منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

المسجد و أزمة الصحبة

الشيخ بنسالم باهشام

0

نشر هذا المقال في كتاب “مؤسسة المسجد بين التأميم والتحرير” من إصدارات مجلة “منار الهدى” الكتاب الثالث.

قراءة وتنزيل المقال بصيغة pdf

مقدمة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما بعد فالكتابة في موضوع الصحبة والمسجد من الأمور التي يندر الحديث عنها إن لم نقل ينعدم للاعتبارات التالية:

– لأن الصحبة وهي من الدين وأساسه، استأثر بها رجال التربية من أصحاب الزوايا الذين انعزلوا عن حياة الناس ابتغاء الخلاص الفردي، وتخلوا عن حمل همّ الشأن الديني. وأزمة المسجد تحريرا وعمارة هي من أولويات الشأن الديني، وسلوكهم الفردي هو مجرد طلب الصلاح الذي لا ينجو الفرد فيه من عقاب الله إن عم الفساد في البلاد، لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾[1]  ، ونموذج صالح أهل القرية توضيح للآية التي تُذكّر بأن استحقاق العذاب لا يقتصر على الفاسدين المفسدين، بل يشمل حتى الصالحين، وينجي الله المصلحين الذين تعدى صلاحهم لغيرهم، وهذه مهمة الرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم. قال تعالى: ﴿وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ[2] ، وعن مالك بن دينار قال: ” إن الله عز وجل أمر بقرية أن تعذب، فضجت الملائكة، قالت: إن فيهم عبدك فلانا! قال: أسمعوني ضجيجه، فإن وجهه لم يتمعر غضبا لمحارمي”[3].

– إن رجال التربية الذين حافظوا لنا على هذا الجزء من الدين، والذي هو الصحبة التي هي مفتاح كل خير ومغلاق كل شر،  اقتصروا فيها – رحمهم الله – على الجانب الفردي وأبعدوا الجانب الجماعي والسلوك الجهادي.

– إن أمر الدين قد تفرق بعد الرسول صلى عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده، ولحق بيت الله ما لحق بافتراق القرآن عن السلطان، ولن يصلح شأن المسجد إلا إذا تضافرت جهود  كل فئات المجتمع من حركات إسلامية وزوايا وفقهاء ومحدثين وأحزاب ومجتمع مدني… وغيرهم، و وضعوا استرتيجية لتحرير بيت الله الذي لا يخص فئة دون أخرى، وهي بداية السعي لجمع ما تفرق من دين الله تعالى، وجعل المسجد مكانا لتوحيد الصف وتوحيد الرؤية،  وتوحيد الهدف، وتكوين قوة واحدة ضد الجور والظلم المتمثل في الملك العاض والجبري الذي جَعل الدين تكئة لقضاء المآرب الخسيسة.

– إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وأمر هذه الأمة كانت انطلاقته من المسجد وفيه تحققت معاني الصحبة والجماعة الغائبة من مساجدنا المؤممة.

وبناء على هذا فقد قسمت الموضوع إلى أربعة مباحث . تحدثت في المبحث الأول عن تعريف مفردات العنوان لغويا واصطلاحيا، وتطرقت في المبحث الثاني إلى: المسجد في الإسلام، والسر في التركيز على عبادة المسجد، وإلى المجتمع النموذجي الذي يريد الإسلامُ بناءه، وبينت في المبحث الثالث  تلازم الصحبة والجماعة مؤصلا لذلك من الكتاب والسنة وأقوال العلماء، والمبحث الأخير خصصته لأزمة الصحبة والجماعة، وكشفت فيه سبب انفراط عقد الصحبة والجماعة وبينت السبيل لإعادة إحياء وإصلاح ما انفرط من هذا الأمر، وبينت محورية المسجد وإمام المسجد في عملية الإصلاح والتجديد .وختمت بخاتمة لخصت فيها ما توصلت إليه من نتائج وتوصيات.

المبحث الأول: مفهوم المسجد و الصحبة

المطلب الأول: المسجد لغة واصطلاحا

1 – المسجد لغة:

الْمَسْجِدُ بِكَسْرِ الْجِيمِ هو مكان السجود. قال صاحب الصحاح: “وَفَتْحهَا مَعْرُوفٌ وَسَمِعْنَا الْمَسْجَدَ وَالْمَسْجِدَ وَالْمَطْلَعَ وَالْمَطْلِعَ وَالْفَتْحُ فِي كُلِّهِ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ نَسْمَعْهُ. وَ الْمَسْجَدُ بِفَتْحِ الْجِيمِ جَبْهَةُ الرَّجُلِ حِينَ يُصِيبُهُ أَثَرُ السُّجُودِ. وَالْآرَابُ السَّبْعَةُ (مَسَاجِدُ) وهي الأعضاء  التي يُسجد عليها، وهي اليدان والركبتان والرجلان والجبهة مع الأنف”[4] .

2 – المسجد اصطلاحا:

الأصل في المسجد كل موضع من الأرض، لقوله صلى الله عليه وسلم:” جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل…”[5].

وهذا من خصائص هذه الأمة الإسلامية، قال القرطبي رحمه الله: “هذا ما خص الله به نبيه، وكان الأنبياء قبله إنما أبيحت لهم الصلوات في مواضع مخصوصة كالبِيع والكنائس. ثم إن العرف خصص المسجد بالمكان المهيأ للصلوات الخمس، حتى يخرج المصلَّى الذي يُجتمع فيه للأعياد ونحوها، فلا يعطى حكمه”[6].

المطلب الثاني: الصحبة لغة واصطلاحا

‏1 – الصحبة في اللغة‏:‏ الصحبة في قواميس اللغة الملازمة والمرافقة‏ والمعاشرة ، يقال ‏:‏ صحبه يصحبه صُحبة ، وصحابة بالفتح وبالكسر ‏:‏ عاشره ورافقه ولازمه وجالسه وانقاد له، ويقال : اصطحب القوم أي صحب بعضهم بعضا، واصطحب البعير أي انقاد له[7]، هذا مطلق الصحبة لغة.

الصاحِب : المرافق ومالك الشيء، والمعاشر أو المنقاد، أو المجالس أو المشايع، أو القائم على الشيء ، أو الحافظ له.

والصحبة  في العُرْفِ من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وطالت صحبته معه، وإن لم يرو عنه صلى الله عليه وسلم. وقيل: وإن لم تَطُلْ[8].

2 – وجوه أو صور الصحبة في القرآن: أنزل الله تبارك وتعالى الكتاب قرآنا عربيا، وهو بوجه من وجوهه المرجع اليقيني الأوحد للغة العربية، لأنه كلام الله العالم علما يقينا بأدق خفايا هذه اللغة وأعمق أسرارها. وبتلاوتنا للقرآن الكريم نجد أنه قد اشتمل على كلمات : ” تصاحبني ، وصاحبهما وصاحبه ، وصاحبته ، وأصحاب ، وأصحابهم ” . وأن هذه الكلمات تكررت بمجموعها في القرآن الكريم ( 97 ) مرة . ومن المثير للانتباه أننا لم نعثر في القرآن الكريم كله على لفظ لكلمتي ( صحابة / بالفتح / أو صحبة / بالضم ).  وباستقرائنا لتلك الكلمات نجد أنها تشكل تغطية كاملة للمعاني اللغوية التي سبق ذكرها، فالصحبة يمكن أن  تأخذ وجها أو صورة واحدة، ويمكن أن تأخذ وجوها أو صورا متعددة ، ويمكن أن يكون لها وجه أمثل يشمل  كل نواحي الخير، وقد يكون لها وجه أبشع يشمل كل نواحي الشر.

