اللغة العربية و التخطيط الاستراتيجي التعليمي بالمغرب
اللغة العربية و التخطيط الاستراتيجي التعليمي بالمغرب/الأستاذ رشيد بغدادي
اللغة العربية و التخطيط الاستراتيجي التعليمي بالمغرب
قبل أن نتحدث عن السياسة اللغوية بالمغرب حري بنا التطرق إلى أزمة التعليم وجذورها قبل الوضع الراهن أي قبل الرؤية الاستراتيجية 2015- 2030 وخارطة الطريق 2023-2026.
كشفت عدة تقارير أجنبية ووطنية عن عمق أزمة التعليم بالمغرب كالدراسة الدولية للاتجاهات في الرياضيات والعلوم TIMSS و البرنامج الوطني لتقييم مكتسبات التلاميذ PNEA وتقرير مؤشرات التعليم العالي و التدريب الشهير للمنتدى الاقتصادي والعالمي دافوس حول جودة نظام التعليم ومعدل الالتحاق بالتعليم العالي والثانوي و مستوى تعلم الرياضيات والعلوم و إدارة المؤسسات التعليمية… ولعل جذور الأزمة في المغرب تعود لعقود خلت رغم الميزانيات الضخمة المرصودة لهذا القطاع المهم والحيوي. فالمغرب يعرف تدنيا واضحا في مستوى التعلمات الأساس منذ الفترات الأولى من التمدرس ونزيفا حادا يتمثل في الهدر المدرسي الذي بلغ حوالي ثلاث مائة ألف تلميذ الذين يغادرون المدرسة في السلكين الابتدائي والثانوي كل سنة، أما الجامعة فنصف الطلبة الملتحقين بها لا يحصلون على الإجازة.
نشر المجلس الأعلى للتربية والتكوين تقريرا في موقعه الإلكتروني حول القيم المهدورة في المنظومة التربوية و تنامي ظاهرة تعاطي المخدرات والعنف في الأوساط المدرسية. وأمام تراكم تلكم المعيقات سيتأثر كذلك النموذج التنموي الوطني سلبا لارتباط هذا الأخير الوثيق بالتعليم وسيعلن رسميا عن فشل هذا النموذج التنموي بعد عقدين من تطبيقه، ونتائج هذا الإخفاق لا تخفيه خافية. وكل هذا مرده إلى الفشل في إصلاح التعليم وغيره من قبل صناع القرار في هذا البلد والوزارات التي تعاقبت عليه وعجز مهندسي المجلس الأعلى للتعليم في كل مرة عن صياغة سياسة وخطط استراتيجية ناجعتين تنهضان بالتعليم من كبوته رغم تقييمه المتكرر في كل فترة وانتقاله من خطة استراتيجية إلى أخرى
وما يصاحبها من توصيات في هذا الشأن.
تناسلت الإصلاحات في المغرب وحال التعليم كما هو لم يبرح بعد مكانه فأصبح شعاره: بدء الإصلاح ثم إصلاح الإصلاح ثم تتمة الإصلاح وإصلاح لم يواكبه إصلاح،أي من ميثاق التربية والتكوين مرورا بالبرنامج الاستعجالي إلى الرؤية الاستراتيجية وآخرها خارطة الطريق. وفي كل مرة جعجعة ولا طحنا، وقد أصبحنا عند سماعنا لأي تخطيط استراتيجي مرتقب ننتظر ظهور تخطيط آخر يغطي فشله على استحياء حتى قيل إن كل إصلاح
للتعليم في المغرب سيفشل دون استكمال عشريته أو سينتج الفشل ولو بعد حين.
وبهذا يكون المغرب قد أخلف الوعد والموعد مع التقدم والاصطفاف في مصاف الدول التي استقلت في نفس سنة حصول المغرب على الاستقلال في خمسينيات القرن الماضي وأصبحت متقدمة ورائدة في المجال الصناعي وغيره كماليزيا مثلا ومن ثم إضاعة فرص عديدة سنحت لنهضة تنموية حقيقية ومستدامة للبلاد.
