منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

(10) علاء الدين الباجي (ت 4 71 هـ) |جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب

الدكتور مصطفى العلام

0

(10) علاء الدين الباجي (ت 4 71 هـ)

جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب

الدكتور مصطفى العلام

 

لازلنا نتحدث عن جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب،حيث سنخصص الحلقة العاشرة للحديث عن ‘علاء الدين الباجي ‘الذي عاش في أواخر القرن السابع الهجري وبداية القرن الثامن الهجري، وتفرد عن العلماء الذين سبقوه بتخصيص كتاب خاص لنقد الأسفار الخمسة المشكلة للتوراة. وهذا هو السبب الرئيسي في اختياره ضمن هذه السلسلة المخصصة للحديث عن جهود العلماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب ومؤلفاتهم التي اشتهروا بها.

التعريف بعلاء الدين الباجي (ت 4 71 ه) [1] :

ـ نسبه وولادته : هو عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن خطاب الشَّيْخ الإِمَام عَلَاء الدّين الْبَاجِيّ إِمَام الْأُصُولِيِّينَ فِي زَمَانه وَفَارِس ميدانه وَله الباع الْوَاسِع فِي المناظرة والذيل الشاسع فِي المشاجرة وَكَانَ أسدا لَا يغالب وبحرا تتدفق أمواجه بالعجائب ومحققا يلوح بِهِ الْحق ويستبين ومدققا يظْهر من خفايا الْأُمُور كل كمين.

مولده سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة . وَولي قَضَاء الكرك قَدِيما ثمَّ اسْتَقر بِالْقَاهِرَةِ.

ـ علمه : وَكَانَ الْبَاجِيّ أعلم أهل الأَرْض بِمذهب الْأَشْعَرِيّ فِي علم الْكَلَام وَكَانَ هُوَ بِالْقَاهِرَةِ والهندي بِالشَّام القائمين بنصرة مَذْهَب الْأَشْعَرِيّ والباجي أذكى قريحة وأقدر على المناظرة…

وَكَانَ فَقِيها متقنا سَمِعت بعض أَصْحَابه يَقُول كَانَ الْبَاجِيّ لَا يُفْتِي بِمَسْأَلَة حَتَّى يقوم عِنْده الدَّلِيل عَلَيْهَا فَإِن لم ينْهض عِنْده قَالَ مَذْهَب الشَّافِعِي كَذَا أَو الْأَصَح عِنْد الْأَصْحَاب كَذَا وَلَا يجْزم.

تفقه على شيخ الْإِسْلَام عز الدّين بن عبد السَّلَام بِالشَّام فَإِن الشَّيْخ عَلَاء الدّين مبدأ اشْتِغَاله فِيهَا. وَكَانَت بَينه وَبَين الشَّيْخ محيي الدّين النَّوَوِيّ صداقة وصحبة أكيدة ومرافقة فِي الِاشْتِغَال…

وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام تَقِيّ الدّين بن دَقِيق الْعِيد كثير التَّعْظِيم للشَّيْخ الْبَاجِيّ وَيَقُول لَهُ إِذا ناداه يَا إِمَام

سَمِعت الشَّيْخ الإِمَام رَحمَه الله يَقُول كَانَ ابْن دَقِيق الْعِيد لَا يُخَاطب أحدا السُّلْطَان أَو غَيره إِلَّا بقوله يَا إِنْسَان غير اثْنَيْنِ الْبَاجِيّ وَابْن الرّفْعَة يَقُول للباجي يَا إِمَام وَلابْن الرّفْعَة يَا فَقِيه. وَكَانَ إِلَيْهِ مرجع المشكلات ومجالس المناظرات وَلما رَآهُ ابْن تَيْمِية عظمه وَلم يجر بَين يَدَيْهِ بِلَفْظَة فَأخذ الشَّيْخ عَلَاء الدّين يَقُول تكلم نبحث مَعَك وَابْن تَيْمِية يَقُول مثلي لا يتكلم بَين يَديك أَنا وظيفتي الاستفادة مِنْك.