– فقد تكون بين ولد ووالدين مختلفين بالاعتقاد، قال تعالى: ﴿وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ[9].

– وقد تكون بين رفيقي سفر قال تعالى: ﴿وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ  ﴾[10].

– وقد تكون بين تابع ومتبوع ﴿ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا [11].

– وقد تكون بين مؤمن وكافر ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً[12].

و﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً[13] .

– وقد تكون شمولية على الشر بين كافر وكافرين، قال تعالى: ﴿فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ[14].

– وقد تكون بين نبي وقومه الكافرين، النبي يحاول أن يشدهم نحو الخير، وهم يحاولون إعادته إلى حظيرة الشر ﴿مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى[15].

– وقد تكون صحبة أثر، فيقتدي فاسد بفعل فاسد وينسج على منواله ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ[16].

– وقد تكون بين مؤمن ومؤمن[17].

– وقد تكون الصحبة اضطرارية[18].

وقد تكون الصحبة انقيادا لعقيدة إلهية وولاء مطلق ،كانقياد و ولاء الصفوة الصادقة من أصحاب محمد  صلى الله عليه وآله وسلم .

فمحور الصحبة ( بالضم ) محور شمولي يرتكز على عقيدة وقيادة وأهداف ومُثل عليا يسعى القائد وأصحابه لتحقيقها وسيادتها على مجتمع معين[19].

3 – الصحبة اصطلاحا: تحدث العلماء عن الصحبة خاصة المحدثون، وأئمة الجرح والتعديل، لكن مفهوم الصحبة في التربية لم يتطرق إليه إلا القليل من أئمة التربية والسلوك، وأغلب حديثهم عند التعرض للصحبة كان لنصح العباد بملازمة الصالحين، ولم يكلفوا أنفسهم عناء التعريف؛ لشعورهم أن هذا الأمر معلوم معرف فلا يحتاج إلى تعريف وبيان.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين أحد أئمة التربية في هذا الصدد : “ومن معاني الصحبة والجماعة الذاكرة: دخول إلى حضرة طبيب يعالج الروح (..) ومن الناس من لا يشعر أن له قلبا ولا يعترف بأن له روحا، ومثل هذا لا علاج له. ومنهم من ينكر أن يكون ثم طبيب للقلوب لديه الدواء الذي يحيي موات القلوب وهذا ميؤوس من تدرجه في معراج الإسلام والإيمان والإحسان، إلا أن يشاء الله فيلهمه سلوك الصالحين”[20].

 

المبحث الثاني: المسجد في الإسلام

ركز الإسلام على بناء المساجد و إعمارها، ويظهر هذا جليا في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده، فما السر وراء هذا التركيز ؟ ولماذا مدح الرسول الكريم المساجد وذم الأسواق مع أن فيها منفعة اقتصادية للأمة ؟ .

المطلب الأول : السر في التركيز على عمارة المساجد

قد يتساءل الواحد منا ويقول: لماذا كل هذا التركيز على المسجد في آيات عديدة وأحاديث نبوية شريفة كثيرة، والترغيب في عمارته حسيا ومعنويا ؟ هل هو احتكار لمكان العبادة، وتقييد لعبادة المؤمن؟ وأين قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:” …وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل…”[21] ؟ مع العلم أنه ما من شيء في الشريعة الإسلامية يركز عليه الشارع إلا وفيه تيسير لهذه الأمة مصداقا لقوله تعالى في محكم كتابه: ﴿فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[22] فأين هذا التيسير؟ وأين هذا التخفيف الذي جاء في هذه الآية وفي قوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً[23]؟ بل أين التربية والتعليم والتدريب في التركيز على المسجد من حيث البناء ؟ فأقول بإنه لا تعارض بين هذا الحديث والنصوص الشرعية الأخرى. فهذا النص يدخل في إطار القاعدة الفقهية التي تقول: ” المشقة تجلب التيسير”[24]، والتركيز على المسجد بناء وعمارة هو تربية وتعليم وتدريب.

لا يخفى على أحد من المؤمنين والمؤمنات أن هذا الكون يجري وفق سنن، ومن سنن الله في الإنسان أن مجرد الكلام لا يغير من الحال، لأن الكلام ينسى والرؤية تذكر، والممارسة تعلم،وحتى لا تبقى أحكام الله حبيسة السطور والصدور، وتخرج إلى حيز التطبيق، جعل الله لها مكانا تمارس فيه، وأزال منه كل المشوشات التي تعوق تطبيق تلك التعاليم، وهيأ فيه كل الأجواء لكيلا تبقى في إطار نظري، وهذا المكان هو المسجد .فالمسجد يؤدي مهمتين أساسيتين:

المهمة الأولى: تربوية وتعليمية.

المهمة الثانية: يعطينا النموذج المصغر للمجتمع الإسلامي.

وإذا كان كل مؤمن مأمور بتحقيق مجموع في شعب الإيمان، فالمكان الذي يحقق فيه هذا الهدف هو المسجد الخالي من كل المشوشات الدنيوية؛ فتتحقق فيه شعب الإيمان كلها الجامعة بين مصير المؤمن في الدنيا والآخرة ومصير أمته في التدافع الحضاري.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله:” المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين عرين أسود، ورياض جهاد، ومدرسة جامعة، ومقر قيادة أركان جند الله، ومجلس شوراهم. ذلك أن بيت الله أحق البيوت أن ينطلق منها ويرجع إليها، ويتجمع فيها ويتآلف جند الله”[25] .

المطلب الثاني: المسجد والمجتمع النموذجي

إن المسجد ليس بناية منعزلة عن شؤون المجتمع، بل إن  من رحمة الله عز وجل بالمؤمنين أنه جعل لهم المسجد نموذجا مصغرا يرى فيه المؤمنون ما لا يمكن أن يظهر لهم على أرض الواقع، فبهذا النموذج المصغر تتم المقارنة بينه و بين المجتمع الذي نعيش فيه. بل إن الحق عز وجل أراد أن يكون فضاء بيته غير ملوث بمفاسد الإنسان، إذ الخير والشر الذي نتحدث عنهما في المقارنة بين المسجد الذي هو خير البقاع والسوق الذي هو شر البقاع ليس في البقعة ذاتها، وإنما في الذي يعمر البقعة. فعندما نقول: أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها فلأنها مصدر الذكر والخير، ولكون الإسلام جنبها كل ما لا يليق بها. فعن سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” خصال لا ينبغي في المسجد “أي لا يصح أن توجد” وذكر منها… ولا تتخذ سوقا…”[26] ، و عندما نقول: أبغض البلاد إلى الله أسواقها لما فيها من المنكرات والفسوق والكذب، وأهلها يغفلون عن حقوق الله، وفيها الشقاق والبغضاء.

