منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

(4) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب ـ أبو عثمان الجاحظ (ت 255 هـ) ـ

الدكتور مصطفى العلام

0

(4) جهود علماء المسلمين في الرد على أهل الكتاب

ـ أبو عثمان الجاحظ (ت 255 هـ) ـ

الدكتور مصطفى العلام

ـ تعريف موجز بأبي عثمان الجاحظ (ت 255 هـ) [1]: هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ، أحد أعلام الثقافة العربية الإسلامية ، وأحد كبار الأدباء والنقاد والنحاة ولد بالبصرة عام 163 هـ، وكان أحد كبار أئمة  المعتزلة ، وتنسب إليه إحدى الفرق المتفرعة عنهم، وهي فرقة الجاحظية. وله مؤلفات عدة في مختلف المجالات ، لعل أشهرها البيان والتبيين و (الحيوان) و(البخلاء) ، وغيرها. وتوفي بالبصرة عام 5 5 2 ه، وقيل : عام 0 5 2 هـ- والأول أرجح.

ـ مؤلفات الجاحظ في الرد على النصارى: اشتهر بالتأليف في مجالات الأدب وغيرها، أما في مجال الديانات والعقائد، فقد كان له اهتمام في الرد على النصارى، لكن القليل من الناس من يعرف عنه ذلك ، يقول’ د.عبد المجيد الشرقي ‘: « كان لأبي عثمان الجاحظ اهتمام في الرد على النصارى ، فقد ألف في ذلك ثلاثة كتب مفردة ، بالإضافة إلى فقرات مبثوثة في مؤلفاته الأخرى المتعددة ، وفي هذا دلالة واضحة على مناخ الجدل الفكري الذي كان محتدما بين المسلمين والنصارى في هذا العصر»[2]. وليس غريبا اهتمام الجاحظ بالرد على النصارى مادام الرجل يعد واحدا من أقطاب الثقافة العربية الإسلامية. لكن كثيرا من مؤلفات الجاحظ المتعلقة بالرد على أهل الكتاب لم تصلنا أو لم تصل كاملة، وهذا ما أشار إليه ‘ د. ياسر أبوشبانة علي الرشيدي ‘ قائلا “ومما يؤسف له كثيرا أن كتاب الجاحظ لم يصل كاملا، وإنما وصلتنا أجزاء من اختيارات رجل يدعى عبيد الله ابن حصان ، ومع هذا ففيما وصلنا من رده على النصارى ما يدل على تمكن الجاحظ ومقدرته الجدلية الفائقة وعقليته العلمية الفذة»[3] . ومن أهم مؤلفاته التي وصلتنا في الرد على النصارى، كتابه ” المختار في الرد على النصارى”.

ـ كتاب المختار في الرد على النصارى [4] : يمكن تقسيم محتوى الكتاب إلى مقدمة وأربعة أقسام:

ـ ففي المقدمة القصيرة : ـ بعد الحمد والثناء ـ يذكر الباعث على تأليف الكتاب، وهو ـ كما في أغلب المؤلفات الأخرى ـ الرد على الشبهات التي أثارها النصارى في أوساط العامة والأحداث والضعفاء الذين يخشى عليهم من الالتباس الفكري نتيجة ذيوع هذه الشبهات وانتشارها ( ص: 73) .