وَكَانَ من الْأَوَّابِينَ الْمُتَّقِينَ ذَوي التَّقْوَى والورع وَالدّين المتين.

ـ كتبه: وَمَعَ اتساع بَاعه فِي المباحث لم يُوجد لَهُ كتاب أَطَالَ فِيهِ النَّفس غير كتاب الرَّد على الْيَهُود وَالنَّصَارَى بل لَهُ مختصرات لَيست على مِقْدَاره مِنْهَا كتاب التَّحْرِير مُخْتَصر الْمُحَرر فِي الْفِقْه ومختصر فِي الْأُصُول ومختصر فِي الْمنطق قيل مَا من علم إِلَّا وَله فِيهِ مُخْتَصر. والإمام السبكي  يقصد – بلا شك – بهذا الكلام  كتابه هذا المسمى “على التوراة” ، فإن فيه نقدا للأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم التي يرى اليهود والنصارى أنها توراة موسى ، كما أن الباجي تعرض بين ثنايا الكتاب كثيرا لعقائد النصارى وتفنيدها لإبطالها ..

وفاته: وبعد حياة طويلة بلغت ثلاثا وثمانين سنة انتقل الشيخ  ‘الباجي’ إلى رحاب مولاه فِي سادس ذِي الْقعدَة سنة أَربع عشرَة وَسَبْعمائة.

ـ كتابه : على التوراة[2]

اهتم الباحثون ‘بالباجي’ وكتابه وجعلوه ضمن مؤلفات القرن السابع الهجري ـ رغم أنه عاش أربع عشرة سنة في القرن الثامن الهجري ـ . والسبب في ذلك أن ‘الباجي’ ذكر في آخر كتابه على أنه «فرغ من تأليفه في العشر الأواخر من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وست مائة».[3]

كما أن ‘الباجي’ لم يتفرد في كتابه هذا بالرد على أهل الكتاب، فقد سبقه  ـ كما رأينا ـ علماء آخرون منهم ‘الجويني’ و’ابن حزم’، لكن وجه التفرد في كتاب ‘الباجي’ (على التوراة) هو أنه الكتاب الوحيد المكرس من ألفه إلى يائه لنقد متن الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم. وهي الأسفار التي اشتهرت بين علماء المسلمين القدامى باسم: التوراة التي بيدي النصارى. وعرفها ‘الباجي’ «بالتوراة التي بيد نصارى الروم الملكانية ، وهم الذين كان بينهم ينتقد توراتهم » [4].

صحيح أن ‘الباجي’ قد سبقه إلى نقد الأسفار الخمسة ‘ابن حزم’ و’الجويني’ وغيرهما ، لكن الذي يميز كتاب ‘الباجي’ “على التوراة” هو أن :

ـ  ‘ابن حزم’ جاء نقده للأسفار الخمسة ضمن فصل خاص، وهذا الفصل  بدوره  كان جزءا فقط من الموسوعة التي ناقش فيها ‘ابن حزم ‘كافة التيارات الفكرية والمذاهب والملل والنحل .

ـ أما ‘الجويني’ وإن كان قد خصص كتابه لما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل، إلا أن الكتاب جاء مختصرا غاية الاختصار، واكتفى ‘الجويني’ ـ كما رأينا ـ فقط بإبراز التفاوت بين النسختين العبرية واليونانية في أعمار البشر حتى عصر إبراهيم ـ عليه السلام  ـ ، ولم يكن الكتاب مخصصا للعهد القديم وحده .

ـ أما كتاب ‘الباجي’ الذي بين أيدينا فهو مخصص لنقد متن الأسفار الخمسة دون سواها ، مما أعطى للمؤلف الحرية الكاملة  والتركيز المطلوب لتوجيه نقده الموضوعي للنصوص التوراتية ، مبينا التناقض الحاصل بينها، و مصادمتها للعقل، ومنافاتها لجلال الألوهية ومقام النبوة .