 

المبحث الثالث : الصحبة والجماعة ضرورة شرعية

المطلب الأول :الصحبة في الإِشَارَاتِ القُـرآنية

أشار الله سبحانه في آيات عديدة إلى مفهوم الصحبة ، ومن هذه الآيات :

1 –  قـالَ اللهُ تَعَـالَى:”أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُم اقْتَدِهْ”[27].

2 – قـالَ اللهُ تَعَـالَى: “واصْبِرْ نَفسَكَ مَعَ الذّين يَدْعونَ رَبَّهم بالغَدَاةِ والعَشِيِّ يُريدونَ وَجْهَهُ”[28].

3 – قـالَ اللهُ تَعَـالَى: ” الرَّحْمَنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيرًا”[29].

4 – قـالَ اللهُ تَعَـالَى: “وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ”[30].

5 – قـالَ اللهُ تَعَـالَى: “ولكلِّ قَومٍ هادٍ”[31].

6 – قـالَ اللهُ تَعَـالَى: “يَا أيَّهَا الذينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وكونوا مَعَ الصَّادقينَ”[32].

7- قـالَ اللهُ تَعَـالَى: “فَوَجَدَا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ، قال له موسى هل أتبعك على أن تُعَلِّمَن ممَّا عُلِّمتَ رشدا، قَال إنك لن تستطيع مَعِي صبرا، وكيف تَصبِرُ عَلَى مَا لَم تُحطْ به خبْرًا،  قَالَ سَتَجدني إنْ شاء الله صابرًا ولا أَعصي لَكَ أمرًا “[33].

هذه الآيات القرآنية الكريمة تتفق كلها في الحث على الصحبة، وتتكامل في مواصفات المصحوب الذي يجب أن يكون منيبا إلى الله، صادقا وخبيرا و وعالما وهاديا إلى الله بإذنه، لأن من دلَّك على نفسه فقد خدعك، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك، ومن دلك على الله فقد نصحك وأراحك، كما ترشد الآيات إلى وجوب الصبر في صحبة المصحوب.

المطلب الثاني: الصحبة في السُنَّة المُطَهَّرَة:

1 – قَالَ رَسولُ اللهِ، صَلَّى الله عليه وسلَّم: ” مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالجَلِيسِ السَّوْءِ، كَمَثَلِ صَاحِبِ المِسْكِ وَكِيرِ الحَدَّادِ، لاَ يَعْدَمُكَ مِنْ صَاحِبِ المِسْكِ إِمَّا تَشْتَرِيهِ، أَوْ تَجِدُ رِيحَهُ، وَكِيرُ الحَدَّادِ يُحْرِقُ بَدَنَكَ، أَوْ ثَوْبَكَ، أَوْ تَجِدُ مِنْهُ رِيحًا خَبِيثَةً “[34].

2 – قَالَ  رَسولُ اللهِ، صَلَّى الله عليه وسلَّم: “لا تُصاحبْ إلاَّ مُؤمناً “[35].

3 – أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بنَ عمرَ رضي الله عنهما فقـال: “يا ابنَ عمر دينَكَ دينَكَ، إنّما هو لحمك ودمك فانظر عمّنْ تأخذ هذا الدين، خذ الدينَ عن الذينَ استقاموا، ولا تأخُذْهُ عن الذينَ مَالُوا”[36].

4 – عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قيل يا رسول الله: أي جلسائنا خير؟ قال: “من ذكّركم اللهَ رؤيتُهُ، وزادَ في علمكم منطِقُهُ، وذَكَّرَكُم في الآخرة عَمَلُهُ.”[37].

5 – قَالَ الرَسولُ صَلَّى الله عليه وسلَّم: “الرجلُ على دِين خَلِيلِه، فلينظر أحدكُم من يُخالل”[38].

إن هذه الأحاديث وغيرها كثيرة تبين بمجموعها أهمية الصحبة وأثرها في تربية النفس، وتبين كيف كانت مجالسة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم تُجلي بصائرهم وتسمو بالإيمان إلى مستوى المراقبة والشهود. لهذا علينا أن نصحب العلماء ورثة الأنبياء، الذين تذكرنا مجرد رؤيتهم بالله، ويزداد علمنا بمنطقهم، ويذكرنا لسان حالهم بالآخرة.

المطلب الثالث: الصحبة والجماعة في حياة الصحابة

قال الله تعالى:”مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ “[39]. في هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى عن نبيه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم   والذين معه ،معية الصحبة والاتباع، ومن ثمار هذه الصحبة وصدقهم فيها أن الله تعالى وصفهم بأكمل الصفات ، وأجل الأحوال ، وأنهم” أشداء على الكفار ” ، فلم ير الكفار منهم إلا الغلظة والشدة . فلذلك ذل أعداؤهم لهم، وانكسروا ، وقهرهم المسلمون . وفي نفس الوقت هم “رحماء بينهم ” ، أي : متحابون، متراحمون ، متعاطفون، كالجسد الواحد ، يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، هذه معاملتهم مع الخلق.

وأما معاملتهم مع الخالق فوصفهم سبحانه بكثرة الصلاة ، وذكر مقصودهم وهو بلوغ رضا ربهم ، والوصول إلى ثوابه . ” سيماهم في وجوههم من أثر السجود ” ، أي : قد أثرت العبادة  من كثرتها وحسنها في وجوههم  حتى استنارت . ووصفهم سبحانه بالزرع ،وذلك بسبب نفعهم للخلق ، واحتياج الناس إليهم ، فقوة إيمانهم وأعمالهم بمنزلة قوة عروق الزرع وسوقه ، وكون الصغير والمتأخر إسلامه ، قد لحق الكبير السابق ، و وازره، وعاونه على ما هو عليه من إقامة دين الله والدعوة إليه ،  كالزرع الذي أخرج شطأه ، فآزره فاستغلظ . ولهذا قال سبحانه : ” ليغيظ بهم الكفار ” حين يرون صحبتهم للرسول صلى الله عليه وسلم واجتماعهم عليه، وفيما بينهم ، صحبة وجماعة، وصحبة في جماعة، وشدتهم على أعداء دينهم ، وحين يتصادمون معهم في معارك القتال، فالصحابة رضي الله عنهم  الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح  قد جمع الله لهم بين المغفرة ، التي من لوازمها  وقاية شرور الدنيا والآخرة ، والأجر العظيم في الدنيا والآخرة .