ـ وفي القسم الأول : عرض لهذه الشبهات، وهي كلها متعلقة ببعض الإخبارات القرآنية التي ينكرها النصارى كإخباره بأن المسيح تكلم في المهد، وبأن النصارى عبدوا مريم مع عبادتهم المسيح من دون الله ، وبأن اليهود جعلوا العزير ابنا لله تعالى .. الخ (ص: 74 :97 )،ويختم هذا القسم بأنه سيجيب على هذه الشبهة، بل يعد بأن يجيب على غيرها من الأسئلة والشبهات التي اعتاد النصارى التعلق بها في هجومهم الفكري على الإسلام ، ثم يزيد فيؤكد انه سيتوجه إليهم بأسئلة يعرفون بها انتقاض قولهم وانتثار مذهبهم وتهافت دينهم.. وما من شك في أن هذا كله قد ضاع علينا لأن المختارات التي بين أيدينا لا يوجد فيها إلا نزر يسير مما وعد به الجاحظ قراءه.. وما أجمل قوله في نهاية هذا القسم : “ونحن نعوذ بالله من التكلف وانتحال ما لا نحسن ، ونسأله القصد في القول والعمل، وأن يكون ذلك لوجهه ولنصرة دينه ، إنه قريب مجيب” ،وأحسب أن دلالة هذه الكلمات على روح التواضع والإخلاص لا تحتاج إلى تعليق.

ـ القسم الثاني (ص :67ـ69) : خصص الجاحظ هذا القسم لاستجلاء الأسباب التي بها صارت النصارى أحب إلى عوام المسلمين من اليهود والمجوس، راجعا بها إلى عوامل نفسية وتاريخية في تحليل عميق وتفكير دقيق ، مبينا خطأ هذه النظرة من جانب عوام المسلمين وسوء فهمهم لآية سورة المائدة التي تصف النصارى بأنهم أقرب مودة للمسلمين، ومعددا المثالب التي يأخذها على النصارى في جوانب كثيرة: عقائدية وتشريعية وسلوكية . . إلخ.

ـ أما القسم الثالث (ص: 69 ـ 124) : فقد فند فيه الجاحظ شبهتين من الشبهات الست التي أوردها في القسم الأول ، أولاهما : مسألة كلام عيسى ـ عليه السلام ـ في المهد، والثانية : ما يتعلق بما ينسبه القرآن الكريم إلى اليهود في جعلهم  ‘عزير’ ابن الله، وقولهم ـ لعنهم الله ـ يد الله مغلولة ، وقولهم ـ قاتلهم الله ـ كما حكى القرآن على لسانهم إن الله فقير ونحن أغنياء .. . وفي حين أهمل صاحب الاختيارات ردود الجاحظ على بقية الشبه، فإنه ذكر ردود على شبهتين أخريين لم يسبق لهما ذكر في القسم الأول، تتعلق الأولى بقضية بنوة المسيح لله ـ فيما يدعيه النصارى ـ وتجويز بعض المتكلمين إطلاق لفظ البنوة على سبيل إظهار الرحمة والمحبة وحسن التربية ولطف المنزلة ، لا على سبيل الولادة واتخاذ الصاحبة ـ كما سمي الله تبارك وتعالى إبراهيم عليه السلام خليلا ـ. وقد اهتم الجاحظ بهذه القضية اهتماما فائقا إذ شغل الرد عليها ثلث صحاف رسالته التي وصلتنا ثماني عشرة صحيفة من أصل أربع وخمسين ، ذلك أن الجاحظ قد أنكر بشدة ما ذهب إليه كثيرون من المتكلمين ـ والمعتزلة خصوصا ـ في القرآن بأن إطلاق البنوة على المسيح من باب المجاز، مستدلين ببعض النصوص في العهدين : القديم والجديد، تسبغ الوصف بالبنوة على غير المسيح ـ عليه السلام ـ. ويرفض الجاحظ هذا المنطق رفضا باتا ويحمل على أصحابه بشدة، ويرد قولهم هذا بحجج عقلية ونقلية رائعة تدل على فهم ثاقب وتفكير سديد.

أما الشبهة الثانية التي اهتم الجاحظ بالرد عليها في هذا القسم ـ دون أن يذكرها في القسم الأول ـ فهي تتعلق بأن القرآن قد وصف المسيح عيسى بن مريم بأنه روح الله وكلمته ، وهذا ـ عند النصارى ـ دليل ألوهيته وبرهان ربوبيته، فيوجه الجاحظ هذه الألفاظ القرآنية توجيها سديدا في إطار التنزيه والتوحيد.