وضعية اللغة العربية في التخطيط الاستراتيجي
في جميع المخططات التعليمية للدولة، كانت اللغة العربية ملزمة في سلكي الابتدائي والثانوي وتعتبر هي والأمازيغية لغتين رسميتين كما تحدث ميثاق التربية والتكوين عن أكاديمية اللغة العربية ابتداء من السنة الأكاديمية 2000-2001، واعتبارها مؤسسة وطنية ذات مستوى عال، مكلفة بتخطيط مشروع التنمية المتواصلة للنسق اللساني العربي و تشجيع حركة الإنتاج والترجمة و تكوين صفوة من المتخصصين يتقنون مختلف مجالات المعرفة باللغة العربية و بعدة لغات أخرى وتطبيق وتقويم هذا المشروع بشكل مستمر. وتضم تحت سلطتها المؤسسات والمراكز الجامعية المهتمة بتطوير اللغة العربية (1). كما أدرج ميثاق التربية والتكوين تعليم اللغة الأجنبية الأولى؛ الفرنسية؛ في السنة الثانية من السلك الأول للمـــدرسة الابتدائية مع التركيز خلال هذه السنة على الاستئناس بالسمع والنطق(2). التدريس بالجامعة لم يطرأ عليه أي تغيير، فقد حافظت على اللغة الفرنسية في تدريس المواد العلمية بعد التعريب الذي عرفته مسالك الثانوية. و اكتفى البرنامج الاستعجالي بذكر تحسين نجاعة مقررات تعليم اللغات.الرؤية الاستراتيجية ستعتبر اللغة الفرنسية إلزامية في مستويات هذا السلك كافة (السلك الابتدائي)، بوصفها لغة مُدرّسة (3). وقد تحدث هذا المخطط عن تنويع الخيارات اللغوية والتناوب اللغوي وسماها مقاربة بيداغوجية وخيار تربوي متدرج يستثمر في التعليم المتعدد اللغات، بهدف تنويع لغات التدريس إلى جانب اللغتين الرسميتين للدولة، وذلك بتدريس بعض المواد، ولاسيما العلمية والتقنية منها(4).وبهذا يكون القانون الإطار 17-51 الذي يعتبر التنزيل القانوني للرؤية الاستراتيجية قد أكد هذا المنحى في مادتيه 2 و31 و دخل حيز التنفيذ بعد المصادقة البرلمانية في 22 يوليوز 2019 بأغلبية 241 مقابل 25.
خارطة الطريق ركزت على الالتزام الثاني من أجل نواتج التعلم المنتظرة والقابلة للقياس ثم نشرها لتحديد الكفايات الواجب تملكها عند متم كل سنة دراسية، ومقاربة حديثة لتدريس اللغات الأجنبية مفعلة و مرتكزة على الممارسة والتوظيف لتعزيز التحكم في التعبير الشفهي والكتابي وخاصة توسيع تدريس الأمازيغية بالابتدائي و تقوية تدريس الفرنسية في جميع الأسلاك وتوسيع تدريس الإنجليزية في السلك الثانوي بنوعيه.
اللغة العربية ومكمن الداء
قيل إن القرآن الكريم حمى اللغة العربية من الاندثار كما اندثرت بعض اللغات غير الحية وتعد بالمئات، فأصبحت في متاحف اللغات المنقرضة والمعجمات. اللغة العربية ليست لغة قومية فحسب يتحدثها أكثر من 467 مليون نسمة في أنحاء العالم، ولكنها لغة أيضا حاوية لثقافة وحضارة وهوية. يقول الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي: ” وكما أن الذي أنزل عليه القرآن نبي العرب، فالقرآن نبي العربية، بحيث لا تجد من فضل لرسول الله على الأنام، إلا وجدت فضلا في معناه لكلام الله على الكلام”.
