المدخل الفني إلى القرآن الكريم هو الأقرب إلى النفوس
المدخل الفني إلى القرآن الكريم هو الأقرب إلى النفوس/ عبد الهادي المهادي
المدخل الفني إلى القرآن الكريم هو الأقرب إلى النفوس
بقلم: عبد الهادي المهادي
اليوم، بعد الفجر، جلستُ أستمع للقرآن الكريم. قادني بحثي إلى قارئ شاب اسمه هشام الهراز، لأوّل مرّة أعرفه، أعجبتني تلاوته، بسيطةٌ هي دون تصنع أو تكلف، ولكنها مؤثرة. لا أدري هل يمتلك أسلوبا خاصا به، لأنني لم أتفحّصه بالشكل الذي يسمح لي بإصدار حكم نهائي في هذا الشأن. انطلقتُ معه في رحلة وجدانية أنصتُ إلى سورة نوح. هذه السورة كانت ـ ومازالت ـ تخضّني خضّا قويا، وتُرسلني مباشرة للحضور في عالم سيدنا نوح وواقعه، شهيدا على تحركاته ودعوته، قريبا من حواره مع قومه، مندهشا ـ إلى حدّ الفجيعة ـ من تصرفاتهم وردود أفعالهم القاسية الصّلدة.
ما الذي جعل إحساسا مثل هذا يكتسحني ويتحوّل في نفسي إلى شبه واقع مُعاش؟
إنه “التصوير الفني” ولاشيء غيره، إنها الصور الفنية التي رسمتها السورة ببراعة نادرة جدا ـ بالمنطق النقدي البشري ـ لنفسية الدّاعي الكريم ولنوعية استجابة قومه وحالتهم النفسية والشعورية. ووالله إنها لصورة رهيبة لوقائع ليس لها من مآل غير الطوفان، فلا حل، ولا دواء، لمن كان ذلك ردّهم غير الإفناء النهائي وبأسلوب تراجيدي يشكّل لحظة فارقة في حياة البشر على وجه هذه البسيطة.
اقرؤوا معي قوله تعالى: “وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وأصروا، واستكبروا استكبارا”. أي استخفاف هذا وأي استهتار وأي احتقار بمن يدعوهم للخير والمغفرة. لا يمكن فهم قساوة المشهد ومأساته إن لم يُتَصوّر في مشهد متحرك: رجل تبدو عليه سِمات الوقار والصلاح، يقضي الكثير من وقته في حديث مع قومه ودعوتهم ونصحهم، ولأنهم كارهون له، رافضون لمنطقه، غدوا لا مبالين بكل ما يأتي من جهته. وتخيَّلوه في أحد أنديتهم يخاطبهم بود،ّ رحمةً بهم وخوفا عليهم، ولكنهم يسدّون آذانهم بأصابعهم، ويغطون رؤوسهم، ويشيحون بأجسادهم، مانحين له ظهورهم. يتركونه يعظ حتى يغادر في كَلٍّ وتعب وهو يجرّ قدميه في خيبة. لم يشاؤوا قتله، بل أرادوا له البقاء ليتعذّب، هكذا قدّروا.
واقرؤوا كيف جلس سيدنا نوح يشتكي لربه بحُـرقة المقهور، ويقول له ـ وحاولوا تقمّص صوته وهو في هذا المقام: “رب إنهم عصوني واتّبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا”. أتصوّر أن سيدنا نوح كان يجهش بالبكاء ـ بين يدي ربه ـ وهو في توجّعه. ليتحوّل الأمر في المشهد ما قبل النهائي في السورة إلى غضب عارم يتدفق من سيدنا نوح، فيما يبدو وكأنه تعارض كامل مع رحمة الأنبياء والرسل، حين يُجلجل: “رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا، إنّك إن تذرهم يُضلّوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفّارا”.
لقد بلغ ياسه منتهاه، ولم يعد في جعبته الواسعة من نقطةِ رحمةٍ يبلّل بها حلقه وهو يتحدث عن القوم؛ إنها الخيبة الشاملة والقنوط الكلّي من أية إمكانية للإصلاح.
ـ “لا جدوى يا نوح لا جدوى”: قال لنفسه. فليكن الدّعاء بالإفناء الإذن، لأنك إن تذرهم يا رب “يُضلّوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجرا كفّارا”.
وحتى وهو في مقام الرجاء والدعاء بالمغفرة له ولوالديه ولمن دخل بيته مؤمنا ولكافة المؤمنين في سائر الزمان، لم تطب نفسه إلا بمزيد من الدعاء بالويل والثبور على الظالمين في زمانه وكلّ زمان، وبذلك ختمت السورة.
لسنا هنا بصدد التفسير، بل في مقام التذوق؛ والتذوق تأثّرٌ وانطباع وبحث عن الجماليات، سواء نبعت من عين الرضا أو تطايرت من بركان الغضب.
ومثل هذه الصورة كثير جدا في كتاب الله تعالى، خاصة في القرآن المكي. واقرؤوا على سبيل التمثيل قوله تعالى في سورة الأحزاب: “إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا”. فكيف سنفهم معاني هذه الآية ومقاصدها من دون تصوير وقائعها فنّـيّا !
ما الذي يمنح القارئ الولوج من هذا المدخل المفيد والممتع إلى آيات الله تعالى؟
إنه الوعي الفني والشعور الجمالي. ولا يمكن للإنسان أن يمتلك مثل هذا الوعي وهذا الإحساس وهو جهول بالفنّ وفلسفته وروحه. وحده القريب من الأدب، شعرا ورواية وغيرهما، ووحده المُعافس للأنواع الفنية الأخرى المتنوعة، مثل التشكيل والمعمار والموسيقى وغيرها يقدر على الولوج بسلاسة من هذا الباب.
ورحم الله سيّدا، ومَن غير قطب يستحق أن يذكر في هذا السياق ـ فقد كان داعية كبيرا لا يتراخى عن التبشير بهذا المسعى في الكثير من كتبه، ونخص بالذكر: التصوير الفني في القرآن الكريم، ومشاهد القيامة في القرآن الكريم، وفي ظلال القرآن.
لقد أنزل الله علينا كتابه لنتذوّقه فنتأثّر به، ومن ثـمّ نعيش معانيه. والرؤية الفنية الرسالية المسؤولة أوسع المسالك المفضية إلى ذلك.