منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

صورة الرسول(ﷺ) المبكرة في الفكر الأوروبي تأصيل تاريخي في ضوء النسق الثقافي الغربي القديم

أ.د. مصطفى عطية جمعة

0

 صورة الرسول() المبكرة في الفكر الأوروبي

تأصيل تاريخي في ضوء النسق الثقافي الغربي القديم

 بقلم: أ.د. مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والنقد والإسلاميات

هناك نوع من الرؤية العدائية المستحكمة في نظرة الغرب إلى الرسول(ﷺ)، وقد أضحت  قضية قديمة جديدة ومتجددة والتي نشهدها في الهجوم الوقح على رسولنا (ﷺ)، والذي كلما خبا، عاد واشتعل، وكلما سكن، وجد من يفجره، وكأنه سيناريو مرسوم، لا يعرف استقرارا، فهناك قوى تحرّكه، تستند إلى إرث مشوه في المخيلة الأوروبية، مأخوذ من كتابات المستشرقين المغلوطة عن عمد لا يمكن أن يكون الجهل سببا له، وإنما الادعاءات الملفقة، والقلوب المغلقة، والعقول المظلمة، التي لا تريد أن تتعرف على حقيقة الرسول (ﷺ)، ولا جوهر الإسلام، ويبدو أنها تخشى الاطلاع عليها، ربما لأنها تعلم أن الحق أبلج، فإذا انبلج أمام عقولهم، فحتما سيسيطر على قلوبهم.

  فالصورة الشائعة عندهم عن الرسول لا تستند إلى حقائق، وإنما إلى أوهام، وليتهم فهموا الرسول ودعوته وهديه كما نفهمه نحن المسلمين، فشتان بين تقديم صورة هي الحقيقة الواقعية القائمة، وبين أن تقدم نثيرات لا رابط بينها إلا روافد الكراهية المستحكمة، عن جهل لا عن علم، وعن تحيز وتعصب لا عن موضوعية وأمانة. من أجل هذا تأتي هذه الدراسة من أجل الحفر في جذور التصورات الغربية حول الإسلام، خاصة في الحقب التاريخية المبكرة.

تأصيل تاريخي حول الإسلام والرسول والغرب:

   إن المنظور الغربي العدائي الذي نراه متجليا حتى عصرنا نحو إلى الرسول محمد (ﷺ)؛ ليس وليد الحقبة الاستعمارية، وإنما يمتد إلى حقب تاريخية مبكرة، منذ ظهور الإسلام بوصفه ديانة جديدة، وتشكيله تحديًا أمام العقائد السائدة في العالم القديم، فمن الطبيعي أن يكون الإسلام ورسوله حاضرينِ في نقاشات أتباع الديانات السماوية في العالم، خاصة في شمال إفريقيا والشام وأوروبا، بحكم وجود الدولة البيزنطية، وهويتها المسيحية، وكونها راعية للمقدسات المسيحية في القدس، ووجود أيضا أقليات يهودية. ومن هنا، فإن الحضور الإسلامي لم يكن على المستوى العسكري فقط، من خلال الفتوحات الإسلامية، وإنما كان حضورا ثقافيًا ودينيًا، سبق الفتوحات، وتزامن معها، وظل مستمرًا بعد انتهاء الفتوحات الكبرى، وتقلص رقعة بيزنطة وخسارتها البلاد التي سيطرت عليها في الشام وشمال إفريقيا، وانحصارها آسيا الصغرى. بجانب امتداد الفتوحات إلى بلاد المغرب العربي وشبه جزيرة إيبريا (الأندلس)، ناهيك عن سيطرة البحرية الإسلامية على البحر المتوسط، ومن ثم قيام علاقات تجارية مع بيزنطة، وغيرها من أقاليم أوروبا. ومن هنا، يتوجب طرح أسئلة من شاكلة: كيف نظر الآخر غير المسلم إلى الإسلام بوصفه دينا وعقيدة وشريعة ودولة صاعدة، وجيوشا متتابعة؟ فهو سؤال فكري في الأساس، يحفر في الحقب الزمنية  القديمة، لننظر كيف نشأ المنظور الآخر للإسلام عامة، وللرسول محمد (ﷺ) بشكل خاص، فلن نفهم صورة الرسول الكائنة في الغرب، إلا بتتبع جذورها التاريخية.