ونظرا لغياب الصحبة ومعانيها عند الكثير من العلماء الذين لم يحظوا بصحبة ولا جماعة، وإنما اكتفوا بتلقي العلوم الشرعية المجردة عن التربية من الشيوخ المختصين في ميادينهم العلمية، والتي تجزأت بعد الانكسار التاريخي، فإن الأمر يضطرنا إلى الاستماع إلى واحد ممن تشرب معاني الصحبة والجماعة بالسند النوراني المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ينظر إلى الآية القرآنية بمنظار المرشد المربي المجاهد فيقول رحمه الله: ” ” قال تعالى: “مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ”[40] ، نقف مع كلمة (معه)، فبهذه المعية والصحبة كانوا رجالا. ونقف عند التراحم بينهم فبتلك المحبة الرحيمة كانوا جماعة”. فمن الصحبة استمدوا معاني الرجولة، ومن تلك المحبة بينهم كونوا قوة وجماعة “[41].

دعامتان أساسيتان أقام عليهما الرسول صلى الله عليه وسلم جماعته الأولى، وجعلهما من أهم اللبنات التي أسس عليه دعوته ومنهاجه، بل لم يكتف عليه الصلاة والسلام بالجانب العملي في هذا الشأن حتى لا يعتقد معتقد أنها  مسألة خاصة بفترة معينة وبجيل معين، وإنما سطرهما في الدستور الإسلامي عند تكوين أول دولة إسلامية. وكل حركة إسلامية  ظهرت إلى الوجود ما هي إلا امتداد وتجديد لتلك الجماعة الأولى وذاك الاجتماع، و ستكون ضالة عن  الجادة إن  هي غيبت هاتين الدعامتين وهما: الصحبة والمحبة، بل إن من المقاصد الأساسية في بناء المسجد النبوي الذي لم يكن الغرض منه ابتداء جانبه الشكلي بقدر ما كان الجانب الروحي بدليل شكله وبنائه وهندسته، كان هو تثبيت الصحبة والمحبة السارية بين الجماعة المؤمنة، وفيها وردت آيات عديدة وأحاديث كثيرة.

لقد كانت بداية المشروع الجهادي النبوي صحبة في جماعة متآلفة متآخية. فالصحبة مدخل أساس لفهم صحيح وإرادة ربانية وعمل موفق غير معكوس و لا منكوس.

المطلب الرابع : الصحبة في أقوال العلماء

1 – قَال الإمام الجنيد رحمه الله :”مَن دلَّك على الله فكُنْ مَعَهُ، ومَن دلَّك على الدنيا فتباعد عنه”[42].

2 – قال ابن حجر الهيثمي :” الحال أن الأولى بالسالك قبل الوصول إلى هذه المعارف أن يكون مُديماً لما يأمره به أستاذه الجامع لطرفي الشريعة والحقيقة، فإنه الطبيب الأعظم ، فبمقتضى معارفه الذوقية وحكمه الربانية يعطي كل بدن ونفس ما يراه هو اللائق بشفائها والمصلح لغذائها “[43] .

3 – قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره لسورة الفاتحة : ” الباب الثالث في الأسرار العقلية المستنبطة من هذه السورة : اللطيفة الثالثة : إنه لما قال “اهدنا الصراط المستقيم” لم يقتصر عليه بل قال : “صراط الذين أنعمت عليهم” وهذا ما يدل أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل، ويجنبه من الوقوع في الأغاليط، وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق، فلا بد من كامل يقتدي به  الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل الكامل”[44].

5 – قال الإمام أبو علي الثقفي رحمه الله  :” لو أنَّ رجلاً جمعَ العلومَ كلّها، وصحب طوائفَ الناس، لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخٍ أو إمامٍ أو مؤدبٍ ناصحٍ، ومَن لم يأخذ أدبه من آمرٍ له وناهٍ، يُرِيه عُيوبَ أعماله ورعونات نفسِه، لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات”[45].

6 – قال الشيخ حسني الشريف رحمه الله : “إنَّ العالم يُعنَى بحفظ النصوص وتلقينها، وقد تكون نفسه مزكاة، أما المرشد المحمدي فطريقه موصلٌ لتزكية النفوس والتحلي بالكمالات الخلقية، وهو الذي تزداد حين تصحبه إيماناً وتقىً وطهارةً، وملازمتك له وامتثالك لأمره يعني شفاءك من أمراضك القلبية وعيوب نفسك ويؤثر فيك شخصه الذي هو صورة عن الشخص المثالي، شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم. “[46]. فالوارث له أولاد بهذه الصفة، يأخذون منه العلومَ والأحوالَ ويتربونَ على يديه، وتتزكى نفوسهم بصحبته كما تزكت نفسه بصحبة أشياخه.

إن جميع هذه الأقوال وغيرها لتدل على أهمية الصحبة الصالحة وفائدتها، لاسيما صحبة مرب عارف بأحوال النفس وأمراضها، وتحذر من صحبة قرناء السوء وأهل المعاصي .ويخطئ من يظن أنه يستطيع أن يداوي نفسه من غير أن يصحب من يدله على عيوب نفسه، وذلك بتلاوة القرآن والحديث الشريف. فلو كان أحد يستطيع ذلك لاستطاع الصحابة رضي الله عنهم ذلك، فإنهم حفظوا القرآن وتمثلوا به، لكنهم لم يستطيعوا أن يخرجوا من أمراض نفوسهم إلا بصحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يطبب قلوبهم، ويزكي نفوسهم بحاله ومقاله . قال تعالى :”هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والحكمة “[47]. فالله سبحانه وتعالى بين لنا أن المهمة الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل التعليم هي التزكية وإظهار عيوب النفس وأمراضها، وكيفية مداواتها . فأكد سبحانه وتعالى بذلك فائدة أن يكون للإنسان من يظهر لـه عيوب نفسه بأن يتخذ مربيا مرشدا كمُل إيمانه، وعارفاً بعيوب النفس وأمراضها بحيث يجلو له مرآة قلبه. فإذا كانت مجالسة الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهضت بحالهم، وارتقت بنفوسهم عن مستوى البشرية، وسمت بأرواحهم إلى مستوى ملائكي، فهكذا أيضاً مجالسة العارفين بالله الوارثين لرسول الله صلى الله عليه وسلم تزكي النفوس، وتزيد بالإيمان، وتوقظ القلوب، وتذكر بالله تعالى، والبعد عنهم يورث الغفلة، وانشغال القلب بالدنيا، وميله إلى متع الحياة الزائلة .

المطلب الخامس: الصحبة والجماعة في فضاء المسجد

إذا تتبعنا سيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام من أول نزول الوحي عليه إلى التحاقه بالرفيق الأعلى، وأردنا أن نتعرف على خطواته صلى الله عليه وسلم نجد أن أولى خطواته هي خطوة  ترسيخ خصلة الصحبة والجماعة في أتباعه من الصحابة الذين شرفهم الإسلام بهذا المصطلح لمصاحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول الإمام المجدد الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله : “الخطوة الأولى على طريق التربية والتنظيم،على طريق المنهاج المؤدي إلى الله عز وجل بالنسبة للمؤمن،وإلى الخلافة بالنسبة للأمة،وإلى سيادة الحضارة الإسلامية بالنسبة للعالم، هي الصحبة والجماعة، هي لقاء رجل يربيك وجماعة مؤمنة تؤويك وتحضنك، حتى يسري بصحبة المربي والجماعة إلى قلبك وسلوكك أول سلك من أسلاك نور الإيمان، وأول نفحة من عبيره، وأول فيض من مائه”[48].

