الذوق الجمالي في القرآن وأثره على النفس الإنسانية
الذوق الجمالي في القرآن وأثره على النفس الإنسانية/ لحسن عيا
الذوق الجمالي في القرآن وأثره على النفس الإنسانية
لحسن عيا
توطئة
تحدث القرآن الكريم عن الجمال في مواضع عدة وقد تناولها الفكر الإنساني بمعزل عن الدين والحق منذ بداية الفلسفة اليونانية تناولا مضطربا بمفاهيم عدة تحولت معه هذه القيم إلى قضايا نسبية وقد أخفق الفكـر الإنساني تماما في وضع مقاييس ثابتة لها، لكن الذكر الحكيم تناول قيمة الجمال تناولا محكما وسديدا يجعلها راسخة في المجتمع البشري مما يسهل عليه تحقيق رسالته الكريمة.
وما يزال الخطاب الإلهي يغري الباحث في مجال البحوث والدراسات الفنية والجمالية والأدبية أو في مجال العلوم التطبيقية والعملية بما يحمله من خصائص المفردة القرآنية التي تتجـدد بتجـدد العصـور والصالحة لكل زمان ومكان والتي تلبي الحاجة الفكرية والعقدية في شتى مناحي الحياة، وبما تحمله من عمـق فكـري وديني ينفع المجتمع والفرد ويجعل كلام الحق من أرقى وأعظم الكلام.
فما مفهوم الذوق والجمال لغة واصطلاحا؟ وما أثر الجمال على النفس الإنسانية؟ وما بعض ميادين الجمال في القرآن الكريم؟
المحور الأول: مفهوم الذوق والجمال لغة واصطلاحا
مفهوم الذوق لغة واصطلاحا
جاء في لسان العرب: (الجمال مصدر الجميل والفعل جمُل، وقوله عزوجل: (ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون) سورة النحل الآية 6. أي بهاء وحسن، والجمال الحسن يكون في الفعل والخلق، وقد جمُل الرجل بالضم جمالاً َ فهو جميل وجمال، وامرأة جملاء وجميلة( [1] وفي المعجم الوسيط:)جمله بمعنى حسنه وزينه، ويقال في الدعاء: جمّل اللّه عليك: جعلك جميلا حسنا) [2]
يتبين لنا من خلال هذه التعاريف اللغوية أن لفظ الجمال يطلق ويراد به معنيان؛ ظاهري متعلق بجمال الهيئة، ومعنوي متعلق بالأفعال والأخلاق؛ أي أنّه يشمل جمال الخَلق والخُلق.
مفهوم الجمال لغة واصطلاحا
قد يكون من السهل وصف شيء ما أو سلوك ما بالجمال أو الإحساس به، ولكن من الصعب أن نُعرف به، ولهذا ذهب البعض إلى أنه لا يمكن أن نجد تعريفا محددا للجمال، وهذا لنسبيّته ولاختلاف المواقف وتنوع درجات الإحساس والشعور به، وبمقدار ميل كل إنسان إلى سمة جمالية معينة يؤدي ذلك إلى إصدار حكم جمالي خاص به (إنّنا في مجال البحث الجمالي أمام ظاهرة تستعصي على التعريف ما دمنا في مجال الوجدان والشعور لا في مجال العقل والقضايا المنطقية.)[3]
ولقد حاول البعض أن يضع تعريفا للجمال فعرفه بأنه (الإحساس الذي يبدو عندما يبلغ الشيء قدرا من الإتقان والكمال) [4] وعرفه بعضهم بأنه: (إدراك للعلاقات المريحة التي يستجيب لها الإنسان في شتى العناصر) [5] وهذا تعريف بأهم أجزاء الشيء الذي يراد معرفته، فهو يشير إلى التناسق الذي يعتبر من أهم خصائص الشيء الجميل.