 وهو ما يدفعنا إلى إعمال مفهوم “تاريخ الأفكار” الذي يوضحه ميشال فوكو بأنه “يتناول البدايات والنهايات، ويهتم بوصف ألوان الاتصال المبهمة، وألوان العودة، وبإعادة إنشاء التطورات الخطية المتعاقبة للتاريخ، ويتتبع، انطلاقا من ذلك المبادلات التي تتم بين الميادين المعرفية، وهجرة الأفكار بين بعضها البعض..، تاريخ الأفكار يريد تحليل الولادات الصماء، وألوان التلاقي البعيدة في القدم، وألوان الدوام والاستمرارية الثاوية (الكائنة) خلف التغيرات الظاهرة”([1]).

   فتاريخ الأفكار يعتني بتاريخ الفكرة التي تتماثل أمامنا الآن، ساعيا إلى التنقيب عن جذورها، ناظرًا من أين نبتت، وكيف تطورت، وكيف هي مآلاتها وثمراتها. ويبحث أيضا في الترابطات المصاحبة للفكرة، اجتماعيا وثقافيا وتاريخيا.

   وإذا طبقنا هذا المفهوم على صورة الرسول (ﷺ) في الكتابات الأوروبية، سنجد أنها بدأت في حقبة مبكرة للغاية، في سياقات تاريخية وسياسية ودينية مختلفة، خاصة بعدما ظهر الإسلام بوصفه ديانة جديدة، برسول مبعوث من الله سبحانه وتعالى، استطاع نشر الدعوة الإسلامية في الجزيرة العربية، وراسل الملوك والأمراء والقادة في عصره، يعرض عليهم الإسلام، ويدعوهم للدخول فيه.

   فمن المنطقي أن يتساءل المخاطَبين، وغيرهم عن كينونة هذا الرسول، وشخصيته، وطبيعة دعوته، والعقيدة التي يدعو لها، خاصة عندما بدأت جيوش المسلمين في اجتياز حدود الامبراطورية البيزنطية، وتفكيك الامبراطورية الفارسية، فلم يكن الأمر وقتها مقتصرا على جيوش متقاتلة، وبلدان تتهاوى، تحت سنابك خيول المسلمين، وإنما كانت هناك معركة دينية وفكرية، بدأت تدور رحاها، فالفاتحون المسلمون ليسوا مستعمرينَ بمعنى أن دوافعهم هي التوسع لأسباب اقتصادية ودنيوية، وإن كان هذا الرأي تبناه عدد من المستشرقين وللأسف تابعهم عدد من العلمانيين العرب، ومن أبرز المستشرقين: كارل بيكر وليون، وليون كايتاني، اللذان ركّزا على أن الفتوحات تعود إلى الجدب الذي أصاب جزيرة العرب، والفقر الشديد الذي عاشت فيها قبائلها، مما دفعهم إلى الهجرة قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أوجد فيهم حماسة للمقاتلة، وتنظيما في الحركة، تحت لواء دولة إسلامية صاعدة، من أجل تحقيق أهدافهم الاقتصادية. ولكنهما يقران أن العرب لم يغصبوا أحدا على الإسلام، وإنما اكتفوا بالجزية ممن ظل على ديانته([2]). فهذا الرأي يحاول قراءة الفتوحات في منظور التوسع الاستعماري النفعي، وهو منظور مردود عليه، لأن العرب سعوا إلى نشر الدين الجديد، دون قهر أو تسلط على شعوب البلدان المفتوحة، فقد تركوا القبائل العربية المهاجرة تستقر في البلدان المفتوحة، لتبدأ حركة تفاعل ديني ثقافي وفكري ولغوي، أسفرت في النهاية عن انتشار الإسلام والعربية.

