لماذا لا يغفر الله في شهر شعبان للمشرك؟|سلسلة خطبة الجمعة
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
لماذا لا يغفر الله في شهر شعبان للمشرك؟|سلسلة خطبة الجمعة
بقلم:الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله الواحد الديان، نهانا عن الشرك الأصغر والأكبر بخالص كلمة التوحيد والإيمان، وأمرنا بتوحيد الكلمة فيما بيننا باجتناب الشحناء والهجران، ونشهد أن لا إله إلا الله الكريم المنان، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي كان خلقه القرآن، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم القسط والميزان.
أما بعد؛ فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
ها نحن في منتصف شهر شعبان وقد كان النبيﷺ يكثر في هذا الشهر الصيام؛ «بل كان يصومه كله» كما ثبت في الحديث؛ وفي ليلة النصف منه يغفر الله لكل إنسان إلا لمشرك ومشاحن؛ فقد روى البيهقي بسند حسن أن النبيﷺ قال: «يَطَّلِعُ الله عز وجل على خلقه ليلة النصف من شعبان، فَيَغْفِرُ لجميع خلقه إلا لـمشرك أو مُشَاحِنٍ».
وهنا نتساءل: لماذا يغفر الله تعالى لجميع الناس إلا المشرك والمشاحن؟
الجواب: لأن الله تعالى أراد من المسلم صفاء علاقته مع الله، وصفاء علاقته مع عباد الله؛ فعلاقة المشرك بالله مُلَوَّثَة، وعلاقة المشاحن بالناس مُلْتَوِيَّة.
فتعالوا بنا لنخصص خطبة اليوم بالأول وهو المشرك…
فالشرك نوعان: الشرك الأكبر؛ والشرك الأصغر؛ لأن الله تعالى أراد أن يتوجه المسلم إليه وحده في العبادات وفي العادات معا؛ لكن التوجه بالعبادات لغير الله تعالى هو الشرك الأكبر، بينما التوجه لغير الله تعالى في العادات هو الشرك الأصغر.
● أما الشرك الأكبر؛ فأمره واضح يخرج صاحبه من الملة والدين؛ لقول الله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.
● وأما الشرك الأصغر؛ فهو وسيلة للوقوع في الأكبر، ولكن لا يخرج صاحبه من الملة والدين؛ بل يبقى مسلما عاصيا؛ وقد انتشرت منه أنواع كثيرة في عاداتنا:
• من أنواع الشرك الأصغر: الحَلِفُ بغيرِ الله؛ لقول النبيﷺ: «من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك» قال الإمام الترمذي الذي روى هذا الحديث: “هذا على التغليظ”؛ بمعنى ليس كفرا يخرج عن الملة؛ مثال ذلك: من كانت عادته الحلف بالأمانة أو الحياة أو النعمة أو الخبز أو ما يشبه ذلك من الأمكنة والأزمنة والأشخاص فهم مسلم لكنه عاص ارتكب الشرك الأصغر ولا نكفره؛ ولهذا وجب على المسلم -إذا أراد أن يحلف- ألَّا يحلف إلا بالله أو باسم من أسمائه أو بصفة من صفاته تعالى؛ لقول النبيﷺ: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت».
• ومن أنواع الشرك الأصغر: تعليق التمائم والحروز التي تكتب فيها طلاسم وجداول وأسماء غير مفهومه؛ لقول النبيﷺ: «من علق تميمة فقد أشرك»؛ أي الشرك الأصغر، فهو مسلم عاص ولا نكفره، أما إذا كتب في الحرز آيات قرآنية أو أدعية نبوية أو أذكار مفهومة؛ فليس بتميمة وليس بشرك لا أصغر ولا أكبر؛ قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: “لا بأس بما تعلقه الحائض والصبيان من القرآن إذا أُخْرِز في شيء يَكُنُّه (أي: يحفظه) ولا بأس أن يُكتَب للحُبْلى (أي المرأة الحامل) يعلق عليها من القرآن وذكر الله وأسمائه”(1).
وهل نقول بأن الإمام مالكا رضي الله عنه مشرك؟ حاشا معاذ الله؛ فهو لم يقل ذلك من تلقاء نفسه؛ فقد روى أبو داود والترمذي وأحمد والحاكم وصححه، عن الصحابي الجليل عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رسول اللهﷺ قال: «إذا فزع أحدكم في النوم، فليقل: أعوذ بكلمات الله التامات، من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون؛ فإنها لن تضره؛ وكان هذا الصحابي عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده، ومن لم يبلغ منهم كتبها في صَكٍّ، ثم علقها في عنقه»(2)؛ فهل هذا الصحابي الجليل مشرك؟ نعوذ بالله من غضب الله؛ يجب توضيح الأمور حتى لا نقع في الأخطاء.
• ومن أنواع الشرك الأصغر: الرياء والسمعة؛ ومعناهما: أن يُظهر الشخص العبادة قصد أن يراه الناس ويسمعونه فيتحدثون عنه ويمدحونه فيعجَب بنفسه؛ والإعجاب بالنفس لم يقبله الله تعالى حتى من الصحابة رضوان الله عليهم؛ إذ قال سبحانه: {وَيَوۡمَ حُنَيۡنٍ إِذۡ أَعۡجَبَتۡكُمۡ كَثۡرَتُكُمۡ فَلَمۡ تُغۡنِ عَنكُمۡ شَيۡـٔٗا}، وفي الأثر: «ثلاث مهلكات: إعجاب المرء بنفسه، وشح مطاع، وهوى متبع»؛ روى الإمام أحمد أن رسول اللهﷺ قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر؛ قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله عز وجل إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا؛ هل تجدون عندهم جزاء؟».