ـ كما أن ‘الباجي’ ركــز فــي نقــده للتــوراة علــى الجوانــب اللفظيــة واللغويــة، فهــو يقــول: »فإنـي نظـرت فـي تـوراة موسـى عليـه السـلام المعربـة التـي بيـدي النصـارى الملكانيـة علـى مـا زعمـوا، وهـي خمسـة أسـفار، فسـنح بخاطـري ً أسـئلة علـى ألفاظهـا، فذكرتهـا علـى ترتيبهـا«. وشرح ‘الباجــي’ بوضوح التناقــض الداخلــي بيــن نصــوص التــوراة، وأشــار ً إلـى وجـود روايتيـن لقصـص التـوراة وضعتـا جنبـا إلى جنب.  (ص: 31- 91)

ومن هذا المنطلق لا توجد أدنى مبالغة في هذا التقدير للكتاب ولصاحبه،خاصة إذا علمنا أنه قد نقد مائة وثمانية وثلاثين موضعا في سفر التكوين وحده ، بل في الموضوع الواحد يذكر عدة انتقادات،لا تقل عن اثنين أو ثلاث، وربما تزيد.

وقد اشتهر ‘الباجي’ بالاختصار في جل كتبه مخافة أن يتسرب إلى قارئه الملل والنفور، وهذا مايشير إليه بعد أن وصل إلى الإصحاح الثامن عشر في الترتيب الحالي لسفر التكوين  بالقول: (ولنقتصر من الآن على الرد على بعض ما يحتمله لفظ التوراة من الأسئلة حذرا من التطويل ” ) [5]. وهذا ما سنراه جليا في نقده للأسفار الخمسة:

ـ نقد سفر التكوين : فبعد مائة موضع واثنين في الإصحاحات : من الأول حتى الثامن عشر( ص19ـ 72)  ، يكتفي بستة وثلاثين موضعا فقط في الاثنين والثلاثين إصحاحا الباقية(ص:73-ص:87). وهذا يبين التفاوت بين التفصيل الكثير قبل حديثه عن الاختصار والإيجاز الشديد بعده.وهذا يبين أيضا المجهود الهائل الذي قام به الباجي، في المواضع المائة الأولى التي شغلت الصفحات وكذا في المواضع الباقية  في هذا السفر .

ـ نقد سفر الخروج: ثم يسير على الوتيرة نفسها في الفصل الذي خصصه لنقد سفر الخروج، فيكتفي بسبعة وثلاثين موضعا دون تفصيل (ص 98 :1 0 1  ) .

ـ نقد سفر اللاويين: ثم يتناقص العدد إلى اثنين وعشرين فقط في سفر اللاويين (ص 103 : 109) .

ـ نقد سفر العدد: ورغم ارتفاع العدد إلى ستة وعشرين موضعا في نقد سفر العدد ( ص:111-125 ) إلا أنه كان يجب أن يرتفع أكثر من ذلك لولا جنوح ‘الباجي’ إلى الاختصار أكثر خوفا من الملل والإطالة على القارئ ، وهذا واضح تماما في تعقيبه على قصة ‘بلعام بن بعور’ وذكر بأن فيها تطويلات لا نرى أن نطيل بذكرها والأسئلة عليها ” )ص : 121 . وبعدها بقليل يقول : “وأما أمر القرابين ففيه من التطويلات مالا نرى أن نطيل الكتاب بالأسئلة عليها )ص: 123 .

ـ نقد سفر التثنية: ثم يختتم كتابه بالتعليق على ثلاثة وعشرين موضعا في السفر الخاص والأخير سفر التثنية، (ص 127 : 914).

وفي نقده للأسفار الخمسة المشكلة للتوراة كان ‘الباجي’ حريصا كل الحرص على إفحام خصمه ، فقد كان يورد ما يستند عليه خصومه من أدلة، ثم ينقضها ويهدم بنيانها من القواعد . ومن هنا كان يكرر كثيرا قوله : فإن قيل … قلت … ، مما يدل على سعة أفق الرجل ، وعقليته الناضجة ، وذهنه المتقد .