    وقد سقطت هذه النظرية، عندما ناقشها المستشرق والرحالة آلو موزيل، موضحا أن دعاوى كايتاني تفتقد للمعلومات المؤكدة، وبالتالي لا يمكن التسليم بصحة استنباطاته؛ فالجزيرة العربية قبل الإسلام وبعده؛ لم تكن في حالة من الإجداب والفقر على نحو ما صور كايتاني، فعلى الرغم من هيمنة دولتي فارس والروم في العالم القديم وقتها؛ إلا أن العرب ظلوا محتفظين بنشاطهم في التجارة العالمية، ويدرّ عليهم ربحا وفيرا، كما تكفلت الواحات والقرى الخصبة بتموين احتياجات القبائل الرعوية من المواد الغذائية مثل الطائف ويثرب واليمن والبحرين وعمان، كما وُجدت المراعي الواسعة حول الآبار الكثيرة، وإنما كانت تفتقد إلى الحكومة القوية([3])، بل إن الأمر كان على النقيض، فتلك البقاع الرعوية والخصيبة، بالقبائل القاطنة فيها، كانت خير معين لإمداد الجيوش الإسلامية بما تحتاج إليه من جنود، ومن مؤن وصناعات بيئية متنوعة، فكانت خير ظهير وداعم للفتوحات([4])، والتي جاءت بسرعة كبيرة.

 وبذلك تسقط الفرضية الخاصة بأن الدافع هو اقتصادي بحت، لقبائل عانت من شظف العيش والفقر الشديد، والتي تستند حقيقة إلى الفلسفة الماركسية، في نظرتها المادية للتاريخ، والتي تقرأ التاريخ وفق الأنساق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، عبر استنادها إلى مفهومين أساسيين: البناء التحتي Infrastructure، ويعنى بالعوامل والظروف الاقتصادية المتحكمة في المجتمع، والبناء الفوقيSuperstructure  وهو الأبنية السياسية والقانونية الحاكمة للمجتمع([5])، فهي رؤية إسقاطية شبه جامدة، لا تفهم حركة الفتوحات الإسلامية الناتجة عن قوة روحية هائلة، أحدثها الإسلام في نفوس العرب، وجعلهم جنودا فاتحين، يحملون رسالة الإسلام، ويقدمون أرواحهم فداء لها. إن أزمة هذه الرؤية، أنها تخضع الإسلام – وكذلك أثر الأديان- لمنظور دنيوي مادي نفعي، وهو ما يجعل رؤيتها قاصرة، عاجزة عن تقديم تفسير دقيق للفتوحات، التي لا يمكن أن تقاس بغيرها، فقد تلاشت الامبراطورية الضخمة التي أنشأها الإسكندر المقدوني، بمجرد وفاته، كما تهاوت الامبراطوريات العظمى مثل دولتي الروم وفارس والصين وغيرها، ولكن الإسلام انتشر وتعمق وتغلغل في البلدان المفتوحة، وتمدد سريعا في أفريقيا وآسيا، من خلال التواصل الإنساني والحضاري والثقافي والتجاري. وبعبارة أخرى: شتان ما بين الفتوحات الإسلامية التي رفعت رايات الدين والعدالة والإيمان، وبين التوسعات الاستعمارية التي رأيناها قديما وحديثا، وهذا ما لم يدركه أو تغافل عنه معظم المستشرقين الغربيين، فراحوا يقيسون فتوحات إسلامية بنظرات مادية دنيوية.

