مكانة قاعدة “سد الذرائع” في الفكر الإسلامي المعاصر
مكانة قاعدة " سد الذرائع" في الفكر الإسلامي المعاصر/ الأستاذة ثورية البوكيلي
مكانة قاعدة ” سد الذرائع” في الفكر الإسلامي المعاصر
بقلم: الأستاذة ثورية البوكيلي
من المعروف أن موضوع علم أصول الفقه” هو الأدلة الشرعية الكلية من حيث ما يثبت بها من الأحكام الكلية، والأحكام الشرعية من حيث ثبوتها بالأدلة “[1]، فالحديث عن علم أصول الفقه هو حديث عن أدلة الفقه الإسلامي، أي القواعد التي تنظمه من حيث البناء والأسس ومن حيث الاجتهاد والنظر، والتي تمكن الفقيه من التوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية. ويمكن تقسيم هذه الأحكام إلى أحكام منصوص عليها ثابتة لا تتغير، وهي المعروفة بالمعلوم من الدين بالضرورة، وإلى أحكام متغيرة وهي التي ينظر فيها الفقهاء ويستعملون قواعدهم الأصولية المختلفة في الاستنباطات الفقهية. ومن بين الأصول الشرعية التي ميزت الاجتهاد الفقهي نجد “سد الذرائع” التي حظيت باهتمام بالغ من الفقهاء قديما وحديثا، وكان لتطبيقها أثر بالغ الأهمية في مجالات الحياة العامة.
“سدّ الذرائع” المعنى والحجيّة
يعد أصل “سد الذرائع” من أصول الشريعة الإسلامية، والتي لها تأثير بليغ في باب الاجتهاد، فهو من الأصول التي يتلافى بها الفساد، ومن الطرق الوقائية التي تضمن ألا يقع الناس في المحرمات التي نهى الشارع عنها. فدعامة التعريف في الذريعة أنها هي كل مسألة ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل محظور، ومعنى ذلك أن الوسيلة إذا أدت إلى مفسدة كانت فاسدة، فوجب منع الذريعة لما ينتج عنها من مفاسد، والوسائل إذا كانت مؤدية إلى مصلحة كانت صالحة، فتكون الذريعة عندئذ غير ممنوعة. ونقل ابن حزم عن أبي محمد علي بن أحمد رحمه الله قوله: “ذهب قوم إلى تحريم أشياء من طريق الاحتياط، وخوف أن يتذرع منها إلى الحرام البحت“[2]. إذن فنحن نتعامل مع قاعدة تطبق الحالة الاحتياطية منعا للوقوع في المحظور، ومن الأمثلة الواضحة على تطبيقات هذه القاعدة؛ القول بحرمة بيع السلاح للمتقاتلين في الحروب الأهلية، فأصل بيع السلاح غير محرم، لكن حين يغدو وسيلة للمحرم وهو الاقتتال الداخلي يصبح محرما.
ووضع الفقهاء شروطا لتطبيق قاعدة سد الذرائع؛ أهمها أن تكون الوسيلة المباحة مفضية إلى المفسدة على وجه القطع أو غلبة الظن، أما إذا كان إفضاء الفعل المباح إلى المفسدة نادرا أو قليلا فلا عبرة بهذه المفسدة، وكذلك إن كانت المفسدة التي تنتج على الفعل المباح كثيرة لكنها ليست على وجه القطع أو غلبة الظن، فلا عبرة بها أيضا عند بعض الفقهاء.
مكانة قاعدة ” سد الذرائع” في الفكر الإسلامي المعاصر
لقد شغل الاجتهاد المبني على مراعاة مصالح العباد اهتماما كبيرا لدى علماء الشريعة الإسلامية قديما وحديثا، وتعددت طرق بحث أحكام سد الذرائع أو فتحها بما لا يحتاج إلى مزيد من التوضيح. لكن متغيرات العصر الحديث تجعل من قاعدة “سد الذرائع” موضوعا متجددا، لا من جهة تأصيلها وحجيتها، وإنما من جهة ضبطها موضوعيا ومنهجيا. كما تعتبر هذه القاعدة من أوسع مسالك الفعل الاجتهادي، مما يخول لها احتلال مكانة بارزة في الفكر الإسلامي المعاصر؛ ولعل أبرز مظاهر أهمية هذه القاعدة تتلخص في:
- سعة مجال تطبيقاتها، حيث قدره ابن القيم رحمه الله بالربع حيث يقول: “وباب سّد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر، ونهي، والأمر نوعان: أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان: أحدهما ما يكون المنهي عن مفسدة في نفسه،
والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة فصار سّد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين”[3].
- سعة نطاق تحقق المصلحة، حيث تأتي قاعدة “سد الذرائع” في المقام الأول للنظر في “مدى تحقق المصلحة في الحال والمآل؛ فتنفذ إلى روح النص ومقصده، وتنظر في الواقع وما يتطلبه؛ فتكشف المصلحة بعد النظر عن نفسها محققة ميسورة، تسعف بالحلول الشرعية للقضايا الملحة”[4].