اللغة العربية بحر لا شاطئ له، وقد سادت قرونا العلم والعالم،وسحرها أسر غير الناطقين بها، ومخطئ من ظن أن في عصرنا من يدين لغيرها متحضر وأن اللغة العربية لغة قوم متخلفين ونطقك باللغة الأعجمية تقدم وحضارة
إن الاشتقاق يمد اللغة العربية بالحياة الدائمة فهو من وسائل نمو اللغة وتوالد موادها وتكاثر كلماتها. إن طريقة الاشتقاق وتشعب أفانينه على هذه الصورة ربما كان من مزايا لغة العرب التي انفردت بها. (5)
لا يُخشى من انفتاح اللغة العربية على اللغات الأجنبية ولا على إتقان لسان غيرها، فاللغة العربية قادرة على استيعاب مجريات الحياة وتطورها وتقلباتها، “إن الأسلوب الخاص بتلك اللغة أي اللغة العربية ثابت باق، فهو يطور الكلمات الدخيلة ويمثلها إلى بنية لغته كما يمثل جسم الإنسان الدقائق الغذائية التي يتناولها من لحوم الحيوان إلى جسمه ويبقى مع هذا إنسانا “.(6)
عمل المستعمر في البلدان الإسلامية على إقصاء وإضعاف اللغة العربية وطمس الهوية الإسلامية بشتى الأساليب. تجلى قهر الاستعمار وكيدُه في تغـريب النخب المحلية وتمريرهم من «طاحون التعليم» كما يعبر اللورد كرومر.(7) لذا أصبح عندنا دعاة اللغة العربية والهوية الإسلامية ذوي صوت خافت وهم كثر لا يأبه لهم أحد، ومركز القرار السياسي فرنكفوني وفيه نخبة قليلة متحكمة ونافذة في الحكم.
صياغة القانون الإطار17-51 وتفويته تحت قبة البرلمان لدليل على اللعبة السياسية التي ينهجها المخزن،لأن جميع المؤسسات العليا تابعة له وأذرع وقاية يلبسها لبوس القانون وتحت مظلة دستور ممنوح ومؤسسة برلمانية شكلية أسست لغرض واحد وهي المصادقة على قرارات تلك المؤسسات وهنا تكمن الأزمة.
التناوب اللغوي وتكافؤ الفرص.
أين يكمن تكافؤ الفرص في إحداث المسالك الدولية وتعميمها منذ سنة 2017 في التعليم التأهيلي و الجذع المشترك و السلك الإعدادي؟ أية علمية تلك التي تدعي مقاربة بيداغوجية في التناوب اللغوي؟ لماذا حافظت الجامعة على مسارها العلمي المفرنس؟
أسئلة نطرحها للتنبيه على أن لا هيمنة في التعليم المغربي فوق هيمنة اللغة الفرنسية، وأن المسالك المستحدثة ما هي إلا مسالك فرنسية صرفة. إذ المسألة ليست صلاحية هذه اللغة أو تلك لتدريس العلوم فجميع اللغات في هذا المجال سواء العربية والصينية والعبرية والروسية والفرنسية والإنجليزية،والتفاوت تفاوت في مدى تطويع أهل لغة ما للغتهم والتطويع لا يمكن أن يكون بممارسة اللغة في لغة أخرى بل في اللغة المراد تطويعها.(8)
الأمم تبدع بلغتها لا بلغة الآخرين ويجمع الخبراء على أن التعلم بلغة الأم أسرع و”أن أفضل الدول الرائدة عالميا تدرس بلغاتها الأصلية” (9). والتجارب في الدول المتقدمة التي راجعت مناهجها و آثرت لغتها على غيرها كثيرة على أن تحصى.
يتساءل المرء عن ما بشربه ميثاق التربية و التكون من إنشاء أكاديمية للغة العربية السالفة الذكر، و لم لم تر النور بعد مضي أكثر من عقدين من الزمن كأكاديمية مستقلة تعنى بالأهداف المسطرة؟.
إن “غياب إرادة سياسية حقيقية ” من أجل وضع حد “للفوضى اللغوية التي يعيشها المغاربة”، و”الخوف من اللغة العربية بما تمثله من عمق حضاري واستراتيجي”، و أن “الحرب على العربية باسم التلهيج والفرنسة ليس إلا مظهرا من مظاهر هذا المسار”. (10)
معاناة المغاربة ليست في ازدواجية اللغة. ولكن في الهيمنة اللغوية الأجنبية في الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا
وفي تأسيس مؤسسات الحكامة تسيرها جهة غير منتخبة و التي تشرع ولا تخضع للمساءلة. فوزير التعليم عندنا لا يقدم ولا يؤخر مكبل بتعليمات فوقية و بمخططات استراتيجية بعيدة المدى تفوق مكوثه في الوزارة، فيعمل على تنزيلها و أجرأتها ويخلفه من بعده موظف سام مثله لينهي ما بدأ سالفه.