وعندما هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة حرص على تأكيد هذه الخصلة “الصحبة والجماعة” من جديد، بل أنشأ لها فضاء خاصا، منه الانطلاقة وإليه الرجوع، وطهره من كل مشوشات الدنيا حتى تتجلى الصحبة والجماعة في صورتها الوضاءة دون مكدرات ولا مشوشات.

إنه المسجد بيت الله، الذي لا ينسب لأحد إلا لله ، قال تعالى:”وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً”[49]. فكان المسجد النبوي هو المكان الذي من خلاله يتم اللقاء خمس مرات مع المصحوب صلوات الله عليه وسلم، وتجتمع فيه الجماعة المسلمة المجاهدة القوية على الأعداء الرحيمة فيما بينها ، السالكة إلى الله السلوك الجماعي الجهادي.

المبحث الرابع: أزمة الصحبة والجماعة

المطلب الأول :سبب انفراط عقد الصحبة والجماعة

كان الدين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعلى عهد الخلفاء الراشدين من بعده: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين متكاملا غير مجزأ، وبالانكسار التاريخي الذي أخبرنا عنه الحبيب المصطفى صلوات الله عليه وسلم عند انتقاض عروة الحكم وانقلابه من شورى إلى وراثة؛ تجزأ أمر الدين الإسلامي،  واستأثرت كل فئة من أفراد المجتمع بجزء من الدين، وعكفت عليه دون  الأجزاء الأخرى، وذلك عند افتراق القرآن عن السلطان، والدعوة عن الدولة، والعلم عن التربية التي هي روح الدين كله، وبهذا التجزيء لم تبق للدين الصورة المتكاملة الوضاءة . ومما حفظه رجال التربية لهذه الأمة أمر الصحبة التي تجردت هي كذلك من السلوك الجماعي والجهادي، واقتصر فيها القوم على الخلاص الفردي، فمنذ زمان التابعين، وفي عصرنا بصفة خاصة، غلب اسم عالم على عقول المسلمين، وحمل الاِسمَ أغزرُ الناس اطلاعا وأكثرُهم جمعا للمعلومات، وأقدرُهم على الإفصاح والخطابة. وانعزل العارف الرباني في حيزه، وأصبح علم الآخرة مطويا، يبحث عنه الراغبون المريدون بشروط أهمها الانزواء عن العامة.

الصحبة التي كان يلتمسها السلف الصالح في القرون الثلاثة الأولى في المسجد عند إمام المسجد الذي هو الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وعند عمار المساجد من بعده أصبحت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم الصحبة في الجماعة، وأصبحوا في ظل الحكم العاض والجبري يلتمسونها من شيوخ الزوايا  الطرقية  الصادقين الذين انعزلوا عن فتن المجتمع، وابتغوا بانعزالهم السعي لتحقيق الخلاص الفردي.

والحقيقة أنه لن يقيم هذا الدين إلا من أحاطه من جميع جوانبه، وإلا أصبحنا من  المتبعين لخطوات الشيطان لعَنه الله تعالى، مصداقا لقوله عز وجل:”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ”[50]، وإذا أردنا أن نرجع للمسجد دوره الريادي، لابد لمن يسر الله لهم صحبة مرشد مجاهد أن يحافظوا على الصلوات الخمس بالمساجد التي أممت، وأصبحت مقتصرة على أداء صلوات الفرض دون غيرها من العبادات، ويصاحبوا الشعب، ويذيقوا عمار المساجد مما أفاض الله عليهم من صحبة المجاهدين الربانيين الدالين على الله بلسان حالهم قبل مقالهم؛ ليتشربوا منهم هذه المعاني الإيمانية، فالصاحب ساحب ، والطباع تجلب الطباع، فاختر لنفسك من أطاع، وحال الواحد في وسط ألف من الناس خير من ألف يأمرون واحدا، والكلام ينسى، والرؤية تذكر والممارسة تُعلم.

يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى عن كيفية رأب ما انصدع : “السؤال المطروح على فقه التجديد وعلى المنهاج النبوي في التربية والتنظيم هو : كيف نربي الإيمان في القلوب، وعلم الجهاد في العقول، ودراية التحرك بين الناس، وطلب الشهادة في سبيل الله مع الصف وبنظام الصف ؟ الكتاب والسنة شريعة متلوة معلومة. أحكام الشريعة معطلة إلا في بعض العبادات عند بعض المسلمين، ففقه المنهاج – وهو ثمرة اجتهاد لهذا المكان وهذا الزمان- يُطلب إليه أن يتناول كليات التربية، وكليات الجهاد،….يجب أن يكون الهم الأول لكل مؤمن ومؤمنة نيل رضى الله، ورضى الله أشبه أن يناله المجـــاهدون. فمن ثم ينبغي للتربية الإيمانية الإحسانية أن تربط جهاد النفس لترويضها على الحق بجهاد العلم والعمل. وينبغي للتنظيم المنهاجي أن يؤسس حركته الأفقية اليومية والتاريخية على ذلك الشوق الذي يحث العبد على اقتحام العقبة إلى الله”[51].

المطلب الثاني : الشيخ المربي المصحوب وإمام المسجد

إذا علمنا مما سبق أن المسجد هو النموذج المصغر للمجتمع المسلم الذي هُيئت فيه كل الظروف ليتشرب فيه عُمّاره عن طريق الصحبة والجماعة الإيمان، وأعظم صحبة في المسجد صحبة المصلين للإمام الذي هو أفضل المصلين لكونه أقرؤهم لكتاب، الله وأحسنهم أخلاقا، وأسبقهم هجرة، والذي استحق الإمامة بمكانته العلمية والتربوية والتنظيمية والجهادية، وبمحض اختيار المصلين، فإن الفقهاء بتغييبهم لهذه المعاني التربوية وعلى رأسها شروط المصحوب، واقتصارهم على شروط فقهية خالية من الجوانب التربوية يكونون قد انتقصوا من قيمة الإمام.

يقول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله :”لذا نجد الفطاحل من أمثال ابن تيمية يعترف بمقام المشيخة، لكن يُهوّن من شأنه إلى حد ما. فالشيخ المربي عنده بمثابة إمام الصلاة يَجوز الاستغناء عنه إن صمم المصلّي أن يضيّع أجر الخمس وعشرين ضعفا الموعودة لصلاة الجماعة خلف الإمام. فاعتراف ابن تيمية رحمه الله بالمشايخ وإعطاؤه إياهم مرتبة إمام الصلاة شيء لا يُستهان به، وهو حكم شبيه بفتوى ابن خلدون في الحالات التي يُطلب فيها ابتغاء الشيخ دون أن يكون ابتغاؤه شرطا ضروريا حسب الباعث والمراد.

