ويبقى الشعر
بقلم: د.حسن عليّ شرارة
كُنا صِغارًا وكانتْ كلُّ ثروتِنا*بيتًا مِن الشِّعرِ مَن غنّاهُ أغنانا
أتساءلُ أمامَ هذا الكمِّ الهائلِ مِنَ النّصوصِ الشّعريّةِ الّتي تنهمرُ يوميًّا على مواقعِ التّواصلِ الاجتماع يِّ: أينَ الشّعرُ مِن الإلهامِ؟ فقد غلبتِ الصّنعةُ والتّكلّفُ، وصارتِ الأولويّةُ عندَ “المُتشاعرينَ” أن يكتبوا، هكذا لـمجرّدِ الكتابةِ، حتّى وإن كانَ الرّأسُ فارغًا والقريحةُ مُجدبةٌ!
إنّهم يكتبونَ متّى شاؤوا، وأيّانَ شاؤوا، بل إنّكَ لـتجـدُ قلمَهم يُحبِّـرُ القصائدَ متى اعتَـرتهْم حاجةٌ إلى نشـرِ “قصيدةٍ”، لا سيّما أنّنا نجدُ كثيرًا مِن القصائدِ أو النّصوصِ “الشّعريّةِ” مِن فـرطِ هذيانِها وكأنَّ كلماتِها قد تراكبتْ وتراكمتْ وسدّتْ فراغًا في المكانِ.
وهنا، لا أقصدُ بالتّحديدِ ما ذهبَ إليهِ أفلاطونُ مِن أنَّ الشّـاعرَ، وهوَ يُبدعُ في نظمِ قصيـدةٍ، فإنّهُ يدخلُ في نوبةٍ مِن الجنونِ، فيغيـبُ عقلُه تمامًا، بمعنى أنّه يُبدعُ بتدبيرٍ إلهيٍّ محض، دونَ أن يكونَ واعيًا بما يفعلُ! ولا أذهبُ إلى ما ذهبَ إليهِ رهينُ المحبَسينِ أبو العلاءِ المعرّي مِن أنّ الشّعرَ نوعٌ مِن السِّحرِ، وأنّ الشّاعريّةَ هيَ في إحدى تجلّياتِها وحيٌ شيطانيٌّ؛ بل إنّني أعتقدُ، كما الكثيرُ مِن النُّقّادِ، مِن أنّ الإلهامَ لا يصدرُ عن منابعَ ماورائيّةٍ، بل ينبجسُ مِن القلبِ، ويتفاعلُ معَ الوجدانِ، فهوَ أقربُ ما يكونُ عمليّةٌ ذهنيّةٌ إبداعيّةٌ واعيةٌ أو لا واعيةٌ.
أنا أؤمن بالإلـهام، ولاسيّما في الشّعر؛ لأنّني خبرتُـه وعايشتُـه من تجارب شخصيّـة؛ فأنا، حين أُغمض جفنـي، وأُسـدل هُدُبي، أسمع هامسًا يهمس لي بومضاتٍ خاطفةٍ من معانٍ شفيفـةٍ، وأحيانًا أجد المعنـى يتمثّلُ خلقًا أدبيًّا في نسيـجٍ شعريٍّ متكامل.
هذا الرّأيُ نقلتُه إلى أحدِ الأصدقاءِ ممّن أثـقُ بشـاعريّتِه وأدبيّتِه، فضحكَ طويلًا ثمّ أعربَ قائلًا: “الشّعرُ الآنَ يا عزيزي هو أن تجلسَ متى شئتَ، وتُرتّبَ ما يعـنُّ على خاطرِك مِن الكلماتِ؛ ثمّ تصنعُ مِنهـا” قصيدةً”. فأردفـتُ مُسـتغربًا: “والإلهامُ..؟” فقالَ:” ذهـبَ معَ الشّنفرى… ذهبَ إلى وادي عبقرَ!” فعلّقتُ قائلًا: “إنَّ الإنسـانَ، حينما يشـعرُ برغبةٍ إلى نظمِ قصيدةٍ؛ فإنّه يدخلُ في حالةِ انفعالٍ غريبـةٍ، لينتهيَ أغلبَ الأحيانِ إلى حالـةٍ من البكاءِ، وقد يصلُ إلى حالةٍ مِن النّشيجِ من جرّاءِ رعشةِ “الخَلقِ”. إنّها حالةٌ سرياليّةٌ تُولّدُ لحظاتٍ مِن انعتاقِ الرّوحِ وتجلّياتِ المعنى والتّماهي معَ الكائناتِ المُعذّبةِ في القصيدةِ!”
