(14) التطبيع بين الاقتضاء الأصلي وواقع العدوان | طباع اليهود ومخاطر التطبيع
الدكتور عبد الحليم أيت أمجوط
تنفتح “الكلمة السواء” التي دعا إليها القرآن أهل الكتاب عموما على إشكالية التطبيع مع اليهود خصوصا في ظل واقع العدوان على الأراضي الإسلامية وأهلها ومقدساتهم وتقتيلهم وتهجيرهم بدعوى الحق التاريخي لليهود في فلسطين، وفي هذا الإطار لابد من التمييز بين الأصل الشرعي في التعامل مع اليهودية كدين كتابي والتعامل مع الكيان الصهيوني باعتباره محتلا غاصبا.
أولا: الأصل الشرعي في قضية التطبيع مع اليهود.
اليهودية كالنصرانية دين كتابي اعترف الإسلام في الأصل بوجوده ودعا إلى الحوار مع أهله، كما دعا إلى الحوار مع النصارى، ذلك لأن الآية التي دعت إلى الكلمة السواء شملت أهل الكتاب جميعا من غير تمييز بين الطائفتين، قال الله عز وجل: “قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء”[1]، وكذلك الشأن في قوله تعالى: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم“[2]؛ فلم يستثن القرآن من حركة الحوار إلا المعتدين الظالمين من أهل الكتاب عموما.
ومن هذا المنطلق لا يتحرج المسلم من الحوار مع اليهودي الذي لم يثبت تورطه في ظلم أو سكوته عن حق، ولا يجد غضاضة في التحدث معه عن النبي موسى عليه السلام وعن التوراة، ذلك لأن المسلم يعيش مع اليهود في القرآن أكثر من الطوائف والأقوام الأخرى، فالناظر في القرآن يجده مملوءا بالآيات التي تتحدث عن بني إسرائيل والأحداث المتصلة بحركتهم في التاريخ منذ زمن النبي موسى عليه السلام مرورا بمن جاء بعده من الأنبياء إلى زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، مع إطلالة على مستقبل واقعهم في الحياة، وتعقيدات حياتهم السياسية والاجتماعية والدينية[3].
لذلك فإن المسلم لا يعادي اليهودية بمرجعيتها الفكرية الدينية الشرائعية لمجرد الاختلاف فيما استحدثه المنتمون إليها من أفكار منحرفة أدخلت في التوراة فشوهت الصورة الحقيقية للدين الإلهي، ثم إن القرآن يأمره بالبر والقسط إلى المسالمين من المخالفين عموما[4] في قوله تعالى: “لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين”[5].
هذا فضلا عن موقف القرآن الكريم من أهل الكتاب المتميز بالموضوعية والإنصاف من خلال التمييز بين فرقهم المختلفة بناء على معتقداتهم وأعمالهم، مصداقا لقوله تعالى: “ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون”[6]، ولا شك أن الأمة القائمة بآيات الله تستعظم ظلم العباد وسفك دمائهم وأكل أموالهم بالباطل وفيهم قال الله عز وجل: “ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك”[7].
وليس ينصف الناس في المعاملة من لم يميز بين ذوي الفضل والمروءات منهم وبين السفهاء، لأن ذا الفضل يعرف الفضل حيث الفضل، وذا المروءة يقيم المروءات وسفيه النفس الناس عنده جميعا سفهاء.
ثانيا: استحالة حوار التعايش مع اليهود الغاصبين المعتدين.
إن ما يقف المسلم منه موقف المعارضة الشديدة والاستنكار، بل ويسانده كل حر أبي عافت نفسه صفحات التاريخ الامبريالي الأسود الذي بقي وصمة عار على جبين الإنسانية المستكبرة؛ هو شيء اسمه “دولة إسرائيل” شكل مظهرا من مظاهر الظلم والاضطهاد والتقتيل والتهجير والتجويع والاحتلال باسم الكتاب المقدس، وبدعوى أنها “أرض الميعاد” التي وعدهم بها ربهم، أو بحجة الحق التاريخي الذي يعود إلى آلاف السنين، وكأن الله تعالى عن ذلك، حفظ كل قطعة أرض في الدنيا باسم مجموعة عرقية عنصرية معينة منذ بدء الخليقة إلى يوم الدين، وهو ما لا يقبله العقل ولا الشرع ولا التاريخ.
