منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

بعض تطبيقات المقاصد الخاصة للأسرة عند الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله

الأستاذة تورية البوكيلي

0

بعض تطبيقات المقاصد الخاصة للأسرة

عند الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله

بقلم: الأستاذة تورية البوكيلي

توطئة

راجع الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله التراث العلمي الإسلامي عموما والمقاصدي خصوصا في سياقه التاريخي المبني على تقويم واقع الأمة وتاريخها بمقاصد الوحي وبمقاصدها المصلحية. فبنى نظريته في المنهاج النبوي على كليات مقاصدية استمدها من القرآن الكريم والسنة النبوية، واتخذها قواعد راسخة لمشروعه التجديدي، فعمل رحمه الله على مراجعة مقاصد عدد من القضايا تطبيقا لمراجعاته المقاصدية على المستوى النظري. وعلى رأس تلك القضايا تأتي قضية الأسرة، وقد سلك في ذلك المنهجية التالية:

  1. استحضار مقاصد الشريعة ومخالفة المنهجية التي تعتمد على حرفية النص الشرعي، يقول رحمه الله “لا نتحجر على حرفية النص صُما بُكما لا نعقل مراد الله وهو المصلحة العليا لأمة رسوله[1].
  2. الابتعاد عن التقليد وسوء التأويل وضيق الفهم حيث يقول رحمه الله: “إن قراءة الكتاب والسنة قراءة من جانب واحد ومن أسافل التقليد وعبر منظار من عاش في زمانه ومكانه وأحواله ومات، ما هي القراءة الصحيحة”[2].
  3. النظر الشمولي للشريعة ولتاريخ الأمة وواقعها ومستقبلها، عبر “الفقه الكلي الذي يشمل كل العبادات الفردية والمعاملات الجزئية، في نسق واحد يؤدي وظيفة إحياء الأمة وإعادتها إلى حضن الشريعة وصراط الله[3].

وقد كانت عنايته رحمه الله ببناء الأسرة المسلمة عناية كبيرة، لما تمثله من لبنة أساس في بناء الأمة، لذلك نجده جدد في قضاياها وأعاد النظر في مسائلها، ويمكن رصد معالم هذا التجديد من خلال:

غايات البناء الأسري

يتناول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله قضية الأسرة من خلال ثلاثة أبعاد كبرى، وهي على الشكل التالي:

  1. البعد التعبدي، يتمثل في ربط الأسرة بالغايات التي خلق من أجلها الإنسان، وهي عبادة الله التي تتحقق بإزالة العادة وترك مكانها العبادة، وبإزالة المعصية وترك مكانها الطاعة، ” مهمة كبيرة تلك التي تَعْدِلُ بين قوامة الرجل وحافظية المرأة ليحمل الرجل والمرأة عبئها. هذه المهمة هي عبادة الله تعالى، تلك العبادة المعلولة بخوف العقاب الأخروي ورجاء الجنة ورضى المولى وقربه [4].
  1. البعد الوظيفي، يتجلى في ربط نظام الأسرة بالأمانة التي أوكلت للإنسان ليتحملها في الأرض وهي أمانة الإعمار التي تتحقق عبر رعاية الفطرة حفظا وإحياء وحوطا، ” ووسيلتها التربية على الاستقامة وحفظ الأمانة التي أودعها الله عز وجل بين أيدينا من هذه المولودات التي خلقها على الفطرة ونسب إلينا مسؤولية ما يصيب الفطرة من تشوه وانحراف من جراء إهمالنا[5].
  2. البعد التغييري، يتضح في ربط وظيفة الأسرة بالمقاصد الاستخلافية التي انتدب الله الإنسان لتحقيقها، حيث يصبح البيت المسلم منطلقا للتغيير المنشود، إذ منه “تنطلق القومة، إن كان البيت يسكنه مؤمنون، وكانت قلوب المؤمنين يسكنها حب الله، والخوف من الله والرجاء[6]،

قوامة الرجل وحافظية المرأة

لم ينظر الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله إلى ثنائية القوامة والحافظية نظرة تجزيئية، وإنما نظر إليهما نظرة مقاصدية من حيث هي ثنائية متكاملة، فحافظية المرأة هي وظيفتها الفطرية المكملة لفريضة القوامة على الرجل، إذ باجتماع المسؤوليتين وتكاملهما تستقر الأسرة، يقول الإمام رحمه الله: “إن القِوامة التي فرضها الله على الزوج هي أخت الحافظية التي فرضها على الزوج الآخر أمانة ومسؤولية، تُثْقِل مسؤوليتَها، ليست تخففه، الدرَجةُ التي جعلها الله للرجل ليقود السفِينة بحنكة ودراية ومداراة[7].

