“العقل المراهق” و”لذائذ الاستحسان”
إرهاق العلم طغيانا وجهلا
بقلم: ميمون نكاز
(…الاستحسان تلذذ) شقيقة لنظيرتها(من استحسن فقد شرع)؛ كلتاهما مقولتان للإمام الشافعي خصيمتان -في الظاهر- لمقولة الامام مالك(تسعة أعشار العلم الاستحسان) التي يتداولها الناس بصيغة (الاستحسان تسعة أعشار العلم)…
تكفلت “المعيارية الأصولية” -كما هو معلوم لبادي النظر في الفكر الأصولي- بدفع هذا الاستشكال ورفع هذه الخصومة الظاهرية بين المقولتين؛ وذلك ببيان تفارق المفهومين عند الإمامين لتخالف صدقهما على المصاديق والمناطات المتغايرة، إذ نظر مالك ومن ناصره غير نظر الشافعي ومن شايعه، والمسألة محررة مفصلة مشبعة في المصنفات والمدونات الأصولية العالية المقارنة، كذلك في البحوث والرسائل العلمية المنجزة في موضوع الاستحسان الأصولي والفقهي لا نبتغي الحديث عنها ولا نروم القول فيها، وذلك لانجلاء موارد الخلاف في مدلول الاستحسان وانطباقاته، ويكفي الطالبَ الباحثَ الراغبَ أن يقرأ كتاب ( الاستحسان:حقيقته، أنواعه، حجيته، تطبيقاته المعاصرة) ليعقوب عبد الوهاب الباحسين ليحصل مجمل العلم بالمسألة،…
سئلت يوما عن الاشتباه بين المقولتين فاكتفيتُ بالجواب المعتصر قائلا: إذا أدركتَ الفرقَ -ضرورة- بين “الاستحسان بالشرع”؛ أقصد بمأذونه وبين “الاستحسان على الشرع”؛ أقصد بالافتئات عليه تجلى لك -إجمالا- الاختلافُ المفهومي والوظيفي بينهما، وليُعْلَمْ أن “الاستحسان” ليس “دليلا أصليا مستقلا” بنفسه كباقي الأدلة الأصلية، وإنما هو عند الفحص والتحقيق من “لوازم الأدلة”، أي من “الحجج” و”المعتبرات الشرعية” التي تقتضيها جملة من الأصول والأدلة المستقلة، ولعل ذلك هو الذي نحى بالشاطبي في “الموافقات” إلى ذكر الاستحسان في مباحث كتاب الاجتهاد دون ذكره باستقلال ذاتي في مباحث كتاب الأدلة…
كل ذلك شأن علمي دقيق صرف، لكني أحببت أن أنوه بمقولتي الشافعي:( من استحسن فقد شرع) و(إنما الاستحسان تلذذ) لكونهما تصدقان فحوى ودلالة على “الاستحسانات العقلية والنفسية” التي تشملها “المحاذير النقدية” للمقولتين…
عندما يصبح “االعقل المراهق” مذواقا للأفكار الهشة يستحسنها بأوجه من التأويل التحريفي للنصوص والأحكام كالتفريق المغالط بين “الوسيلي” و”المقصدي” في الخطابات الطلبية للشارع سبحانه، من أجل الإجهاز والتحلل من جمهرة من الأحكام بدعوى أنها ليست ملحوظة للمشرع أصالة في التكليف وذلك يعني أنها ليست معتبرة قصدا في الإلزام، وإنما ذكرت على سبيل “الاستحسان العرفي”، الذي يمكن استبداله وتغييره….
سمينا هذا “العقل الاستحساني” “عقلا مراهقا” “مذواقا” “تلذذيا” بتعبير الشافعي لأنه أسير “شبهات العقل” وسجين “شهوات النفس”، عقل لم يبلغ “مراشد النظر” في النص والواقع، وتلك علامة “المراهقة” فيه…
الناظر في الشرع والقائل فيه دون رشد في المعرفة والمنهج والأداة “مراهق” يرهق العلم طغيانا وجهلا، يشرع بعقله المذواق ويستحسن بنفسه المستلذة…..
مأ أصدق مقولتي الشافعي رحمه الله في هؤلاء “التأويليين الجدد”، هم في الحقيقة “أصحاب لذائذ استحسانية” في التعامل مع الدين والشرع…