وما يُكتبُ الآنَ مِن نصوصٍ “شعريّةٍ”، أعادني إلى اسـتقراءِ الفكرةِ مِن جديدٍ، ومناقشةِ واقعِ الشّعرِ وأحوالِه في ظلِّ هذا الكمِّ الهائلِ الّذي غثُّه أكثرُ مِن سَمينِه، وأُجيـزُ لنفسي أن أطرحَ تساؤلي: “هل الشّعرُ إيحاءٌ أم صنعةٌ.. أم كلاهما؟”
وهنا لا بدَّ مِن الاتّفاقِ على الدّلالةِ الحقيقيّةِ الّتي تُؤدّيـها كلمتَـا “إيحاءٍ” و”صنعةٍ”، وبعدَ ذلكَ نتعاملُ بثقافةٍ ومهارةٍ لا بإيحاءٍ وصنعـةٍ. فالمهارةُ يُمكنُ أن تعطيَ إنتاجًا مصنوعًا ومُخلّـقًا بصورةٍ جيّدةٍ، أيّ بفنٍّ متقدّمٍ ومُتقنٍ، والمسألةُ الثّقافيّةُ هيَ وراءَ تقدّمِ الموضوعِ ونوعِه، والجانبُ الشّخصيُّ (الذّاتيّ) هوَ في الأخيرِ صاحبُ القرارِ.
فكلُّ أكاديميّاتِ الدّنيا وكليّاتِها ليستْ بقادرةٍ على خلقِ شاعرٍ واحدٍ؛ نعم، هيَ قد تصقلُه وتؤهّلُه وتشجّعُه وتشذّبُه، لكن بعد أن ينطُقَ بموهبتِه الّتي تنمو معَ خلاياهُ ومعَ محاولاتِـه الأدبيّـِة. فالشّعرُ ليسَ بدلةً نلبسُها ساعةَ نشاءُ؛ بل هوَ الجِلدُ الّذي يلبسُنا ثمّ ينمّيهِ ويُحلّيهِ الغِذاءُ، أي ينمّيهِ ويُحلّيهِ ويُغذّيهِ بالزّادِ المعرفيّ. ولا بدّ للشّاعرِ مِن الجدلِ؛ فإنّه لو كانَ قاصرًا في رصـفِ مفردةٍ جنبَ أُخرى بما يُحدثُ الصّعقةَ، يكونُ خاويًا مِنَ الصّنعةِ وخاليًا مِن الإيحاءِ.
فالشّاعرُ الموهوبُ؛ هوَ القادرُ على التّمعّنِ في شعرِه، والتّمرُّسِ في خلقِ الصّورِ الفنّيِّة الّتي تعلو بالخيالِ إلى مراقيَ عظيمةٍ، وهو أمرٌ يأتي بالدّربةِ والممارسةِ. ولكن، من دُونِ الموهبةِ الموجودةِ أساسًا لدى الشّاعرِ ما كانَ لهذهِ الدّربةِ والممارسةِ أن تُغنيَ شيئًا.
والشّعرُ بدايةً يَرتكزُ بالدّرجةِ الأساسِ على عوالمِ الإيحاءِ الّتي تتطلّبُ مِن الشّاعرِ أن يكونَ ذا أفقٍ وخيالٍ واسعَـينِ لا تحدُّهما حدودٌ، يستلهمُ منهما كلَّ جديدٍ مُطرّزٍ بالغرابةِ والجاذبيّةِ. ولكن، رغمَ كلِّ هذا؛ أجدُ أنّ الصّنعةَ واجبةٌ في كتابةِ الشّعرِ؛ لأنَّ الإيحاءَ بمفردِه لا يكفي لكتابةِ قصيدةٍ تمتلكُ المواصفاتِ المطلوبةَ؛ فبالصّنعةِ يكونُ الشّاعرُ مُحترفًا في توظيفِ الإيحاءِ بشكلِ جماليّةٍ يستنفرُ الحواسَّ، ويدعو إلى الانبهارِ؛ لأنّ الشّعرَ إذا كانَ مُجرّدَ صنعةٍ تخلو مِن الإيحاءِ؛ فإنّه يُصبحُ مِهنةً تُشبهُ مِهنةَ البنّاءِ الّذي يرصفُ الطابوقَ بشكلٍ مُنظّمٍ، ولكنْ يفتقدُ إلى الجماليةِ والزّخرفةِ.