مفهوم الذوق لغة:
وردت كلمة الذوق في معاجم اللغة على أنها الحاسة التي تميز بها الخواص الطعمية للمواد بواسطة الفم، جاء في لسان العرب :”الذوق مصدر ذاق الشيء يذوقه ذوقا وذواقا ومذاقا،فالذواق والمذاق يكونان مصدرين، ويكونان طعما كما تقول: ذواقه ومذاقه طيب، والمذاق طعم الشيء، والذواق :هو المأكول والمشروب، والذوق يقع على الاسم والمصدر، ما ذقت ذواقا ؛أي شيئا، وتقول ذقت فلانا وذقت ما عنده؛ أي خبرته، والذوق يكون في ما يكره و يحمد…ومن المجاز أن يستعمل الذوق فيما يتعلق بالأجسام من المعاني كقوله: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) الدخان، الآية 46.وقوله تعالى: (ألم ياتكم نبأ الذين كفروا من قبلهم فذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم) التغابن الآية 5. ويقال ما ذقت ذواقا؛ أي شيئا وهو ما يتعلق بالطعام[6] ، وفي المعجم الوسيط: “ذاق الطعام ذوقا وذواقا ومذاقا: اختبر طعمه، ويقال: ما ذقت نوما، أذاق فلان كذا جعله يذوقه، ويقال أذاقه الله الخوف وغيره: أنزله به، وتذوق الطعام ذاقه مرة بعد مرة، ويقال تذوق طعم فراقه، ودعني أذوق طعم فراقه.”[7]
مما سبق نجد أن لفظ الذوق يراد به المعنى المعجمي كحاسة لتذوق طعوم المواد المختلفة، ويراد بها أيضا المعنى الاصطلاحي، وهو إدراك المواقف الحياتية المختلفة بما تحتويه من معان وأفكار وأحاسيس، أما الذين حاولوا قصر معناه على ما يكون بالفم فقط فهذا تضييق منهم.
مفهوم الذوق اصطلاحا:
الذوق هو تلك الهبة الطبيعية الكامنة في نفوسنا والتي تدفعنا إلى تذوق الجمال بمعناه العام، يقول أحمد الشايب معرفاً الذوق: “هو ذاك الاستعداد الفطري المكتسب الذي نقدر به على تقدير الجمال والاستمتاع به ومحاكاته بقدر ما نستطيع في أعمالنا وأقوالنا وأفكارنا”[8] فهو إذن أوسع وأشمل نطاقا من أن يحصر في الفن، وبهذه النظرة نستطيع أن نصل بكلمة الذوق إلى معنى أشمل وأوسع نطاقا عندما نتصور الذوق على أنه ليس فقط الاستجابة الجمالية للعمل الفني أو للعلاقات الجمالية الموجودة في الطبيعة، ولكن على أن يتعدى ذلك لتشمل هذه الاستجابة الجمالية كل نواحي الحياة وكل ما تمر به في حياتنا من خبرات ومواقف، وعندما يصبح الجمال سلوكا عاما، وسمة غالبة تصبغ كل تصرفاتنا بصبغتها” [9] فالتصوير الفني الذي هو أحد أهم مجالات الجمال القرآني “لا يجدي في تذوقه إلا الذوق، وطول الممارسة الأدبية، والعناية بإبراز خصائصه الجمالية، بالنظر العميق، والشعور الرقيق.”[10]
المحور الثاني: أثر الجمال على النفس الإنسانية
لما كان لعمق الإحساس الجمالي تأثير على النفس الإنسانية، لم يفت القرآن الكريم هذه المسألة، إذ عرضها من خلال صور ظهرت فيها وقوع النفس تحت هذا الإحساس وسنحاول الوقوف على بعض منها انطلاقا من قصص بعض الأنبياء عليهم السلام.