  ذلك، ما يقودنا إلى تبنّي المنظور الثاني، الذي يرى أن الدافع الديني كان حاضرا ومحرِّكا، وكما يقول صالح العلي، فإن قبائل العرب مزقتها الحروب في الجاهلية، فلما جاءها الرسول (ﷺ)، وتشربوا رسالة الإسلام وقيمه وفضائله، حيث وضع للحروب غاية سامية، فلم تعد غزوات للمغانم المادية، بل أصبحت فتوحات لإعلاء كلمة الإسلام والدين، مع تعميق مفهوم الجهاد بوصفه سنام الإسلام، والشهادة بوصفها مفتاحا للفردوس الأعلى. أيضا، ولم تكن جيوش الفتوحات من الصحابة وحدهم، وإنما كانت من القبائل العربية حديثة العهد بالإسلام، بل إن عمر بن الخطاب سمح للمرتدين بالجهاد، وتلك نقطة استند عليها بعض المدّعين من المستشرقين، بأن مثل هؤلاء خرجوا للجهاد طمعا في المغانم، غير آبهين بنشر الإسلام. ونرد عليهم بأن هناك سيكولوجية جمعية، وروح جماعية تمثلت في الإيمان، وإعلاء كلمة الجهاد، وذلك ديدن جيوش المسلمين، مما ألهب عواطف المقاتلين وملأهم بالحماسة والشجاعة([6])، فلم تكن جيوش المسلمين إلا مدرسة تربوية، تعد روحيا وعسكريا حديثي العهد بالإسلام، وتصهرهم في بوتقتها الإيمانية، لذا، لم نجد صراعات على الغنائم من قبل الجنود، ولا تمردا على قادة الجيوش، فكل شيء يتم وفق هدي الإسلام، حيث الغنائم تُوزَّع بعدالة، والمساواة قيمة عليا بين الجنود، فلا يترفع قائد على جنوده، ولا يتنابزون ويتفاخرون بأحساب وأنساب قبلية، فهم مجاهدون في سبيل الله، فكانت أخلاقهم وحسن سلوكهم خير معين في التعريف بالإسلام.

   ذلك هو الإطار العام الذي بدأت الشعوب الأخرى في التعرف على الإسلام، فقد تطايرت أنباء عن الرسول ودعوته السامية إلى هذه الشعوب، وقد رأيناه مبكرا في هجرة الصحابة إلى الحبشة، فأهلها من أهل الكتاب؛ وملِكها النجاشي ذو رحمة وعدالة وإيمان، فاحتضن المسلمين المهاجرين في بلاده، وحمى إيمانهم من مكر مشركي قريش. كذلك رأينا تعرّف الشعوب الأخرى على الإسلام من خلال الرسائل التي بعث بها الرسول(ﷺ) إلى الملوك والحكام في الممالك والامبراطوريات حوله، مثل رسائله (ﷺ) إلى عظيم القبط في مصر، وكسرى بفارس، وهرقل قيصر الروم، ثم شاهدت شعوب هذه الدول قدوم جيوش المسلمين فاتحين، ومن ثم بدأت حركة الدعوة إلى الإسلام حية نشطة، تنتشر لدى شعوب العالم آنذاك.

صورة الرسول(ﷺ) المبكرة في ضوء النسق الثقافي الغربي:

   تعددت وتنوعت الكتابات الغربية التي تناولت الرسول(ﷺ)، والتي سطّرها كثير من المستشرقين، ورجال الكنيسة والبلاط والمؤرخين، وقد بدأت منذ حقبة تاريخية مبكرة وتطورت لتظهر بوضوح في كثير من الكتب في القرون الوسطى، والتي دوّنت القناعات المتوارثة عن الإسلام والرسول، متوجهة بخطابها إلى الشعوب ورعايا الكنائس الأوروبية، ساعية إلى إيجاد أرضية فكرية بين المؤمنين بالمسيحية لاتخاذ موقف واحد من الإسلام، بغض النظر عن الاختلافات المذهبية المسيحية، وذلك بتقديم صورة أقل ما توصف به أنها جمعت الافتراء مع البشاعة، والتضليل مع التشويه، مما يستلزم التوقف عند هذه الصورة، وتقديم أبرز ملامحها؛ فلن نستطيع فهم الصورة الأخرى التي أنصفت الرسول من الكتّاب الغربيين- والتي نراها استثناء من القاعدة- إلا بفهم القناعات الفكرية التي سادت أوروبا، على مستوى العامة والكهنة والمؤرخين والفلاسفة، على الرغم من صراعاتهم المذهبية والسياسية والعسكرية، إلا أنهم متوحدون في عدائهم ضد الرسول والإسلام، بمقولات وادعاءات يمكن الجزم بأنها تمتاح من معين واحد، فإذا ذهبتَ للبحث عن هذا المعين أو بالأدق المصادر التي استندت إليها في رسم هذه الصورة، تكتشف أنها سراب، فهي ليست بمصادر عربية وإسلامية، وإنما هي أشبه بالأساطير الشفاهية، التي تناقلتها الألسن على مر العصور، وأضافت لها كلَّ قبيح مع تداولها على المستوى الشعبي، ومن ثم تم تدوينها لاحقا، فإذا أردنا البحث عن علاقة الصورة المرسومة بالأصل والحقيقة، لن تجد إلا شذرات مكذوبة، لا تمثّل الحقيقة بقدر ما تحمل خيالات مشوهة.