قال شيخ الإسلام: “والشيوخ الذين يُقتدى بهم يدلون عليه (أي على الله جل جلاله)، ويرشدون إليه، بمنزلة الأئمة في الصلاة…، وبمنزلة الدليل الذي للحاج، يدلهم على البيت وهو وَهُمْ جميعا يحجون إلى البيت، ليس لهم من الإلهية نصيب، بل من جعل لهم شيئا من ذلك فهو من جنس اليهود والنصارى الذين قال الله في حقهم: “اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله”[52].

ويسرد جزاه الله خيرا، صيغ الاسثغاثة بالأحياء والأموات الفاشية في العامة ليشدد النكير عليها.وهذه ذريعة خليقٌ بكل صادق أن يتجند لسدِّها”[53].

المطلب الثالث : فاسأل به خبيرا

أمر الصحبة الذي هو لب عمارة المساجد شأن لا ينبغي أن يتحدث عنه من لم يحظ بنعمة الصحبة وإنما يتحدث عنها الخبراء مصداقا لقوله تعالى: “ولاَ يُنبِئُكَ مِثلُ خَبير”[54].

فإذا لم يكن لإمام الصلاة بعد زمن النبوة والخلافة الراشدة مثل ما للشيخ المربي، فالخلل ليس في الإمامة التي رفض الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسلمها لغير أبي بكر الصديق رضي الله عنه حال مرضه لما توفر فيه من مجموعٍ يؤهله لهذه المهمة، وإنما في الإمام الذي يجب أن يرقى لدرجة الشيخ الذي هو قبلة  وحاضنة مغذية. وبما أن الخبراء في هذا الفن درجات، فسأقتصر على شهادة عالم مرب واحد علا كعبه في تربية الرجال، وهو أفصح من تحدث عن الصحبة،وهو الشيخ الرفاعي رحمه الله، الذي قال في شأن الصحبة التي غابت من المسجد واحتفظ بها القوم في الزوايا وأماكن العبادة: “عليكم أي سادة بذكر الله! فإن الذكر مغناطيس الوصل، وحبلُ القُرب. من ذكر الله طاب بالله، ومن طاب بالله وصل إلى الله. ذكر الله يَثْبُتُ في القلب ببركة الصحبة. المرء على دين خليله. عليكم بنا ! صُحْبَتُنَا تَرياقٌ مجرّب، والبعد عنّا سم قاتل، أيْ محجوب! تزعم أنك اكتفيت عنا بعلمك! ما الفائدة من علم بلا عمل؟ ما الفائدة من عمل بلا إخلاص؟(…) من ينهض بك إلى العمل؟ من يُداويك من سم الرياء؟ من يدلك على الطريق القويم بعد الإخلاص؟ “فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون”[55][56].

رحم الله هؤلاء العارفين بالله، تكلموا عن الصحبة المطلقة وأهميتها، بل عاشوها، ودعوا الناس إلى البحث عن المصحوب للترقي في مقامات الدين من إسلام إلى إيمان إلى إحسان، بل منهم من قال دالا على الخير الذي عنده: “عليكم بنا ! صُحْبَتُنَا تَرياقٌ مجرّب، والبعد عنّا سم قاتل. أيْ محجوب!”، ولكن ما تحدث عنه هؤلاء رحمة الله عليهم وهو من الدين ليس إلا خلاصا فرديا ، فأين السلوك الجماعي الجهادي الذي كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم؟!، وأين دور المسجد الريادي في إذكاء هذه الخصلة، خصلة الصحبة والجماعة؟  والتي هي من سنن الهدى، ونحن نريد الرجوع إلى المنبع الصافي محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله  عنهم لنؤكد على الصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة السالكة إلى الله سلوكا جهاديا وجماعيا ، وأن نرجع إلى المسجد دوره التربوي الريادي وسائر الأدوار الأخرى، بدل الانزواء عن الناس في الزوايا، والاستئثار بخير الصحبة بعيدا عن ميادين الجهاد. وبيوت الله  تعالى والتي كانت تلتمس فيها الصحبة والجماعة كما التمسها سلفنا الصالح من القرون الأولى المشهود لهم بالخيرية جمعت بين التربية الإحسانية والسلوك الجهادي، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ولن يقيم هذا الدين إلا من أحاطه من كل جوانبه.

روى الإمام مالك في الموطإ بسند صحيح عن أبي إدريس الخولاني قال: “دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براقُ الثَّنايا، والناس حوله. فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدَروا عن رأيه. فسألت عنه، فقالوا: هذا معاذ بن جبل. فلما كان الغد هَجَّرْت إليه، فوجدته قد سبقني في التهجير، ووجدته يصلي. فانتظرته حتى قضى صلاته، ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت والله إني لأحبك في الله! فقال: آللّهِ! فقلت آللّه! فقال: آللّه! فقلت آللّه! فأخذ بحُبْوة ردائي، فَجَبذَني إليه وقال: أبْشِرْ! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تبارك وتعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في”[57].

المطلب الرابع :شروط الصاحب والمصحوب

أولا :شروط المصحوب

لا تكفي عمارة المسجد والتركيز على الصحبة والجماعة دون الإشارة إلى شروط الصاحب والمصحوب حتى تعطي الصحبة أكلها وثمارها، كما أعطت أكلها زمن النبوة والخلافة الراشدة، ويؤكد المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله على هذه النقطة الحساسة والدقيقة فيقول: “وإنما ينفع الله عز وجل المؤمن الصادق الجاد في الإقبال على ربه أول ما ينفعه بصحبة رجل صالح، ولي مرشد، يقيضه له، ويقذف في قلبه حبه . ومتى كان المصحوب وليا لله حقا، والصاحب صادقا في طلبه وجه الله ظهرت ثمرة الصحبة”[58] ، بل إنه يزيد ضابطا آخر للأمر يتعلق بمضمون هذه الصحبة فيقول: “الصحبة في الله إن كان لا يغذوها ذكر الله لا تلبث أن تصبح ألفة طبيعية تولد عصبة مفرقة”[59]. ويضيف بأن كمال المصحوب له أهمية قصوى:”وعلى قدر المصحوب إيمانا وإحسانا وولاية ينتفع الصاحب”[60].

إن الله تعالى أمر بالعدل والإحسان مقترنين، ولذلك فالمصحوب الكامل هو من يجمع بينهما معا:  “الصحبة مع ذكر الله، والاجتماع عليه بدون مشروع جهادي يتحدث عنه، وينفذ، ويستعد لتنفيذه باختيار العناصر واختبارها صحبة وجماعة لا يعدو خيرها دائرة أفراد منقطعين عن المجتمع كأنهم أعضاء مشلولة فيه”[61].  وبذلك تنضاف شروطا أخرى للمصحوب: “نعتبر شيخا ومربيا صالحا للجهاد من آتاه الله من فضله زيادة على ما يؤتى أحباءه من سر، وفتح، وكشف، ومعرفة بربه، وتقوى، و اتباع لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مزية لا تعدِلها  بالنسبة لمستقبل الأمة- مزية، خصلة من خصال الإيمان لا تعدلها خصلة بالنسبة لمستقبل الأمة، ألا وهي جمع الجماعة و الحفاظ على وحدتها. يشجع جند الله على صحبة من ظهر فضله من صالحي الأمة وعلمائها العاملين بشرط، هو أن لا تتنافى تلك الصحبة مع الجماعة، أي لا يغلب جانب التأمل، والذكر المنفرد، والتقوى الانعزالية، والخلوة القاعدة، جانب التحرك والجهاد لإقامة الدولة الإسلامية والخلافة على منهاج النبوة”[62].

