مفهوم الجهاد من خلال ” المكي “والمدني “
بقلم: يحي ملوك
مقدمة:
موضوع الجهاد أسال حبرا كثيرا قديما و حديثا، باعتباره موضوعا هاما ينبض بالحيوية حين تموت الأمة و تغرق في سباتها. والجهاد كذلك يقض مضاجع المعتدين و ينفس عن كرب المظلومين و المقهورين.
لا شك أن تاريخنا الأول الذي أشرف عليه سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم بتسطيره كلمة كلمة في الواقع المكي والمدني يتماشى مع توجيهات الوحي. هذا الوحي أثمر قرآنا وحديثا قدسيا و نبويا. إن الموضوع الذي اخترته للمعالجة يتناول مفهوم الجهاد من خلال القرآن المكي و القرآن المدني آخذين بعين الاعتبار تداخلات الواقع المكي والمدني من معطيات متباينة أثرت بشكل ملحوظ على المفاهيم الإسلامية، مما استشكل على الأمة في التصرف اللائق الذي ينسجم و مدلولات النص القرآني مع الموقف الصحيح، وبخاصة موضوع الجهاد.
المفهوم اللغوي والاصطلاحي للجهاد
جاء في القاموس: جاهد الشخص، سعى وحاول بجد، بذل وسعه.
جاهد: فاعل من جهد.
سار سيرا جاهدا في الصحراء: تكلف السير أكثر من طاقته. (1)
جاهد العدو: قاتله و كافحه: “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ” الآية:9 من سورة التحريم (2)
“وفى الشرع، أو في اصطلاح القرآن والسنة، يأتي بمعنى أعم وأشمل، يشمل الدِّين كله؛ وحينئذ تتسع مساحته فتشمل الحياة كلها بسائر مجالاتها، ولهذا يُسمى حينئذ: الجهاد الأكبر. وله معنى خاص هو القتال لإعلاء كلمة الله، وهذا يشغل مساحة أصغر من الأولى، ولهذا سُمِّىَ (الجهاد الأصغر)”(3).
وفي هذا المعنى يقول الإمام عبد السلام ياسين:” دامت التربية الجهاد الأكبر ثلاث عشرة سنة في مكة. وصحب الجهاد الأكبر الجهاد الأصغر طيلة العشر الباقيات”. (4)
جديد دخل مكة
لقد كانت مكة هادئة بجبروتها، منتفخة بأوثانها، مستقرة بأحلامها، راضية بمكاسبها…إلى أن جاء ذلك اليوم التاريخي الذي كان فيه اتصال أهل السماء بأهل الأرض فتلقى سيدنا محمد تباشير التغيير الأولى. فبدأ الوضع يتململ ويشق لهم مسلكا ليس بالسهل لأن المسألة تتعلق بعادات ورواسب عقائدية و فكرية رسخت.وكم كانت دهشة سيدنا محمد بن عبد الله حينما قيل له من أهل السماء اقرأ، وكانت هذه الأولى فقال: ما أنا بقارئ فكررها ثانيا وثالثا وكان كلما نفى القراءة أخذه أخذا شديدا حتى يبلغ منه الجهد. “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)” هذا الجديد الذي طرأ على مكة. كانت له تبعات أيقن بعدها أنه نبي مرسل إلى الناس كافة. فكان يجاهد نفسه على تلقي الوحي الذي كان يأتيه مثل صلصلة الجرس، وكان شديدا عليه. ثم تتالت الآيات فكان قوله تعالى: “ياأيها المدثر قم فأنذر “ وبعدها “ياأيها المزمل قم الليل إلا قليلا “. عندها بدأ المحيط يتغير من جنباته كلها وأضحى الناس يتحدثون عن سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم. فمنهم المعترض كأبي لهب وأبي جهل وغيرهم، ومنهم المقبل عليه كزوجه خديجة رضي الله عنها وصاحبه أبي بكر و غيرهم ومنهم غير الآبه ومنهم من لزم الصمت خوفا من ردود الفعل العنيفة التي كانت تمارسها قريش على المستجيبين لدعوة الإسلام.