هذا إذا قصد المسلم ذلك بعمله بداية؛ وإما إذا لم يقصد أن يراه الناس ورغم ذلك رأوه فتحدثوا عنه، فلا حرج في ذلك؛ لما روى الترمذي: «أن رجلا قال: يا رسول الله؛ الرجل يعمل العمل فيُسِرُّه، فإذا اطُّلع عليه أعجبه ذلك؟ فقال رسول اللهﷺ له أجران: أجر السر، وأجر العلانية»؛ لأن عامة الناس هم شهداء الله في أرضه؛ فمن عُرف عند الناس بالخير وجبت له الجنة، ومن عُرف عندهم بالشر وجبت له النار كما في الحديث الصحيح.
• ومن أنواع الشرك الأصغر: التَّطَيُّرُ والتَّشَاؤُمُ؛ فلا يجوز لمسلم أن يَتَطَيَّر ويتشاءم من مكان معين، أو من شخص معين، أو من زمن معين؛ مثل ما نقول بالدارجة عن شخص لا يعجبك (منحوس) ونقول بتشلحيت (أُوصْبيحْ)؛ لما روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود: أن النبيﷺ قال: «الطِّيرَةُ شرك…»؛ قال ابن مسعود: «وما منا إلا…؛ ولكن الله يُذهبُه بالتوكل» (أي: وما منا إلا وقع له شيء من ذلك وعلاجه التوكل على الله؛ فلا تتشاءم ولا ترجع عما كنت تريد فعله بسبب من تظنه منحوسا أو(أُوصْبيحا).
• ومن أنواع الشرك الأصغر: قول البعض: “لولا الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وما شاء الله وما شئت أنت”؛ وبلغتنا: (إِنَّ تْرِيتْ دْ إِنَّ يِرَا رَبِّي)؛ فهذا لا يجوز؛ لقول النبيﷺ: «لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد؛ وقولوا: ما شاء الله وحده»؛ ولكن لا بأس أن تقول لمن أحسن إليك وساعدك: هذا بعد الله من فضلك، أو ما لي إلا أنت بعد الله تعالى؛ أي: هذا من فضل الله وهو الأول والأولى، ثم جعلك الله سببا في ذلك؛ وبلغتنا: (إِنَّ تْرِيتْ بَعْدْ مَا يِرَا رَبِّي)؛ وفي هذا المعنى قالﷺ: «لا يشكرُ اللهَ مَنْ لا يشكرُ الناسَ»؛ وأصله قول الله تعالى: {حَسۡبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤۡتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضۡلِهِۦ وَرَسُولُهُۥٓ إِنَّآ إِلَى ٱللَّهِ رَٰغِبُونَ}؛ معناه: سيعطينا الله من فضله وسيعطينا رسوله من فضل ما أعطاه الله تعالى إياه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إن أمر الشرك الأكبر في العبادات واضح وبيِّن؛ أما الشرك الأصغر في العادات؛ فخطورته تكمن في كونه أخفَّ وأخفى، لا يكاد المسلم يشعر به حين يتسلل لقلبه على حين غفلة؛ ولهذا قال النبيﷺ: «اتقوا هذا الشرك؛ فإنه أخفى من دبيب النمل. فقالوا وكيف نتقيه وهو كذلك يا رسول الله؟! قالﷺ: قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه».
وقد اختلط أمر الشرك الأكبر والأصغر على البعض؛ فصاروا يوزعون التكفير على الناس بكل شيء، ولا يفرقون بين الشرك الأكبر الذي يكون مرتكبه كافرا، وبين الشرك الأصغر الذي يكون مرتكبه مسلما عاصيا؛ فلا يجوز للمسلم أن يوزع ألقاب الشرك والتكفير على المسلمين؛ خذ مني هذه القاعدة: فإنك لو بقيت عمرك كله لم تقل عن الكافر المتيقن كفره: “أنت كافر” فلن يحاسبك الله تعالى على ذلك؛ ولكن لو أطلقت الكفر ولو مرة واحدة في حياتك على مسلم غير كافر عند الله؛ فقد أتىت أمرا إدّاً وارتكبت منكرا عظيما؛ ويكفيك في خطورة ذلك قول النبيﷺ: «أيما رجل قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما»؛ وأي مسلم كفَّر مسلما آخر وهو غير كافر في علم الله فقد رجعت عليه، فيكون هو الكافرَ نسأل الله السلامة والعافية.
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…
(1) انظر: النوادر والزيادات لابن أبي زيد القيرواني: (1/123)، والمجموع للنووي: (2/88).
(2) قال الترمذي: “حديث حسن غريب”. وعلقه الحاكم بمطلق الفزع، ولم يخصصه بالنوم، وسقط من تلخيص المستدرك للذهبي فلم يعلق عليه، وعزاه ابن كثير والمنذري للنسائي وهو في سننه الكبرى دون قوله: “وكان عبد الله…الخ” وصححه الشيخ شاكر. والله أعلم. راجع: سنن أبي داود: 4/12. وسنن الترمذي: 5/541. ومسند أحمد: نسخة شاكر: 6/246، رقم 6696. والمستدرك للحاكم: 1/548. والترغيب والترهيب للمنذري: 2/302. وتفسير ابن كثير: 3/256. والسنن الكبرى للنسائي: 6/190. والمجموع للنووي: 2/88.