ـ أما القسم الرابع والأخير وهو أصغر أقسام الكتاب (ص: 124 : 27 1): فقد خصصه الجاحظ لتوجيه أسئلة صريحة للنصارى حول ما يزعمونه من ألوهية المسيح ـ عليه السلام ـ. ومن الملاحظ في هذا المقام أن المنهج الذي سلكه الجاحظ في عرض شبهة القوم أولا ـ ما ذكروه منها أو ما يتوقع المؤلف أن يثيروه ـ وتفنيد هذه الشبهات جميعها، ثم توجيه الأسئلة المفحمة إليهم .

كما يلاحظ أن اهتمام الجاحظ في نقد الكتاب المقدس كان موجها بالخصوص إلى الأناجيل ، نظرا لأن كتابه موجه للنصارى في المقام الأول ، ومن ثم رأيناه يطعن في سند الأناجيل، وينفي تواترها، ويشير إلى أن اختلاف روايات الأناجيل وتضاد معانيها ويؤكد القول ببطلانها. كما أن الجاحظ قد أشار إلى قضية أصبحت في العصر الحاضر شبه مؤكدة عند الباحثين النصارى أنفسهم، إذ أنه يشك في أن يكون متى ويوحنا ـ اللذان نسب لكل منهما إنجيل من الأناجيل الأربعة الحالية ـ من الحواريين. أما عن نقد المتن : فقد اهتم الجاحظ ـ بصفة خاصة ـ باستخراج بعض النصوص التي تصف المولى تبارك وتعالى بما لا يتناسب وجلال الألوهية وعظمة الربوبيه، في الأسفار الخمسة والمزامير وسفر اشعيا. (ص 6 0 1 : 07 1.).

وفي ختام الحديث عن الجاحظ وكتابه تكفي الإشارة إلى حماسته الدينية المتوقدة التي تبدو ساطعة متوهجة في قوله : ).. ولولا أن الله قد حكى عن اليهود أنهم قالوا: « إن  عزيرا ابن الله  ، ويد الله مغلولة  ، وإن الله فقير ونحن أغنياء»[5]. وحكى عن النصارى أنهم قالوا: المسيح ابن الله، وقال : ﴿وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ﴾ التوبة 0 3، وقال:﴿  لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ﴾ المائدة 73، لكنت لأن أخر من السماء أحب إلي من ألفظ بحرف مما يقولون ، ولكن لا أصل إلى إظهار مخازيهم وما يسرون من فضائحهم إلا بالإخبار عنهم والحكاية منهم (ص: 105 – 106 .

رحمك الله أبا عثمان وأجزل مثوبتك.


الهوامش

[1] تراجع ترجمته بالتفصيل في:شذرات من ذهب في أخبار من ذهب لابن العماد الحنبلي(ت 1089هـ)، تحقيق لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة في بيروت، بدون، ج 2 ص:1 2 1 – 2 2 1، ومعجم الأدباء لياقوت الحموي16/74-114 .وفيات الأعيان لابن خلكان 3/140-144.

[2] يراجع : الفكر الإسلامي في الرد عل النصارى إلى نهاية القرن الرابع العشر: د.عبد المجيد الشرقي، الدار التونسية للنشر في تونس،المؤسسة الوطنية للكتاب في الجزائر 1986م، ص: 137 ـ 138

[3] جهود علماء المسلمين في نقد الكتاب المقدس ـ من القرن الأول حتى القرن السابع الهجري ـ عرض ونقد: د.ياسر أبو شبانة علي الرشيدي،دار السحاب للتوزيع والنشر، القاهرة، ط1، 1430ه/2009م،ص:65.

[4]  المرجع نفسه ، ص:66-67-68-69

[5] يشير إلى قوله تعالى ﴿وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ التوبة :30. ، وإلى قوله جل جلاله : ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾ المائدة: 4 6. و إلى قوله جل جلاله : ﴿لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ آل عمران 181.

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.