كان الشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله يقول ” اصحب أرباب القلوب حتى يصير لك قلب. لا بد لك من شيخ حكيم عامل بحكم الله عز وجل يهذبك ويعلمك و ينصحك”[63] . انظر رحمك الله في مواصفاته. حكيم.. وعامل بحكم الله.

ثانيا : شروط الصاحب

أما الشرط في الصاحب فهو الصدق، وفي هذا يقول الإمام المرشد عبد السلام ياسين: “لا يصدق في طلب الله عز وجل منافق أبدا، ولا جاهل بأن الله عز وجل يُراد ويُطلب ما دام جاهلا. ولا متكبر لا يُصدِّق الله عز وجل الذي أخبرنا في الحديث القدسي أنه تعالى مع الجائع الظمآن، والمريض والأشعث الأغبر، ولا هاوٍ يستلطف مجالسة فلان وفلان. الصدق في القلب بينك وبين الله تعالى، لا يستطيع عبد أن يعالج مرضك وخللك من جانب الصدق. لا يقترب من ذلك إلا تصفحك لنفسك صباح مساء، ومقارنة تخاذلك باجتهاد غيرك أحياء وأمواتا، وبكاؤك على ربك الكريم أن يمسح غبار الغفلة وعفن الاستغناء بمكاسبك من الطاعات مهما كانت، واستعانتك بإخوتك في مجالس النصيحة، تسمع وتشارك، وتحضر وتواسي بنية المحتاج لا بالتصدر للرئاسة. إنه لا يرقد في قبرك غيرك، ولا يتبوأ مقعد الصدق عند الله تعالى من يتسلق على أعين الناس وقلبه هواء خواء من صدق الطلب، وصدق الهجرة، وصدق النصرة، وصدق الحاجة إلى المولى.”[64].

 

المطلب الخامس : المسجد ثم المسجد ثم المسجد

إن لب الأمر الذي غاب  عن جل الناس وأغلب العلماء، هو دور المسجد في ترسيخ معاني الصحبة  والجماعة، فالتركيز على المسجد بناء وعمارة، والترغيب في صلاة الجماعة ليس هو المقصود، فأرض الله كلها مسجد، وصلاة الجماعة تعقد بالاثنين وفي كل مكان، بل يمكن لكل واحد أن يقيمها في بيته، ويبقى جوهر الأمر كله غائبا وهو الصحبة والجماعة، قال عبد الله ابن مسعود: ” لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشى بين رجلين حتى يأتي الصلاة – وقال – إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة فى المسجد الذى يؤذن فيه”[65]، فعندما نتحدث عن المسجد الذي هو النموذج المصغر للمجتمع الإسلامي فإننا نتحدث عن الصحبة والجماعة، وعن الصحبة في الجماعة ، وعن الصحبة مع الجماعة . فالصحابة رضي الله عنهم صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان إمامهم في الصلاة، والتابعون صحبوا الصحابة رضي الله عنهم، وكانوا أئمتهم في المساجد، وهكذا تابعو التابعين مع التابعين…

فبالصحبة تحيى كل المعاني التي أراد الإسلام أن يربينا عليها ويعلمها لنا من خلال المسجد، وبالصحبة تتم الممارسة لتعاليم الإسلام، وبالصحبة يتم النصر على الأعداء بعد النصر على النفس ويفتح الله للأمة .

روى الشيخان و اللفظ لمسلم رحمه الله عن أبي سعيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يأتي زمان يغزو فئام “جماعة” من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس. فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيفتح لهم، ثم يغزو فئام من الناس، فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم.”[66].

فمن سنصحب نحن اليوم في مساجدنا ؟ هل نصحب الإمام المغلوب على أمره، والذي يعتبر مجرد موظف عند الدولة، بالإضافة إلى كونه لا يملك ما يعطي من معاني الصحبة والجماعة لأنه لم يصحب – إلا من رحم الله – وفاقد الشيء لا يعطيه؟ أم نصحب الوافدين على المسجد الذين ليس لهم حظ من صحبة الشيوخ المربين؟

إن غياب الصحبة من مساجدنا فضلا عن مجتمعنا هو الذي أفقد المسجد دوره الريادي، وهو الذي غيب روح المسجد من حياتنا. فإذا كنتَ ممن منّ الله عليه بصحبة صالحة ينعم في ظلها بمعاني حب الله عز وجل، وحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحب المؤمنين، فلا بد من إثبات حضورك الفعلي في المسجد، فعمار المساجد من عامة الناس بل حتى من علمائهم هم في أمس الحاجة إلى صحبة من صحبوا، فهم الهداة إلى الله تعالى، يقول الإمام علي كرم الله وجهه:”رحم الله عبدا سمع فوعى، ودُعي إلى الرشاد فدنا، وأخذ بحجزة هاد فنجا”[67]. هذا باب مدينة العلم  علي رضي الله ،يذكرنا بأهمية الهادي في استقامة أحوالنا مع الله تعالى. فيرتب مراحل الدعوة وهو الداعي إلى الله حتى في الجهاد استجابة لنصيحة المصحوب صلوات الله عليه في غزوة الأحزاب، فيبدأ بالاستماع الواعي إلى الدنو من الداعي، إلى النجاة بالتمسك بقوة بالهادي، ومن أمسكته بحجزته فقد تعلقت به تعلقا كاملا.

خاتمة

إذا عرفنا داءنا من خلال ما سطرناه في هذه الكلمات، ونورنا طريقنا بكلام الحبيب المعصوم عليه الصلاة والسلام: “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة”[68]، و علمنا أنه لا إصلاح إلا بإعادة إبرام ما انتقض من عرى الإسلام، والحكمة تقتضي إعادة إبرام آخر ما انتقض  والذي هو الصلاة استشرافا للوصول إلى إبرام الحكم بعد استئصال جذور الملك العاض والجبري. وعندما نتحدث عن الصلاة نستحضر أن دين الإسلام دين جماعي وليس دينا فرديا، وأن الصلاة لن تبرم  وبيوت الله محتلة ومؤممة من قبل حكام الجبر، وأن أول عمل يقوم به من مكن الله لهم في الأرض هو إقام الصلاة، قال تعالى:” الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فــــــــــــــِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ “[69]، وأن الذين سيضطلعون بهذه المهام هم الرجال، فإن المساجد  فيها يصنع الرجال إذ هي المدارس الحقيقية التي تربى فيها الأجيال وسيتربون ، ولن يكون للمسلمين عزة ولا قوة ولا هيبة إلا حين يعودون إلى المساجد فينطلقون منها كما انطلق منها أسلافنا الأولون لينشروا الهدى والحق والنور في كل مكان. في المسجد يجب أن تحضر جميع الجماعات الإسلامية، وجميع جمعيات المجتمع المدني، وكل العلماء على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم، و كل الزوايا لتكون الانطلاقة من بيت الله، وتتقارب فيه المفاهيم والتصورات، وعلى أرضية إسلامية يكتب الميثاق، لأنه لا يعاد إبرام ما انتقض  من الدين واستجماع ما تفرق بجماعة واحدة مهما بلغت قوتها وكثر عدد أفرادها.