إمام المجاهدين سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم
وهو القائل صلى الله عليه وسلم لأمنا خديجة رضي الله عنها: “لا راحة بعد اليوم”. كان القرآن ينزل والنبي محمد صلى الله عليه وسلم يلقي بنفسه إلى الواقع المتموج، مرة يقول منذرا “بين يدي عذاب شديد” ومرة مبشرا: “قولوا لا إله إلا الله تفلحوا “.لقد كانت ردود الفعل قاسية جدا من قبل المناوئين فيتحمل و يصبر، و يجاهد نفسه على مواصلة الطريق المفروش بالأشواك ممتثلا لقول الحق جل وعلا: “إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر “ و يواصل الطريق ملتمسا مناصرين له عارضا نفسه على القبائل في مواسم الحج وأسواق عكاظ ومجنة.هذا الجهاد لم يكن قتاليا بل كان جهادا دعويا سلميا.. لم يكن الأمر يقتصر على التبليغ فقط بل أسس جماعة وأخضعها للتربية والتعليم في دار الأرقم بن أبي الأرقم. لذلك فإن قريشا لم تذخر جهدا لاستئصال شأفة المسلمين، والرسول صلى الله عليه وسلم يصبر أصحابه كقوله: صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة ” و لقد كان صلى الله عليه و سلم يقتحم معاقلهم ويقارع حجتهم بالقرآن الكريم وهم أرباب اللغة فينتزع منهم اعتراف المهزوم المعاند والصاد عن سبيل الله.
هل كان هناك جهاد في مكة؟
لقد طرح هذا السؤال على المهتمين بالشأن الإسلامي أكثر من مرة. فكان ردهم أنه لم يكن هناك جهاد قتالي في مكة وإنما:” الواجهة الأولى في الجهاد هي واجهة التربية. نعني تربية الإيمان بمفهومه اقتحاما للعقبة وبكل شعبه. التربية أولا ووسطا وآخِرا، ولا آخَر، ودائما.” (5)
وفي تعريف الجهاد الذي كان بمكة يقول الإمام (6): الجهاد: جمع لكل الجهود الفردية في نشاط جماعي، وجمع لكل الطاقات في اتجاه واحد “
لذلك فان القرآن الكريم جسد هذا الجهاد في توجيهين: الأول في قوله تعالى في سورة المدثر: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ وفي سورة المزمل: “يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا “
فعبارة “قم ” تشي إلى الجهاد، فالتي في سورة المدثر تحث النبي صلى الله عليه و سلم إلى الاشتباك مع الواقع و في الثانية تدعو إلى معانقة الليل لتقوية النفس على الجهاد.
ماذا يعني نزول سورة الروم بمكة؟
يقول عز من قائل في سورة الروم: {الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُو الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [الروم: 1 – 7]حدث انهزام للروم أمام الفرس في سنة 614 ميلادية. وقتها كان النبي صلى الله عليه و سلم في مكة، لكن كرة الروم و انتصارهم على الفرس كان في 624 ميلادية. في هذا التاريخ كان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر بعد الهجرة، لذلك جاءت الآية لتنقل مشاعر المسلمين، وهي فرحهم بالانتصار ببدر.(7) لماذا؟ لأن مكة كانت تفرح لانتصار الفرس لأن طرق التجارة ستفتح في وجه مكة وتجلب لهم الرخاء. وفي المقابل لم يكن المسلمون يفرحون لازدهار التجارة لدى قريش لأن فيها مزيد قوة لقهر المسلمين. إذن هذه الآيات اخترقت مسافات الزمن المكي و المدني لتعطينا صورة الجهاد القتالي في كل من مكة و المدينة.
و السؤال الذي يفرض نفسه: لم هذه الآيات التي تحمل نتيجتين للحرب بين قوتين عظيمتين؟ ربما كانت تحمل إشارة واضحة للنبي صلى الله عليه و سلم وهو يخوض غمار الوجود أن يضع في حساباته الصراع القادم سواء المحلي أو الإقليمي أو الدولي، فيستعد لذلك برؤية مستقبلية و تحديد أهداف استراتيجية يسعى في المستقبل إلى تحقيقها. و الآية فيها شقان شق لم يأذن له بالجهاد فلا زال الوقت لم يحن بعد، و شق فيه إذن وهو فرح المؤمنين بالانتصار في غزوة بدر، مصداقا لقوله تعالى: ” أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير “ الآية 37 من سورة الحج.