قصة الملكة بلقيس مع سليمان عليه السلام:
ذكر القرآن الكريم أن ملكة سبأ أوتيت من كل شيء، حين دعاها سليمان وأعد لها قصرا عظيما من الزجاج الخالص وأجرى من تحته الماء، فلما رأته لم تشك أنه ماء فكشفت عن ساقيها ولم تر الزجاج الذي بني عليه، فدهشت لأنها كانت أمام مشهد فيه روعة الفن والجمال، وإزاء هذا الجمال الذي أخذ بمجامعها أعلنت إسلامها لله مع سليمان، يصور الله لنا هذا المشهد فيقول: (قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير) النمل الآية 45. وسياق هذه القصة أن سليمان عليه السلام أعد لملكة سبأ مفاجأتين علها تسلم وجهها الله، فبعد مفاجأة العرش أتاها بهذا العرش العظيم، فلما أتته “كانت المفاجأة قصرا من البلور، أقيمت أرضيته فوق الماء، وظهر كأنه لجة، فلما قيل لها: ادخلي الصرح، حسبت أنها ستخوض تلك اللجة، فكشفت عن ساقيها، فلما تمت المفاجأة كشف لها سليمان عن سرها (قال إنه صرح ممرد من قوارير). سليمان الآية 45 فهذه القصة تبين بوضوح أن الجمال أخذ بمجامع هذه الملكة، فقادها إلى أن تسلم لله رب العالمين، وهذه من أعظم آثار الجمال.
قصة يوسف عليه السلام عليه السلام:
نأخذ من هذه القصة ما صوره القرآن من أثر الجمال على أنفس نساء المدينة في وليمة امرأة العزيز، التي لما سمعت بمكرهن وقولهن: أنها شغفت بفتاها، أرسلت إليهن تدعوهن لتعذر نفسها، فقد تيقنت بأنهن سيقعن في ما وقعت فيه وأشد فواجهت مكرا بمكر وكيدا بكيد، ونقبس من الآيات ما فيه دلالة على وقع الجمال، قال الله تعالى حكاية عن نسوة المدينة: (فلما رأينه أكبرنه وقطعنا أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشر إن هذا إلا ملك كريم) يوسف الآية 31. أي قلن هذا تعجبا وتنزيها لله تعالى أن يكون خلق هذ الشخص العجيب في جماله وعفته من نوع البشر، وهو ما لم يُعهد له في الناس مثيل، إنه ليس بشرا مثلنا: (إن هذا إلا ملك كريم) أي: ما هذا إلا ملك من الملائكة الروحانيين تمثّل في هذه الصورة البديعية التي تدهش الأبصار وتخلب الألباب.
خاتمة
يعتبر القرآن الكريم معجزة كلامية تحدى الله بها فحول البلاغة وأساطين البيان، فعجزوا عن الإتيان بمثل أقصر سورة فيه، وخروا لجماله وجلاله، وإعجازه وكماله ساجدين، وعلى الرغم من أن المقصود الإسلامي في نزوله، أن يكون هداية للبشرية،ومنهج تشريع للأمة، فإنه لا يعد كتاب دين ودعوة فحسب، إنما هو أيضاً كتاب أدب وبيان، وهو بحق أبلغ كتاب عرفته الدنيا في عالم الأدب وميدان البيان، حيث وصفه المرحوم الشيخ أمين الخولي بأنه «كتاب العربية الأكبر» وأثرها الأدبي الأعظم الذي خلّد العربية، وحمى كيانها، فصار فخرها، وزينة تراثها.
[1] ابن منظور، لسان العرب، دار الحديث القاهرة، مادة جمل، ج 2 ص: 209.
[2] إبراهيم أنيس وآخرون المعجم الوسيط مكتبة الشروق الدولية 1، ط 4، ص: 136
[3] صالح أحمد الشامي، الظاهرة الجمالية في الإسلام، ط 1، 1986، المكتب السلامي سوريا، ص: 24.
[4] محمد عزيز نظمي، علم الجمال الاجتماعي، دار المعارف، القاهرة، ص: 36.35
[5] محمود البسيوني، تربية الذوق الجمالي، دار المعارف، القاهرة، ص: 16
[6] ابن منظور، لسان العرب، مادة ذوق، ج،3، ص: 536.535
[7] إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، ج 5، ص: 318:
[8] صلاح عبد الفتاح الخالدي، نظرية التصوير الفني عند سيد قطب، دار المنارة السعودية، ص: 77
[9] عيد سعيد يونس، التصوير الجمالي في القرآن الكريم، عالم الكتب، ص: 86.
[10] لمعاني الثانية في الأسلوب القرآني، فتحي عامر، منشأة المعارف، الإسكندرية، ص: 19.