و المطلوب الآن وبعد الآن استجماع ما تفرق بعد زمان الصحابة رضي الله عنهم، واكتساب الشخصية الجهادية الصحابيَّة، واستصحاب ما تركه أجيالنا من علماء الدين الأولين والآخرين استئناساً به لا عبئا ثقيلا، اجتهادا

نستضيء به نحن لنقول كلمتَنا من إزاء القرآن ومن مشارف الصحبة.

لا مناصَ من أخذ جَوهر ديننا عن الأكابر أهل المعرفة والنور، وإن محاولة تخطي عصور الرُّكام قفزاً بلا زاد قلبيٍّ يؤصل نسبتنا للنبوة والصحبة لَمغامرة في فضاء الإسلام الفكري الثقافي إلى غير وِجهةٍ. يقول الإمام المجدد عبد السلام ياسين رحمه الله:”ذلك أن بيت الله أحق البيوت أن ينطلق منها ويرجع إليها ويتجمع فيها ويتآلف جند الله. تحت حكم الجبر ينبغي أن يكون تحرير المسجد من الإسلام الرسمي مطلبا أساسيا، وقبل قيام الدولة ما أمكن وبعد ذلك بتأكيد لابد أن يكون المسجد مكان اللقاء بالشعب، ومدرسة التربية العامة، ومجالس الإيمان. حلقات الدروس في المسجد يحضرها أعضاء الأسر إلى جانب العامة، يتعرفون للناس، ويعلمون الناس ويتلقون هم من العلم ما لا تتاح الفرصة لتلقيه في جلسات الأسر وفي البيت.”[70] .

يسر الله لنا صحبة صالحة تنفعنا في الدنيا وترفعنا في الآخرة إلى المقامات العلا. لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

 

لائحة المصادر و المراجع:

– الإحسان، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1998م.

– الإسلام بين الدعوة والدولة، عبد السلام ياسين، الطبعة الأولى، 1392هـ .

– إعلام الساجد بأحكام المساجد ، الزركشي، بدر الدين الزركشي، تحقيق المراغي، وزارة الأوقاف المصري .

– البرهان المؤيد، أحمد بن علي الرفاعي، مكتبة المعارف، المكتبة الأدبية، 2008م.

– تاج العروس من جواهر القاموس، مرتضى الزَّبيدي، تحقيق مجموعة من المحققين،طبعة دار الهداية.

– التعريفات ، علي بن محمد بن علي الجرجاني، تحقيق : إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي ،بيروت، الطبعة الأولى، 1405.

– تفسير ابن كثير ، تحقيق سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1420هـ – 1999م.

– تفسير الرازي المشتهر بالتفسير الكبير و مفاتيح الغيب، الإمام فخر الدين الرازي، دار الكتب العلمية، بيروت، 2004م – 1425هـ .

– الجامع الصحيح المسمى صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري، دار الجيل بيروت و دار الأفاق الجديدة ، بيروت.

– الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه، المسمى صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري ، تحقيق : محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة : الأولى 1422هـ.

– الدلالة النورانية للطريقة الخلوتية الجامعة الرحمانية للشيح حسني الشريف الحسيني، الطبعة الثانية 1433 هـ – 2012م .

– رسالة إلى مجالس النصيحة مؤرخة في الخميس 5 رجب 1418.

– زهر الآداب وثمر الألباب، أبو إسحاق الحصري القيرواني، دار الجيل.

– سنن ابن ماجه ،تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرون، دار الرسالة العالمية، الطبعة الأولى، 1430 هـ – 2009م.

– سنن أبي داود ، دار الكتاب العربي ـ بيروت.

– سنن الترمذي، تحقيق وتعليق، أحمد محمد شاكر وآخرون،شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي ، مصر، الطبعة: الثانية، 1395 هـ – 1975 م.

– شعب الإيمان للبيهقي ، تحقيق الدكتور عبد العلي عبد الحميد حامد، مكتبة الرشد للنشر والتوزيع بالرياض بالتعاون مع الدار السلفية ببومباي بالهند الطبعة الأولى، 1423 هـ – 2003 م.

– طبقات الصوفية ، السلمى، أبو عبد الرحمن الازدى النيسابورى ، تحقيق  أحمد الشرباصي، مؤسسة دار الشعب، الطبعة الثانية  1998،.

– الفتاوى الحديثية، ابن حجر الهيثمي ،طبعة دار الفكر.

– الفتح الرباني والفيض الرحماني، عبد القادر الجيلاني،دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

– كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين الهندي البرهان فوري ،تحقيق : بكري حياني و صفوة السقا، مؤسسة الرسالة، الطبعة الخامسة 1401هـ/1981م.

– لسان العرب ، ابن منظور الأفريقي المصري، دار صادر ، بيروت الطبعة الأولى.

– مختار الصحاح ، محمد بن أبي بكر الرازي، تحقيق محمود خاطر، مكتبة لبنان ناشرون ، بيروت، طبعة ، 1415 – 1995.

– المستدرك على الصحيحين، أبو عبد الله الحاكم النيسابوري مع تعليقات الذهبي في التلخيص، تحقيق  مصطفى عبد القادر عطا. دار الكتب العلمية ،بيروت، الطبعة الأولى ، 1411 – 1990.

– المسند ، أحمد بن محمد بن حنبل ، تحقيق شعيب الأرنؤوط  وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى، 1421هـ- 2000 م.

– مسند أبي يعلى، تحقيق: حسين سليم أسد ، دار المأمون للتراث ، دمشق، الطبعة الأولى، 1404ه – 1984م.

– المعجم الوسيط إبراهيم مصطفى، أحمد الزيات وآخرون، تحقيق  مجمع اللغة العربية.

– الموافقات، إبراهيم بن موسى الشاطبي ، تحقيق أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن عفان ، الطبعة الأولى، 1417هـ/ 1997م.

– المنهاج النبوي ، الأستاذ عبد السلام ياسين،  دار الآفاق، الدار البيضاء، الطبعة الرابعة، 1422 هـ /2001.

– المِنَّة الإلهيَّة في بيان الطريقة النقشبنديّة العليّة ، الشيخ طارق بن محمد السعدي ، دار الجنيد، 1423 هـ – 2002 م.

المقالات:

– راجع سلسلة مقالات جريدة اللواء الأردنية عام 91 م- 92م. ينظر: http://www.al-liwa.net

 

.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.