الجمعُ التكاملي بين العِلْمين: عِلْمُ ظاهرِ الحياة وعِلْم حقيقةِ الحياة
د. فتحي حسن ملكاوي
الجمعُ التكاملي بين العِلْمين
عِلْمُ ظاهرِ الحياة وعِلْم حقيقةِ الحياة
بقلم: د. فتحي حسن ملكاوي
يتوقع من الإنسان المؤمن وهو يستجيب لدعوة الله سبحانه المتكررة بإلحاح وبأساليب ومفردات متعددة لإعمال: التفكر، والتدبر، والتبصر، والتعقل، والنظر، والفقه، والاعتبار، أن يبدأ هذه الاستجابة عبر سلسلة من مراحل التعلم والتعمق في الفهم والزيادة في العلم، تتناسب مع التفصيل الذي أوردته الآيات القرآنية في مجالاتها المختلفة: فمنها الآيات الكونية التي يقدر بعض الباحثين عددها بما يزيد عن ألف وثلاثمائة آية في القرآن الكريم، “قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ” (يونس: 101)، ومنها آيات تفصل خلق الإنسان طوراً من بعد طور، واختلاف الليل والنهار، وبناء السماوات، ومهد الأرض، ونموّ النبات، وعجائب الحيوان،…، ومقصدها الأساس هو التفكُّر، ومنها آيات القصص والتاريخ وشؤون الأقوام والأمم السابقة بما كان لها حضارات سادت ثم بادت، “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل” (الروم: 42)، وهي كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ثلث القرآن، ومقصدها الأساس هو الاعتبار، وآيات القرآن المتلوة في مجملها على تعدد موضوعاتها، ومقصدها الأساس هو التدبر: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ (محمد: ٢٤).
فالتدبُّر للآيات القرآنية بصورة عامة وللتفكُّر في الآيات الكونية منها، والاعتبار من قصص العابرين، كل ذلك يهدف إلى أن يقود في نهاية المطاف إلى الإيمان بالخالق؛ بوحدانيته وأسمائه وصفاته، ومن ثم السعي الحثيث في تزكية النفس بطلب رضوان الخالق الواحد، وتجنب سخطه.
ولكن ما الذي يحصل في الطريق إلى هذه النهاية، وأثناء السعي، وقبل الوصول؟! كيف لا يقود طول التفَكُّر والاعتبار والتدبر، أثناء ذلك السعي إلى بناء الفكر والعلم والفهم والاكتشاف؟
وكيف يتأتَّى للإنسان اكتشاف السنن وصياغة القوانين وبناء النظريات، إذا لم تكن صياغات علمية لذلك العلم والفهم والاكتشاف وما يلزم ذلك من مشاهدات وقياسات وتجاريب؟!
وما قيمة هذه العلوم والاكتشافات إن لم يصاحبها تطبيقات عملية ومنافع حقيقية تُيسِّر للسالكين سُبُل السعي في الحياة، وحمل الأمانة في الدنيا، والقيام بحق الخلافة في الأرض، وإدراك الدلالات العملية لآيات التسخير، والتبصر في آيات التمكين؟
وكيف حقق الله دعوة إبراهيم أثناء في بناء البيت الحرام، أن يجعل الله ذلك البلد آمناً يأتيه رزقه من الثمرات، إلا عن طريق رحلة الشتاء والصيف، فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف؟
فالتجارة والصناعة والزراعة وسن القوانين والتشريعات، التي تضبط الأمن وتحمي الطريق، وتنظيم تفاصيل العلاقات بين الأفراد والجماعات والدول.. وإدارة أمور الاجتماع والاقتصاد والسياسة… كلُّ ذلك علومٌ نافعة، سواءً كانت في المجالات الطبيعية، أو الاجتماعية أو النفسية أو التطبيقية، فذلك كله هو بعض ما نفهمه من عمران الأرض عمراناً مادياً ومعنوياً، امتثالاً لأمر الله بالعبادة، وبذلك تكون هذه القيم الثلاثة: التوحيد والتزكية والعمران، هي منظومة القيم العليا التي تحكم وجود الإنسان في حياته على هذه الأرض.
ولكن السؤال المقلق: لماذا لم يسبق إليها المؤمنون بالآخرة وهم في طريقهم إليها في الدنيا يتفكرون ويعتبرون ويتدبرن؟ ألم يكن بالإمكان أن تنمو هذه العلوم امتداداً للبذور التي زرعها السابقون من العلماء في أبواب فقه المعاملات؟
تُرى لو كان كلُّ ذلك من كسب المجتمع المسلم، في الوقت الذي تسير فيه القافلة، وعيونُها على نهاية الطريق إلى الله، أكان ذلك عائقاً دون الوصول؟!
سيكون في الطريق أناس يشغلهم كلُّ ذلك عن التدبر في مآلات الأمور والمصير إلى الله، وقد يصيب بعض هؤلاء السالكين من الغفلة، والغرور، والكبر، والاعتداد بعلم يعلمونه من باب “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ” وقد يكون هؤلاء أكثر الناس: ” وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ، يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا” ومع ذلك فإنَّ المؤمنين أَوْلَى بهذا العلم من غيرهم؛ لأنَّهم يجمعون عِلْمَ ظاهرِ الحياة الدنيا وعِلْمَ حقيقةِ الحياة الدنيا، وأنها طريق إلى الآخرة، ولو تعلَّم المسلمون هذه العلوم الدنيوية “وكان تعليمها وتوظيفها في مصالح خلق الله، بالصورة التي أمر بها الله، عندها ستكون علوماً نافعة، تسهم في جهود المؤمنين لإعلاء كلمة الله، وتحقيق مراده من عمران الأرض، في الوقت الذي تقود إلى إصلاح آخرة أصحابها، كما أصلحت دنياهم.
لو تحقق هذا الجمع بين التوحيد والتزكية والعمران، سوف تصبح الآيات الكونية، والآيات النفسية، والآيات الاجتماعية، والآيات التاريخية، وكل آيات القرآن الكريم عناوين لموضوعات التفَكُّر والتدبر والاعتبار، وموضوعاتٍ للمشاريع البحثية المتعمقة التي توسع فضاءات العلم يوماً بعد يوم. وتجعل الأمة المسلمة في موقع الخيرية والقيادة والريادة.
وإذا كان الله سبحانه قد ذكر – في مقام الذَّمِّ – أولئك الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون، فإن مقام الذَّمِّ يتوجّه كذلك إلى أولئك الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الآخرة وهم عن حقيقة الحياة الدنيا غافلون، فلا يؤدون أمر الله بالسير والنظر والخلافة في الأرض وعمرانها الحق والخير والعدل. بينما يتوجّه الثناء إلى أولئك الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، دون غفلة عن حقيقتها، ودون غفلة عن حقيقة الحياة الآخرة في الوقت نفسه.
وعندها سيكون من العجز أن يقول قائل من الذين يدَّعون علم الآخرة، وهم عن علوم الدنيا هم غافلون: الحمد لله! لهم الدنيا، ولنا الآخرة!
أو يقول: الحمد الله الذي سخر لنا هؤلاء الكفار الغافلين عن الآخرة، المنشغلين بالدنيا، يستخرجون من أرضنا أنواع المعادن ومصادر الطاقة والصناعة، ويبدعون لنا منها العجائب، ويوفرون لنا أطيب المآكل والمشارب، ويصنعون لنا أحسن المراكب، لننشغل نحن بالآخرة كما انشغلوا هم بالدنيا!
ألا تعساً للطاعم الكاسي!