دلالات القوامة

القوامة مصطلح ينتسب إلى ترسانة المفاهيم التي تعكس جانبا من التصور الإسلامي للأسرة، من حيث البناء والوظيفة. وغرضها ضبط علاقة الزوجين بتقرير شرعي يسمو بوظيفتها من طبيعة العادة الاجتماعية، التي قد يقع فيها الحيف والظلم، إلى ممارسة شرعية منضبطة بضوابط الأمر والنهي الإلهيين. وأهم ما ميز تناول الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله لمفهوم القوامة ما يلي:

  1. ربطه القوامة بالمسؤولية أمام الله، فهي تكليف للرجل، حيث أوجب عليه الشارع رعاية الأسرة، يقوم على شؤونها وينظر في مصالحها، ويبذل الأسباب المحققة لسعادة أفرادها. واستمد رحمه الله هذا  المعنى من السنة النبوية قائلا: “نتأمل مسؤولية القوامة في دائرة الوصية النبوية النهائية في خطبة الوداع (الله الله في النساء) مرتفعين بتلك المسؤولية من معنى تكفل الرجل بقوته وعضليته وماله ورئاسته إلى معاني طاعة الله وطاعة رسوله ورعاية وصيته”[8] .
  2. تصحيحه لمفهوم “الدرجة”، فهي “ترجيح لكِفة الرجال في ظاهر الأمر. وهي إنما هي تثقيل لميزان الرجل بمثاقيل المسؤولية، وتخفيف عن أعباء المرأة التي ندبها الشرع لمسؤولية عظيمة يصرح بها الشرع ويلوح إليها ويضمِّنها أحكام التوزيع للواجبات والمسؤوليات بين الرجل والمرأة[9]. فيؤكد رحمه الله أن الغاية منها حماية الأسرة حتى لا تتعرض للتفكك، باعتبارها جماعة تتآلف في كنفها طبائع مختلفة متنافرة الميولات والاختيارات، لذا وجب تفويض أمرها لقائد يقوم بشؤونها. فالدرجة للرجال على النساء مزية ثابتة بالكتاب والسنة، ولقد حدّدت الشريعة معاييرها وبيّنت شروطها، وحثت الرجل بأن يكون عادلاً في تعامله مع زوجته، منصفاً في معاملتها، مراعيا حقوقها.
  3. ربطه مفهوم القوامة بالمسؤولية في مجال الكسب، معناها القيام على مصالح الأسرة بالتدبير والإعالة والإنفاق، وغير ذلك، وهذا الأمر يقتضي كما يقول الإمام رحمه الله أن تحرر المرأة من العجز والتبعية الاقتصادية، فيعطاها حق النفقة زوجا وأما، ويعطاها حق المتاع مطلقة، وأجرة كريمة عاملة، وأن تهيأ لها ظروف الاستقرار في بيتها، لأن عليها يتوقف استقرار المجتمع والدولة”[10].

دلالات الحافظية

قام الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله بنفض الغبار عن مفهوم الحافظية، وأخرجها من ضيق الفهم إلى وساعة المعنى، فالحافظية بمقتضى سياقها ومقصدها وظيفة المرأة الاستراتيجية في بناء الأسرة.  وأهم ما ميز تناول الإمام المجدد رحمه الله لمفهوم الحافظية ما يلي:

