَا [5]“.

  • القاعدة الثالثة: الابتلاء سنة إلهية: 

بما أن الدنيا دار عمل لزم أن يكون الابتلاء فيها أمرا حاصلا ضروريا. بل هو سنة إلهية كتبها الله على عباده، ما كانت لتحابي أحدا. بل إن أنبياء الله كانوا أكثر الناس ابتلاء. {الم (1) أَحَسبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذينَ منْ قَبْلهمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذبينَ (3)[العنكبوت: 1-3]

ولذلك قص الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قصص الأنبياء قبله ليرى ما أصابهم من ابتلاء فيثبت بذلك فؤاده“وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ۚ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ ” [هود: 120]

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” أَشدُّ النَّاسِ بلاءً الأنبياءُ، ثم الأمْثلُ، فالأمْثَلُ، يُبْتَلى الرجلُ على حسبِ دينِه، فإِنْ كانَ في دينه صُلبًا اشتدَّ بلاؤه، وإنْ كانَ في دينه رقَّةٌ ابْتُلي على قدْرِ دينه، فما يبْرحُ البلاءُ بالعبْدِ حتَّى يتركه يمشى على الأرْضِ، وما عليه خطيئةٌ “[6].

ولذلك كان صلى الله عليه وسلم أكثر الناس ابتلاء فقد ابتلي بفقد أبويه صغيرا، ثم بفقد جده، وابتلي بالفقر، وابتلي بفقد أولاده وابتلي وهو يبلغ دعوة الله بأصناف الأذى في نفسه وفي أقاربه وأصحابه.

ولحقارة الدنيا أخبر الله سبحانه أنه لو شاء لأنعم على الكفار فيها بنعم كثيرة. ولكن رحمته بالناس أن يفتنوا فيكفروا لم يفعل. {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوابًا وَسُرُرًا عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)}. [الزخرف: 33-35]

  • القاعدة الرابعة: ما من مصيبة إلا بمشيئة الله وعلمه: 

من تمام إيمان المؤمن أن يؤمن بالقدر خيره وشره وأنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله وأمره سبحانه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عليه السلام عن الإيمان: ” أنْ تُؤمن بِاللهِ ومَلائِكتِه، وكُتُبِهِ، و رُسُلِهِ، و اليومِ الآخِرِ، و تُؤمن بِالقَدَرِ خَيرِهِ و شَرِّهِ”[7].

“قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ” [التوبة: 51]

وقال عز وجل مفحما المنافقين الذين كانوا إذا أصابهم خير نسبوه لله وإن أصابهم شر نسبوه لرسوله صلى الله عليه وسلم:أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِ اللَّهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِندِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا  [النساء: 78]

  • القاعدة الخامسة: الابتلاء محنة يجعل الله فيها منحا:

 أ – المنحة الأولى: خير بالغيب:

ينظر الإنسان بنظره الحسير إلى ظواهر الابتلاء فيراه شرا محضا. لكن العالم بخفايا الأمور وظواهرها ومآلاتها يخبرنا أنه كم من شيء نحسبه خيرا وهو غير ذلك وكم من أمر نراه شرا وهو خير فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَعَسَىٰ أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [البقرة: 216]

وقال سبحانه:”قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ”  [التوبة: 51]

قال الطاهر بن عاشور في تفسيره لهذه الآية: ” بِإثْباتِ عَدَمِ اكْتِراثِ المُسْلِمِينَ بِالمُصِيبَةِ وانْتِفاءِ حُزْنِهِمْ عَلَيْها لِأنَّهم يَعْلَمُونَ أنَّ ما أصابَهم ما كانَ إلّا بِتَقْدِيرِ اللَّهِ لِمَصْلَحَةِ المُسْلِمِينَ في ذَلِكَ، فَهو نَفْعٌ مَحْضٌ كَما تَدُلُّ عَلَيْهِ تَعْدِيَةُ فِعْلِ (كَتَبَ) بِاللّامِ المُؤْذِنَةِ بِأنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ لِنَفْعِهِمْ ومَوْقِعُ هَذا الجَوابِ هو أنَّ العَدُوَّ يَفْرَحُ بِمُصابِ عَدُوِّهِ لِأنَّهُ يُنَكِّدُ عَدُوَّهُ ويُحْزِنُهُ، فَإذا عَلِمُوا أنَّ النَّبِيءَ لا يَحْزَنُ لِما أصابَهُ زالَ فَرَحُهم” [8].

بــ – المنحة الثانية: ويتخذ منك شهداء

الشهادة منزلة عظمى يشاء سبحانه أن يكرم بها من شاء من عباده.إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ”  [آل عمران: 140]

قال الرازي في التفسير: “فَكانَ مِن جُمْلَةِ الفَوائِدِ المَطْلُوبَةِ مِن تِلْكَ المُداوَلَةِ حُصُولُ هَذا المَنصِبِ العَظِيمِ لِبَعْضِ المُؤْمِنِينَ.”[9]

جـ – المنحة الثالثة: أجر وكفارة:

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا  نَصَبٍ، وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ، وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ مِنْ خَطَايَاهُ “[10].

وعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ  مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا: الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ».[11]

د – المنحة الرابعة: الاعتبار:

يرجع المؤمنون بالبلاء إلى ربهم ويعتبروا بآياته الكونية. كما قال سبحانه:”هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ۚ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ” [الحشر: 2]

هـ – المنحة الخامسة: المواساة والتضامن:

تكون المحنة مناسبة ترق فيها القلوب وييتداعى المسلمون لما أصاب إخوانهم مواساة وتعاطفا وتضامنا كما أخب بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : عن النعمان بن بشير: ” مَثلُ المؤمنينَ في تَوادِّهم، وتَعاطُفِهم، وتَراحُمِهم، مَثلُ الجَسدِ، إذا اشتَكى منه عُضوٌ تَداعى سائرُ الجَسدِ بالسَّهرِ والحُمّى”.[12]

و- المنحة السادسة: الصبر:

 منزلة الصابرين عظيمة عند الله وجزاؤهم لا يعلمه إلا هو ولولا الابتلاءات ما تحققت هذه المنزلة لأحد. “وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ” [الشورى: 43]

ز – المنحة السابعة التضرع والدعاء:

 فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ “ [الأنعام: 43]

بهذا التضرع والدعاء تتحقق للمؤمن العبودية التي هي غاية وجوده. “وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ” [الذاريات: 56]


الهوامش:

[1]  – تفسير القرآن العظيم- المؤلف: أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي البصري ثم الدمشقي (ت ٧٧٤ هـ)

[2]  – صحيح مسلم- كِتَابٌ : الْجَنَّةُ وَصِفَةُ نَعِيمِهَا وَأَهْلِهَا – 2858

[3]  – تفسير الآلوسي — الآلوسي (١٢٧٠ هـ)

[4]  – نفسه

[5]  – مسند احمد مسند _ أنس بن مالك رضي الله عنه _ 12683

[6]  – جمع الجوامع المعروف بـ “الجامع الكبير” – المؤلف: جلال الدين السيوطي (٨٤٩ – ٩١١ هـ)

[7]  – صحيح مسلم

[8]  – «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»]ـ المؤلف: محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: ١٣٩٣هـ)

[9]  – مفاتيح الغيب = التفسير الكبير- المؤلف: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي خطيب الري (ت ٦٠٦هـ)

[10]  – مسند أحمد . مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. 11450

[11]  – رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ . أول كتاب الفتن والملاحم. ⦗١٤٧٨⦘

[12]  – مسند أحمد – 18380

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.