ـ بين ‘الباجي’ و’ابن حزم’ :

رغم أن ‘الباجي’ قد التزم بالترتيب في نقد متن التوراة، وهو بذلك سار في درب ‘ابن حزم’ ، ورغم اتفاقهما في نقد الكثير من المواضع، إلا أنه بينهما اختلافات كثيرة نوردها لما يلي:

ـ ‘الباجي’ يخصص فصلا مستقلا لكل سفر من الأسفار الخمسة ، وهذا لم يفعله ‘ابن حزم’ .

. ‘الباجي’ كان ينتقد كل إصحاح على حدة، مع ملاحظة أنه في الأسفار الثلاثة الأولى ( التكوين  – الخروج – اللاويين) ، يذكر كلمة “القراءة”، بدلا من كلمة “الإصحاح” أو” الفصل” ، ثم في السفرين الأخيرين ( العدد – التثنية )، يقول : السؤال على الفصل الأول … الخ ، وفي أحيان قليلة جدا يقول : السؤال على الإصحاح ، وهذا كله لا وجود له عند ‘ابن حزم’ .

ـ كان’الباجي’ يقارن  بين عدد من نسخ التوراة ويشير إلى أن لفظ هذه أصوب من تلك، أو العكس ، أما ‘ابن حزم’ فإنه لا يفعل ذلك.

ـ كان ‘ابن حزم ‘ يقرأ نسخة مترجمة عن العبرانية ، في حين أن ‘الباجي’ يذكر أن نقده موجه إلى النسخة التي بيد نصارى الروم الملكانية، أي : النسخة اليونانية.

ـ كان اهتمام ‘الباجي’  ينصب – في أغلب انتقاداته – على التناقض بين النصوص، ويركز بالخصوص على التناقض داخل الإصحاح الواحد أو الإصحاحات المتقاربة ، أما ‘ابن حزم ‘ فيتركز اهتمامه على الأخطاء الحسابية، والتاريخية ، والجغرافية . . . إلخ.

ورغم هذه الفروق بين ‘ابن حزم’ و’الباجي’، فإن المتأمل في كتابيهما يجد تشابها في بعض الأفكار والألفاظ،بعيدا عن مسألة التأثير والتأثر، حيث يرى ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’ أن هذا التشابه « يدل على توارد الخواطر أكثر مما يدل على التأثير والتأثر ، ومن هنا تظهر أهمية ‘الباجي’ وكتابه بصورة لا تقبل الجدل»[6].

وفي الختام يرى كثير من الباحثين في مقارنة الأديان أن ‘الباجي’ جدير  بمزاحمة ‘ابن حزم’ في مكانته العلمية ، رائدا للحركة النقدية للكتاب المقدس، ليس في المحيط الإسلامي فحسب بل على المستوى الإنساني كله. ومع هذا يتواضع في نهاية الكتاب تواضع العلماء المخلصين، حينما يؤكد أن إبداعاته النقدية  مجرد  ‘خواطر’، يسرها له المولى تبارك وتعالى (ص 194).


الهوامش

[1] تراجع ترجمته في : طبقات الشافعية 6/ 227 ، مفتاح السعادة 2/224 ، الأعلام 5/ 155-156.

[2] الإحالات المتعلقة بهذا الكتاب ترجع إلى طبعة دار الأنصار بالقاهرة ، الأولى 1400هـ / 1980م  ، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا.

[3] على التوراة، ص: 137

[4] المرجع السابق ، مقدمة المحقق، ص:11.

[5] على التوراة، ص: 72

[6] جهود علماء المسلمين في نقد الكتاب المقدس من القرن الأول حتى القرن السابع الهجري ـ عرض ونقد ـ’د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي’:  ص: 119

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.