مجتمعاتٌ في حالة البقاء على قيد الحياة..!
مجتمعاتٌ في حالة البقاء على قيد الحياة..!/ أنور بلبهلول
مجتمعاتٌ في حالة البقاء على قيد الحياة..!
بقلم: أنور بلبهلول
كما كان متوقع من طرف معظم العلماء المهتمين بالسوسيولوجيا و علم النفس الإجتماعي و الأنثربولوجيا و قضايا المجتمع و دراسة السلوك و مختلف المشارب العلمية التي تُدرِجُ ضمن إهتمامها هذه القضايا باتت مجتمعاتنا تعيش في حالة متقدمة من اللاتوافق و عدم الإتزان وفق سيرورة سريعة حيث كانت مجموعة من العوامل تتراكم بفعل توجيهات و تحديدات من أطراف بعينها تتوخى ما وصلنا إليه اليوم و هو العيش في ظل حالة “البقاء على قيد الحياة”.
هنا حيث يسود التوتر بشكل مستمر عند الأفراد ليس بفعل الندرة أو القلة بل الكثرة و توفر كل شيء سمة مميزة لهذا الوضع التنافسية و الفردانية تهدم كل شيء موت العلاقات الاجتماعية لأغراض غير نفعية و الإتجاه نحو التكتل في مجالات حميمية أو ضيقة فالآخر غير مرحب به في مجالاتنا و عوالمنا الخاصة التي تجمعنا بالعالم الإفتراضي لقد أسهم هذا الأخير بقسط مهم فيما يعيشه الأفراد اليوم من حالات اللامعنى و تراجع العاطفة و الأحاسيس المتعلقة بالعيش المشترك قد تكفينا نظرة ليس بالعميقة في مسار تطور التاريخ الإنساني خصوصاً المعاصر منه لإدراك أن مانعيشه اليوم سوى إفراز موضوعي لمسار إرتبطت أشكاله الأولية مع العصر الصناعي و الإتجاه نحو المكننة و التقانة إلى إرساء الرأسمالية كنظام عالمي يبيح كل شيء من أجل المال و الإتجاه في هذا الصدد بشكل متقدم وصولاً إلى عصر الرقمنة و التكنولوجيا كان التقدم من مرحلة إلى مرحلة يتم على حساب الإنسان أو لنقل على حساب قتل ما هو روحي و قيمي إنساني ليتم الإستثمار في هذا الإتجاه بشكل كبير حتى الوصول لهذا الوضع.
لم يغالي علماء المستقبليات و الباحثين عندما وصفوا ما نعيشه اليوم بحالة التوحش أو موت المعنى أو الإتجاه نحو الإنقراض..و غيرها من الوسوم التي تميز الواقع الإجتماعي الإنساني اليوم فكل المعطيات حينها كانت تؤشر على أن المجتمعات تتجه نحو الإستهلاك العام و تتراجع من حيث الجوانب الروحية و الإنسانية بشكل مضمر ذلك أن النظام الإقتصادي و أشكال النشر الثقافي و الإعلامي المصاحبة له لعبت أدوار مهمة في التقدم نحو هذا الوضع.
إذن ما هي أهم أعراض العيش في حالة “البقاء على قيد الحياة” عند الأفراد و المجتمعات؟
إنتشار الأمراض السيكوجسمانية:
نتيجة عدم توفر شروط الإرتياح الإجتماعي و ضغط الحياة المرتفع في كل القطاعات أضحى الأفراد يعيشون ما يسمى بالتوتر المستمر “stress chronique” و هذا يعزى لحركية الأفراد و عدم وجود منافذ و فرص للإجتماع و التكتل و النقاش و التواصل الخالي من الضرورة أو الواجب ارتفعت الزيارات الطبية للكشف عن أمراض ظن أصحابها أنها عضوية ليتم الكشف على أنها نتيجة لعوامل نفسية محظة فأصبحت مظاهر العياء و آلام الصدر و الرأس و غيرها ملازمة للكثير من الأفراد.