اللغة العربية ضحية التعليم المعاق ومزاعم الميثاق
أريد للغة العربية أن لا تزيد على حجمها ومستواها الذي وصلت إليه اليوم، كما أن محدودية الإبداع المغربي ضحية من ضحايا التعليم المعاق بسبب سياسات الإخفاق، فكون خطة استراتيجية تسمى ميثاقا لعمري إن هذا لبهتان و زور. لأن الميثاق من وثّق يوثق بمعنى ثقة متبادلة وعهد ينطلقان من قناعة الفاعلين بالعمل المشترك لتجاوز الأزمة في البلاد، فهو ينضج على أرضية التوافق السياسي لا الإيديولوجي والسلمية ونبذ العنف في تسطير شروط الميثاق بدون ابتزاز. وهذا مبتغى كل حر تواق للحرية في مغرب يسع الجميع. فأين هو من ميثاق التربية والتكوين وما شابهه من هذا؟ والكل يعلم صيغة وظروف النشأة وتشكيل فريق “ميثاق التربية والتكوين” وغيره كلجنة إعداد مشروع النموذج التنموي.
إن الهوية واللغة و الحرية،لا بد لها من مدافعة أهل الباطل لباطلهم ولا بد من اجتماع وحوار وطني للقوى الحية والحرة في البلد،وديباجة مشروع مجتمعي حالم إلى واقع معاش بدون شروط ولا وصاية من أحد.
كثير من مثقفينا عند تحليلهم لمعضلة سياسية ما أو مجتمعية، يشخصون و لا يحللون تحليلا موضوعيا عميقا و يحجمون عن ذكر مكامن الخلل بدقة، مخافة تبعات كلمة الحق،فهم كمن يقول أن الظالم المستبد إذا اجتهد وأخطأ له أجر ويكتفون بقول إن التاريخ لا يرحم فهو كفيل بأن يعاقب الظالمين. وهذه منقصة في حقهم لأن الأعطاب ستبقى ولا تزول. وأن الظالم إذا لم يؤخذ على يده استشرى ظلمه. وأي ظلم عندما تسرق ثقافة الأمة؟ وأي ظلم عندما تمسخ التربية في الأمة؟ وأي ظلم عندما تسرق مقدرات الأمة؟ وأي ظلم عندما تذل الأمة؟
ابتليت الأمة في العصر الحديث بضعف أبنائها و عجز علمائها عن نصرة دينهم، وانشغالهم بالمطالبة بتحسين معاشهم اليومي، فكيف لهم باستنجاد لغتهم؟
إن مظاهر الغزو الثقافي الغربي سلب الأمة سيادتها، فالتاريخ عندنا يدون بتاريخ النصارى بدل الهجري ولا تكاد تجد وصفة طبية ولا دكانا في حي فقير معدم إلا وكتب عليه اسما فرنسيا. فاللغة الفرنسية جاثمة على كل لسان وحاضرة في جميع مظاهر الحياة وهذا توصيف ابن خلدون الصادق عن نحلة الغالب في البلدان المغلوبة.
تحرير اللغة العربية من الشوائب والإقصاء وجعلها لغة حية و متطورة وعالمية،هو تحبيبها إلى أهلها وإخضاعها لمفاصل الحياة ومعترك العلوم. فمنشأ الفصاحة تبدأ بتعلم القرآن الكريم أولا حتى تكون لغة تحمل قيما ولغة علم ليس بالمعنى التوليدي توليد الألفاظ، فالمعلوم أن كل من اخترع شيئا نسبه إلى لغته وفرضها على اللغات الأخرى، فتصبح تابعة لا متبوعة. فما علينا إلا ان نطور أنفسنا فتتطور معنا لغتنا إن الذي ملأ اللغات محاسنًا جعل الجمال وسره في الضاد.(11)
1- ميثاق التربية والتكوين
2-نفس المصدر
3-الرؤية الاستراتيجية 2015- 2030
4-نفس المصدرالسابق
5-الاشتقاق والتعريب كتاب
6-كتاب الاشتقاق والتعريب ص144
7 – عبدالسلام ياسين العدل: الإسلاميون والحكم ص 509.
8 – محمد عابد الجابري(2007)
9 – اليونسكو- أثناء تخليدها لليوم العالمي للغة الأم في 21فبراير 2016
10 – رئيس الائتلاف الوطني من أجل اللغة العربية السيد بوعلي في تصريح لهسبريس
11 – احمد شوقي