  1. مسألة الحافظية تنظمها مقاصد شرعية وكليات ضرورية، أعلاها مقصد العبودية لله تعالى، فحافظية المرأة ” لا تقصُر على حفظ حقوق الزوج بل تشمل كل حقوق الله المكلفة بها الزوج. حافظية الصالحات القانتات في المجتمع المسلم لا تقتصر على شُغل بيوتهن وإرضاء أزواجهن، بل تنطلق أولا من إرضاء الله عز وجل وترجع إليه[11].
  2. ربط الحافظية بمقاصد الشريعة الضرورية، فالمرأة بفطرتها تحفظ “الدين الذي هو رأس المقاصد وغاية الغايات، يُرْضَع من ثدي الأمهات الصالحات القانتات الحافظات. وتعهُّدُهن لجسوم الأطفال ونباتها وغذائها وصحتها كتعهدهن للعقل الناشئ، يأمرن بالحسن، ويزجرن عن القبيح، ويجبن عن الأسئلة، ويلقِّنَّ اللغة[12]. فهذه الوظائف إذا قامت بها المرأة حققت بذلك المقاصد العامة: فهي حافظة للدين بما تقيمه في نفسها وبما تعلمه لأبنائها. وهي حافظة للنفس بما تعتني بصحة الأسرة وبما تحافظ على عرضها. وهي حافظة للعقل بما تتعلم، وبما تعلمه للعقل الناشئ. وهي حافظة للمال بما تدير الشؤون الاقتصادية للبيت. وهي حافظة للنسل بما تنجبه من أطفال الذين هم مصدر الاستخلاف في الأرض.
  3. الرؤية الشمولية لمفهوم الحافظية، والتي هي مهمّة تبتدئ من البيت بإتقان المرأة لدورها الوظيفي، وتمتد إلى خارج البيت حيث تدخل المرأة في الولاية العامة مع الرجل، ولها فيها المسؤولية العظمى تأكيدا على مكانتها في واجب الحفاظ على دين الله وحمل الرسالة وإسناد البناء، وهذا ما أشار إليه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في قوله: ما هنا لكُنّ معشرَ المؤمنات من دليل يُقيلكن ويعفيكن من المسؤولية السياسية. إن كانت السنة المطهرة خصصت لكن مجالكن الحيوي حيث تزاولن أمانة الحافظية صالحاتٍ قانتات، فعموم القرآن أهاب بكن إلى تعبئة شاملة تدْعَمْنها بما يفيض من وقتكن وجهدكن بعد أداء واجبكن التربوي الأساسي “[13].

صناعة الأجيال

الأسرة هي الضامن الطبيعي لاستمرار النوع البشري، وحفظه بعد خلقه، وتحقيق العمارة والاستخلاف في الأرض. فهي مبعث ومنطلق لتربية جيل يصنع مجد الأمة بعطاءاته. وهذا لن يتحقق إلا إذا اكتمل في الوالدين الوعي بهذه المهمة، وتكاملا في وظيفتيهما التربوية، وإعدادهما القوة للتغيير التاريخي. وهذا ما أشار إليه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في قوله: “لا يمكن بحال أن نوهم أنفسنا أنه يمكن للدولة الإسلامية مهما كان سلطانها، وللدعوة ينير طريقها قرآنها، أن تقوما بشيء من ذلك والأبوان في راحة من كل مسؤولية، قد فرغا من كل هم. وقيل لهما كلام الغلط والكذب أن الدولة كافلة والدعوة كافية، فهما يفرخان للشارع ويحملان غيرهما كل البؤس الذي يعيشه المستضعفون في أعشاش الهوان[14].  وعلى هذا الأساس، فتخريج الأجيال المؤمنة القوية القادرة على خدمة أمتها رهين باستيعاب الوالدين لشروط صناعة الأجيال وتهيئتها، والتي حددها الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في:

رعاية الفطرة

صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة ميلاد الأولاد على الفطرة، فقال: “كلُّ مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يُهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء[15]، لذلك كانت مسؤولية الوالدين في رعاية الفطرة أول المسؤوليات وأهمها.  وهذه الرعاية تتم عبر ثلاث مراحل:

  1. حفظ الفطرة بغرس الولاء لله في نفوس الأطفال، وكلما كان بكورا، كان أكثر تمكنا من نفوسهم، وكلما كانت أساليبه أشد وقعا، يقول الامام المجدد رحمه الله:” إذا لم تُرضع الأم طفلها الإيمان مع الألبان، ولم يَقُدْ الأب خطى أبنائه الأولى إلى المسجد، ولم تُلَقِّن الأسرة كلمة التوحيد للصبي أوّلَ ما يلْهَجُ بالنطق، ولم يُرَدِّدْ معه الأخ والعم والخال آيات الله في غضاضة العمر، ولم تتعهده بالوصية الإيمانية القَرابة والجوار، فقد فاته إبَّان الحرث[16].
  2. إحياء الفطرة إذا أصابها تشوه وانحراف وانطمست من جراء إهمال الوالدين تربية ولدهما، ومن تأثير البيئة الخارجية كالإعلام والمدرسة والشارع. لهذا كان لزاما على الوالدين السعي لإحياء الفطرة، ومكان الأم في تحقيق هذا هو مكان الصدارة. يقول الامام رحمه الله مؤكدا على هذا الأمر: ” نَكْبَةٌ ورَقدة في الفطرة لا يمكن أن ينبريَ لها بقومة مُحْيِيَةٍ مقومة إلا أمهات صالحات قائمات بوظيفتهن الحافظية كاملة غير منقوصة. “[17].
  3. حوط الفطرة عبر الاهتمام بالمحيط التربوي للولد، يرى رحمه الله أن ثمة مؤسسات مؤثرة في شخصية الطفل تتكامل أدوارها وتتداخل تربية وتدريبا وتعليما، فالمسجد والمدرسة والإعلام تلك محاضن الإسلام محتلة اليوم بجحافل الغزاة، لابد من تحريرها وهذا ما يشير إليه الإمام رحمه الله: “الهداية والتوجيه وتربية الشخصية لها أمومة وأبوة كما لخلق الجسم أمومة وأبوة. الخلق خلق الله، والهداية هداية الله، لكن الأم والأب يحسنان رعاية الجسد وتنشِئتَه أو يُسيئانها فتَقْوى بنيَتُه أوْ تضْوَى، ذلك مسؤوليتهما. ويتخذان للنفس الجديدة والعقل المتكون والقلب الفطري مأوىً حاضِنا فيصلُح عملا، أو يتركانه فيرعَى مع الهَمَلِ هملا”[18].