- سمة المرونة والواقعية، حيث المزاوجة بين النظر في الأصول والقواعد والنظر في مآلات التطبيق العملي يظهر قدرا كبيرا من مرونة أحكام الشريعة الإسلامية، فإذا ما حدثت واقعة، “وظهر للمجتهد أن الأصل فيها الإذن، لكنها تؤدي إلى المفسدة، فله أن يحكم بالمنع منها دفعا للمفسدة. أو كان الأصل فيها المنع لكن المصلحة الراجحة تقتضي الإذن والإباحة فيفتحها”[5].
- سمة التيسير والتخفيف، حيث إن قاعدة “سد الذرائع” تقتضي مراعاة الأبعاد المختلفة ذات الصلة بالواقعة، وتظهر وجوه المصلحة تأمينا لرفع الحرج الذي تهدف إليه الشريعة الإسلامية.
أثر قاعدة ” سد الذرائع” في الفكر الإسلامي المعاصر
إننا نشهد اليوم توسعا كبيرا في تطبيق قاعدة “سد الذرائع” في معالجة وقائع العصر، وهذه القاعدة فيها قدر وفير من نسبية التخمين، الذي يخضع بدوره إلى تغيير متواصل بفعل تسارع مستجدات الحياة المعاصرة؛ مما يجعل الفقيه قد يقع في تقصير واضح في استيعاب الأبعاد ذات الصلة بالواقعة أو النازلة، وفي توظيفها كما ينبغي؛ ومن ثم قد نجد تدخل شيئ من العوامل النفسية في فهم المسألة وأبعادها وإيجاد الحل الأنسب لها، وهذا دون شك يؤثر على صحة المعالجة الشرعية المطلوبة. ومرد هذا الخلل إلى أهلية المجتهد تارة، وإلى أدوات الاجتهاد وما تقتضيه تارة أخرى؛ ومن أسبابه على سبيل المثال لا الحصر، إغفال النظر بواجب الأصول القطعية وأن الأصل في الأشياء الإباحة، وأن التحريم لا يثبت إلا بدليل صريح.
ولعل من أكثر الآثار وضوحا، استخدام قاعدة “سد الذرائع” لمنع الكثير من المباحات، بحجة أنها تقود إلى الحرام، كالتوسع في دائرة فتنة النساء، والمبالغة في دعوى فساد الزمان،.. كما صدرت مؤخرا الكثير من الفتاوى التي حرمت دخول مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيس بوك، ويوتيوب وغيرها بحجة سد الذرائع، وأن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة. وأيضا بالنظر إلى المعالجة الفقهية للقضايا المعاصرة المتعلقة بفقه المرأة والفنون عن طريق قاعدة “سد الذرائع”، يؤكد على أنها تحتاج حقيقة إلى ضوابط منهجية ما دامت أغلب مسائلها تعتمد على الذرائع وتقوم على النظر إلى القرائن.
وهكذا يتأكد لدينا أن قاعدة “سد الذرائع ” عند التطبيق في أمس الحاجة إلى زيادة ضبط وتوجيه، وإلى ضمان تلائمها مع متطلبات العصر؛ فحياة الإنسان لم تعد بالشكل البسيط، فهو يواجه بشكل يومي تحديات عميقة على مختلف المستويات. وعليه إذا لم تتم دراسة قاعدة “سد الذرائع” بشكل معمق ومتزن؛ فإن ذلك يؤدي إلى آثار سلبية ومعالجات منافية للصواب، وبعيدة عن تحقيق مقاصد الشريعة الإسلامية.
ذلك أننا اليوم حين ننظر في إشكالات الواقع الإسلامي المعاصر، نرى أن الأمة لا تشكو من قلة في المبادئ، لكن المشكلة إنما هي: كيف يتم تنزيلها على معطيات الواقع ومتغيرات أحوال الناس؟
وخلاصة القول، تجديد الفقه وأصوله أصبح ضرورة ملحة تقتضيها ظروف العصر الحالي والتغيرات التي عرفها ولا زال يعرفها في كافة ميادين الحياة، وهذا ما أشار إليه الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله في قوله: ” ننظر في فقه أئمتنا وعلمائنا نستأنس به لكي ننطلق في فهمنا نحن، فإن فهم الذين سبقونا بالإيمان فقه نافع لا شك، لكن إن نحن عرفنا كيف نستفيد منه، إن نحن أضفنا إلى فقههم، الواقف في زمنهم، المظروف بظروفهم، المتأثر ببيئتهم. يجب أن لا نقف متحجرين عند هذا الفقه فلن نتقدم إن فعلنا خطوة واحدة للأمام. لابد أن نستفيد من فقه من سبقونا بإيمان لكي نضيف إليه فقهنا نحن، خاصة فقهنا للواقع، لأن تجديد الدين لا يكون في الهواء، بل يكون في الواقع“[6].
[1] اصول الفقه الإسلامي، ” الوهبة الزحيلي” ج :1/27،
[2] الأحكام لابن حزم، (6/ 745).
[3] ابن القيم، اعلام الموقعين، (3/131)
[4] التمستماني، الاجتهاد الذرائعي في الفقه المالكي، ص:12
[5] ابن القيم، اعلام الموقعين، (3/131)
[6] سلسلة دروس المنهاج النبوي، كيف نجدد إيماننا؟، ص: 24