تراجع المجال العام على حساب المجال الخاص:
لم تعد المجالات العمومية في ضل حالة البقاء على قيد الحياة أمكنة للإجتماع الإنساني و لصناعات الرأي العام بل أصبحت الشوارع العمومية و محطات القطار و الأسواق الكبرى و غيرها مجالات عبور فقط ! يشكل هذا العامل قوة و ربح كبير للأنظمة السياسية خصوصاً المتخلفة و الفاسدة منها ذلك أن فكرة التجمهر و إجتماع الناس في اللقاءات و حضور المنتديات التي يُصنع فيها الرأي العام كما ذهب يورغن هابرماس لم تعد قائمة و هذا أمر جد خطير !
بينما تقوت المجالات الخاصة أو الحميمية الضيقة بفعل النمط الفرداني المتقدم في ضل سيادة المجال الرقمي و الهواتف النقالة الملاذ الحميمي أو السري للأفراد الذي يضم كل الأسرار و العواطف و الأحاسيس إذن هنا يبدو وجه التغير الكبير في نمط الحياة ككل و في كيفية التعاطي مع مسألة المجال في ظل هذا الوضع.
فقدان الإحساس بمعنى الأشياء و تراجع منسوب السعادة:
لقد سبق و نبه إبن خلدون رحمه الله إلى أحوال الأمم التي تتميز بوفرة المنتوجات و تقل فيه المعارف و يرتفع فيها الفساد و تنحل فيها الأخلاق من خلال وصفها بأنها تموت روحياً و قيمياً و يكون ذلك سبباً لأفولها و لعل هذا الأمر ينسحب على واقع مجتمعات “البقاء على قيد الحياة” فلسان حال معظم الأفراد أنهم فقدوا اللذة و المشاعر الجميلة رغم كثرة التسهيلات ووفرة الأشياء فالأمر أضحى يُفهم عكسياً في حالتنا الراهنة ليس كما كان الحال عليه سابقاً أي أن القلة و الفقر و الصعوبات سبب الشقاء و فقدان السعادة بل العكس ما يحدث اليوم فأن ترى كل شيء متاح و سهل مؤشر لفقدان معنى الأشياء فالإستهلاك صفة مميزة لتاريخيتنا الراهنة و كل شيء إن سار سهلٌ التمكن منه فقد قيمته و معناه.
غياب الإنتاجات المعرفية و الفكرية و عدم الإهتمام بها:
بعد أن كانت هذه المعضلة تهم من يعانون من الأمية و الجهل و من لم يتمكنوا من إستكمال المسار الدراسي على وجه العموم أضحت في حالة مجتمعات البقاء على قيد الحياة تصيب حتى من كان جدير به و واجب عليه أن يكون رمزاً للمعرفة و الثقافة و البحث أي صفوة المجتمع كالأستاذ و الطبيب و المهندس و الطالب الباحث… فهذا الأمر مؤشر لمسألتين الأولى أنه يعكس مدى الغرابة و التناقض الخطير الذي وصلت إليه الأوضاع و الثانية يُفهم كإدراك و تشخيص لحجم الخطر الذي يهدد الأفراد الآن و في المستقبل.
فالإستثناءات تنعدم بفعلة ندرتها أمام السواد الأعظم ويعزى هذا الأمر للتهميش الذي همَّ المعرفة منذ زمن خصوصاً في مجتمعاتنا التي يمكن القول أنها مُنع عليها العلم بالإضافة إلى نمط العيش الإستهلاكي و متلازمة التوتر المستمر التي اجتاحت الكل للأسف و لم تترك مجالاً للإطلاع و البحث و المواكبة..
صفوة القول إن نمط العيش الراهن والذي ذهب الباحثون لوصفه بحالة “البقاء على قيد الحياة” ربما هو الأقرب و الأجدر لوسم ما وصلت إليه الأوضاع فالكل يعيد الإنتاج و لا ينتج كما لو أن المكننة حلت محل الروح الإنسانية دون علمنا إنها حالة تشبه حالة مدمن الهيروين الذي تشكل حركاته اليومية ضرورة للبقاء على قيد الحياة كذلك الكل اليوم يتحرك سواء للعمل أو غيرها من الأنشطة الحياتية فقط للبقاء على قيد الحياة و ليس من أجل الحياة !
المراجع
-د.المهدي المنجرة: عولمة العولمة
-د المهدي المنجرة:قيمة القيم
-ابن خلدون: المقدمة
-عبد الرحمن رشيق: مقال حول المجال الضيق و الحياة الحضرية في المغرب
-د.مراد صغير: لقاءات فكرية حول دراسة السلوك