تكثير نوعي

يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم أمته إلى التكاثر النوعي الذي يبهجه في معرض مكاثرة الأمم، فيقول: ” تزوّجوا الوَدود الوَلودَ فإني مكاثر بكم الأمم[19]، وهذا الأمر يحتاج إلى العمل المستمر المترابط لتربية الولد الصالح القوي الملتزم بتعاليم دينه، الفاعل في مجتمعه. وهنا تتجلى أهمية وظيفة الوالدين في صناعة الكثرة النوعية، والتي حدد الإمام رحمه الله معالمها في الآتي:

  1. محاربة الغثائية بصناعة الولد الصالح، وإعداده للدور المنتظر منه في المستقبل، عن طريق التربية المتكاملة للنشء، وفي قوله تعالى: ( كَمَا رَبَّيَانِي) ” بلاغ للوالدين ليعلما أن واجبهما وسبب استحقاقهما ليس أن يكونا وعاءً مفعولا للقدر الذي يُبرز من بين الصلب والترائب المخلوق المولود، بل السببُ ما يقومان به من التربية، تربية الجسد بالعناية المادية الصحية الغذائية، وتربية الروح والعقل والكفاآت الإنسانية والخصال الإيمانية والمروآت الخلقية والمهارات الكسبية[20].
  2. تأهيل الأبناء دعويا ليسهموا في إحياء أمتهم، وصناعة مستقبلها، ” فإن نداء المستقبل يُحيِّي المؤمنات ويُهيبُ بهن أن يكون لهن في صنع غد أفضل اليد الطولى، والكلمة المسموعة، والخِدمة التي لا يقوم بها غيرهن. ليست هذه الخدْمة تفريخ أعداد بشرية. إن كان الوَلَدُ الصالح الواحد ذخرا باقيا للآخرة وعملا يرضاه الله، فكيف بإصلاح أمة وإحيائها وصناعة مستقبلها[21].

وختاما، فالتغيير المنشود أساسه بناء أسر مستقرة مطمئنة، وتربية جيل صالح قوي مجاهد ناصر لدين الله في الأرض، قادر على حمل رسالة الإسلام، مساهمة أساسية لإحياء الأمة وانتشالها من قعر الغثائية. وهذا لن يتأتى إلا إذا تحققت معالم التجديد المذكورة سابقا، وأصبحت أسسا ومنطلقات للبناء الأسري.

والحمد لله رب العالمين.


[1] إمامة الأمة، ص232

[2] تنوير المؤمنات، ج 2، ص 236

[3] المنهاج النبوي، ص 222.

[4] تنوير المومنات ج 1، 272

[5] تنوير المؤمنات ج 2، ص 247

[6] تنوير المؤمنات، ص 217

[7]  تنوير المؤمنات ج 2، ص 195

[8] نفسه، ص 197

[9] تنوير المؤمنات ج 1، ص 147

[10] إمامة الأمة، ص 117

[11] تنوير المؤمنات ج 2، ص 83

[12] تنوير المؤمنات ج 2، ص84

[13] نفسه،  ص270

[14] في الاقتصاد، ص: 121.

[15] رواه البخاري ومسلم

[16] العدل: الإسلاميون والحكم، ص 493

[17] نفسه، ص298

[18] تنوير المؤمنات ج 2، ص 236

[19] رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي بسند حسن

[20] العدل: الإسلاميون والحكم، ص 313

[21] تنوير المومنات ج 2، ص 194/195

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.