ولذلك فإن اليهود الغاصبين الذين اختاروا اتجاها فكريا سياسيا عدوانيا زعموه حقيقة دينية، وكذا الداعمون لحركة العدوان هذه ماديا ومعنويا، يتخذون جميعا عنوان “الذين ظلموا” من وجهة النظر القرآنية، فيخرجون بمقتضاه من الأمر بالمجادلة بالتي هي أحسن، إلى وجوب رد العدوان والدفاع عن النفس مصداقا لقوله تعالى: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم”[8].
وهو قانون كوني إنساني ضروري لقطع دابر الظلم في الأرض، تقره القوانين الوضعية ومواثيق حقوق الإنسان كما تقره الشرائع السماوية والمذاهب الدينية الوضعية، وليس خاصا باليهود لأنهم يهود، وإنما لحقهم للنزعة العنصرية العدوانية التي انصبغت بها شخصيتهم عبر التاريخ.
ذلك لأن الاعتداء والبغي ممنوعان شرعا وعقلا بغض النظر عمن يقوم به، ولو كان مسلما، مصداقا لقوله تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله”[9].
لهذا يستنكر عقلاء العالم اليوم ما يقوم به اليهود في أرض فلسطين من الظلم الفظيع وحرمان الفلسطينيين من أقل حقوق الإنسان شأنا، ولذلك لا يستغرب المتبع للشأن الإعلامي ما أشارت إليه إحدى الدراسات الميدانية، منذ سنوات، من أن تسعة وخمسين من المئة من الأوروبيين يعتبرون الكيان الصهيوني أكبر خطر على السلام العالمي[10]، أما اليوم فلا شك أن هذه النسبة ارتفعت كثيرا بفعل أحداث القدس والشيخ جراح وغارات الطيران الصهيوني على المدنيين في غزة، مما استنكره العالم شرقا وغربا، وقامت المظاهرات لنصرة أهلها في كل مكان[11].
فكيف يسوغون لأنفسهم مشروعية تهجير الآلاف من الناس وتشريدهم وتقتيلهم واستيطان أرضهم من غير حق، لتصبح هذه ممنوعة عن أهلها الذي سكنوا فيها منذ آلاف السنين، ومستباحة للأجانب عنها تاريخا وثقافة وحضارة؟.
لا ينبغي أن يفرض على المسلمين إبداء الود والتعايش مع اليهودية السياسية التي اتخذت كلمة الصهيونية كمضمون لها في حركتها العدوانية عليهم في الواقع السياسي والأمني…
وهو نوع من الوفاء لطبع أصيل يفسر الموقف السلبي من اليهود في القرآن الذي لا ينطلق من يهوديتهم وانتمائهم للتوراة، بل من عدوانيتهم وتمردهم على الخط التوحيدي والقيم الروحية التي نادت بها التوراة وجاء بها النبي موسى عليه السلام، حتى إنهم تحالفوا مع المشركين مرارا في التاريخ ضد الموحدين بالرغم من اختلافهم مع حلفائهم في خط العقيدة[12]؛ قال الله عز وجل: “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا”[13]؛ فهل يدرك المطبعون مع أي نوع من البشر يطبعون؟؟؟ ألا فليسقط التطبيع قبل فوات الأوان…
((يُتبع في المقال (15) بعنوان: “التطبيع مع اليهود بين الاقتضاء الأصلي وواقع العدوان(2)”))
[1] – سورة آل عمران، الآية:63.
[2] – سورة العنكبوت، الآية:46.
[3] – محمد حسين فضل الله، في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي، ص:32.
[4] – يوسف الحسن، الحوار الإسلامي المسيحي؛ الفرص والتحديات، ص:18.
[5] – سورة الممتحنة، الآية:8.
[6] – سورة آل عمران، الآية:113.
[7] – سورة آل عمران، الآية:74.
[8] – سورة العنكبوت، الآية:46.
[9] – سورة الحجرات، الآية:9.
[10] – نشرت في قناة الجزيرة في إحدى حلقات الاتجاه المعاكس حوار الأديان، بتاريخ 01/06/2004م، ثم في موقعها على الانترنت:
www.aljazeera.net/channel.
[11] – حرب الإبادة الهمجية اللاأخلاقية للعزل الفلسطينيين التي جرت أحداثها مرارا باستخدام الأسلحة الثقيلة المحرمة دوليا، مما يعيد إلى الذاكرة قصص الإبادة التي يرويها العهد القديم من الكتاب المقدس.
[12] – محمد حسين فضل الله، في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي، ص:33.
[13] – سورة المائدة، الآية:84.