والشّعرُ قبلَ كلِّ شيءٍ موهبةٌ ثريّةٌ وتجربةٌ عميقةٌ وإحساسٌ جُوّانيٌّ مُرهـفٌ، وخيرُ دليلٍ على ذلك أنّ هناكَ مَن أنفقوا أعمارَهم في محاولةٍ منهـم ليكونوا شعراءَ ولم يُوفّقوا، فيما حفظَ التّاريخُ أسماءَ شعراءٍ ظلّت أعمالُهم خالدةً، وما كانوا يملكونَ أكثرَ مِن موهبتِهم، وحتّى الصّنعةُ في هذا المعنى هِي ثمرةٌ للموهبةِ.
والشّعرِ رسالةٌ، والشّاعرُ رساليٌّ، وإنْ خلتْ مضامينُ شعرِهِ من تلكَ القِيمةِ، وقصّرَ الشّاعرُ في تأديةِ دورِهِ في السَّعي إلى نُصرةِ القضايا المُحقّةِ على المستوياتِ كلِّها؛ لتحقيقِ مآربَ شخصيّةٍ، ومنافعَ دُنيويّةٍ، ولم يُبادرْ إلى تكريسِ القِيمِ والمبادئِ السّاميةِ، وإلى الدّفاعِ عن معاناةِ النّاسِ جماعاتٍ وأفرادًا، والتّعبيرِ عن الحبِّ والحقِّ والجمالِ، كانَ شعرُهُ آنيًّا لا قيمةَ لهُ، ولن يدخلَ في ذاكرةِ الأجيالِ.
والشّعرُ عصيٌّ عن التّـعريفِ، وعندما يُعرَّفُ الشّعرُ يضيقُ. الشّعرُ لا يخرجُ مِن القلبِ، ولا مِن العقلِ، بل يأتي مِن العالمِ ويذهبُ في العالمِ. الشّعرُ انطلاقٌ لا يعرفُ الوصولَ… الشِّعرُ لا يتعبُ ولا يَملُّ، إنّه شبابٌ دائمُ الطّفولةِ.
كلُّ القصائدِ الّتي كُتبتْ، والّتي ستُكتبُ هيَ محاولاتٌ لفتحِ البابِ الكبيرِ.
الشّعرُ لا يسقطُ، بل الشّعراءُ، الشّعرُ لا ينتهي…وحدَه الشّعرُ يملأُ الفراغَ.. .وحدَه الشّعُر يدخلُ في قلبِ العدمِ، ويغيّرُ في أشيائِه. الشّعرُ ثباتُ التّحوّلِ..
الشّعرُ في الماءِ الأوّلِ، وفي الضّوءِ الأوّلِ..
الشّعرُ أرقُّ مِن الفيءِ، وأرقى مِن الغيابِ.
تارةً يقطعُ الوقتَ، وتارةً يقيسُ ثقلَ النّارِ وحجمَ الصّوتِ، وتارةً ينظرُ في مرآةِ ذاتِه فتسكنُه الدّهشةُ الأبديّةُ.
الشّعرُ هوَ الحياةُ في شجرةِ الحياةِ الكُبرى، يسكنُ الشّعرُ حتّى في مناماتِ المَوتى..
فالشّعرُ ذاكرةُ الكونِ.
انتبهوا جيّدًا؛ فغدًا قد لا يبقى سوى الشّعرِ للحياةِ الأخرى؛ لأنَّ في الشّعرِ وحدَه مجدَ الشّعرِ.
فلولا خِلالٌ سنَّها الشِّعرُ ما درى**بُناةُ العُلا مِن أينَ تُؤتى المكارمُ