جاءت سورة قريش وهي مكية لتحدد الهدفين الاستراتيجيين ويتجلى ذلك في قوله تعالى: “لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف “، ولقد كان اعتراض قوافل قريش يدخل في إطار إضعافها اقتصاديا.والثاني قوله تعالى:” فليعبدوا رب هذا البيت ” الآية 3 من سورة قريش. هذا الهدف حددنا له عنوانا آخر توضحه أكثر الفقرة الموالية.
” إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد “
هذه الآية الخامسة والثمانون 85 من سورة القصص المكية، هي كذلك من المبشرات للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيرجع إلى مكة هو و الصحابة. لكن كيف سيكون هذا الرجوع و النبي صلى الله عليه و سلم أخرجه قومه طريدا من مكة.؟ و الجواب أن هذا العمل الذي ينبغي القيام به و تحضيره هو من عمل الدولة المنظمة بمؤسساتها، أما النبي صلى الله عليه وسلم كان في وضعية الجماعة المجاهدة والساعية الى امتلاك القوة المؤهلة لتحقيق هذا الهدف الاستراتيحي.
تجليات الجهاد بعد الهجرة
لقد استوقفني الكم الهائل للحروب التي خاضها النبي صلى الله عليه و سلم طيلة عشر سنوات. لقد كان الرقم يزيد على خمس وستين معركة ما بين سرية وغزوة.وإذ يعتبر هذا العدد هائلا فيما يتعلق بالدولة الفتية التي تريد أن تستقر.لقد كان القرآن المدني يتابع توجيهاته للنبي صلى الله عليه وسلم و يحرضهم على الجهاد فيقول عز من قائل في سورة البقرة آية (214) “كتب عليكم القتال وهو كره لكم “ وفي سورة الأنفال آية (7) يقول عز من قائل:” يريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين”. فبعد ما استكمل النبي صلى الله عليه و سلم إعداد القوة اللازمة، كانت الحروب في البداية دفاعية حتى غزوة الأحزاب. فحينما تم له النصر في هذه الغزوة قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه ” الآن نغزوهم قبل أن يغزوننا “.
أي نوع من الجهاد كان قائما في القرآن المدني؟
ما إن حط رسول الله صلى الله عليه و سلم الرحال في المدينة حتى شرع في جمع معطيات المدينة فتبين له وجود مناوئين يتقاسمون معه المدينة منهم يهود والمنافقين و الكفار فقام بعمل لجمع هذه الأطراف. فأنشأ دستورا أدخل فيه بنودا عسكرية لحماية دولته الصاعدة.ثم انطلقت السرايا تجوب المنطقة خارج المدينة يعقد فيها التحالفات مع القبائل المجاورة ويعترض قوافل قريش. لكن العدو الكامن في مكة، وأعداء آخرين أحلاف يهود وقريش و أعداء آخرين من القبائل التي تستعمل الإغارة لكسب أرزاقها، جعل النبي صلى الله عليه و سلم يعطي هذا الجانب العسكري أولوية واهتماما بالغا لأنه بكل بساطة كان مستهدفا. والأعداء يتكاثرون عليه _بحكم عالمية الإسلام _ يريدون استئصاله كلما سنحت لهم الفرصة.
خلاصة:
إن خير ما نختم به هذه المقالة كلام مركز للإمام عبد السلام ياسين(8)جاء فيه “بدأ الجهاد مناوشات مع وثنيي العرب، ثم مواجهةً مع الشرك والكفر والنفاق كافة في غزوة الخندق، ثم تفرُّغاً لليهود، ثم يصعد الجهاد حتى يرتفع جند الله إلى قوة تقاتل القوى العالمية إذ ذاك في غزوتي مُؤْتَةَ وتبوك. ” وقبل انتقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى جهز جيشا بقيادة أسامة بن زيد متوجها إلى الشام ليؤكد هذا المنحى.وبذلك كان القرآن المكي والمدني يخدمون قضية الجهاد الأكبر والأصغر وبدقة متناهية في الوضوح والإقناع.
(1) قاموس المعاني
(2) قاموس الكل
(3) صيد الفوائد لحمدي شفيق
(4) المنهاج النبوي ص 400
(5) المنهاج النبوي ص 387
(6) في كتاب: شعب الايمان ص 19
(7) كتاب الربيع الأول لوضاح خنفر، ص 214، الطبعة الأولى 2022.
(8) القرآن و النبوة ص91