  ولذا، نرى أن النهج الأنسب لتقديم قراءة شاملة عن صورة الرسول في الكتابات الغربية عامة؛ هي قراءتها في ضوء النسق الثقافي الذي أُنتِجتْ فيه، فلا يمكن فهم مثل هذا الكتابات إلا بالعودة إلى المحيط الذي خرجت منه، وتوجهت بخطابها إليه.

   يعرّف جميل حمداوي النسق بأنه: “التجميع أو دوران مجموعة من الأفكار والأطروحات والمحاور حول مبدأ مركزي ما. أو هو عبارة عن مجموعة من الأجزاء والمقاطع المنسجمة والمترابطة فيما بينها، والتي تدور حول فكرة أو أطروحة فلسفية محورية عامة. بمعنى أن النسق هو نظام من العناصر المتماسكة والمتناسقة فكريا وذهنيا ونظريا. وقد يكون الترابط فيما بينها بالاتصال أو الانفصال. ويتسم النسق الفلسفي بالاتساق والترابط والانسجام، أو هو مجموعة من الأفكار الفلسفية المنظمة في محاور وقضايا، سواء أكانت منسجمة أم متعارضة”([7]).

  فما النسق إلا مبدأ أو فكرة أو توجه ما، تدور حوله الكتابات والطروحات الفكرية، ويكون هو الرابط بينها، بغض النظر عن مدى اتساق هذا الأفكار أو تنافرها، فهي متفرعة من الفكرة الأساسية، سواء عمّقها وأضافت عليها، أو اقتربت منها، أو نأت عنها، فهي تصب في مجرى واحد. فإذا عرفنا كينونة المجرى، ووقفنا على المنبع والمصب، ستكون الصورة واضحة أمامنا، بدلا من الغرق في التفصيلات والتفريعات، التي ربما تعطينا مزيدا من المعلومات، ولكنها لن تساهم في فهم الصورة على مستوى الإطار الكلي، فضلا عن فهم التفصيلات المتفرعة عنها.

    فصورة الرسول(ﷺ) -في المتخيل الثقافي والديني والشعبي الأوروبي- منبعها نظرة دينية عدائية، ناتجة عن الاختلاف في الدين، والحقد على ما قام به العرب المسلمون من سيطرة على مساحات واسعة من البلدان البيزنطية المسيحية في شمالي أفريقيا والشام، ثم آسيا الصغرى، وجزر البحر الأبيض المتوسط، وكيف أن الإسلام الذي دخلت فيه شعوب البلدان المفتوحة أفواجا؛ هو تهديد للوجود المسيحي.

ولننظر إلى ما قيل من قبل المستشرقين الغربيين عن بدايات الصراع بين العالم المسيحي والعالم الإسلامي: “قام شعب هائج -هم العرب أو السراسنة (البدو)- عُرِف بالسلب والنهب، وهو علاوة على ذلك شعب غير مسيحي، فاجتاح وخرّب أراضي واسعة، وانتزعها من قبضة المسيحية، ولقد وصلت الكارثة أخيرا إلى إسبانيا، والشواطئ الإيطالية، وبلاد الغال، وكانت موجة البرابرة الغزاة ذاتها هي دائما المسؤولة”([8]). ولننظر إلى المفردات المستخدمة في التوصيف السابق، لندرك طبيعة نظرة الغرب المسيحي إلى المسلمين، بأنه سعى إلى طمس أي صورة حقيقية عن النبي محمد، وقدّم صورة شائهة لتغذية المتخيل الفردي والجمعي/ الشعبوي؛ بما يجعل الإسلام نسخة مسروقة من المسيحية، والرسول محمد أحد الادعياء، الذي امتاح من المسيحية، وأعاد إنتاجها للسيطرة على أتباعه العرب الذين هم مجرد قطاع طرق، لا يعرفون تسامحا ولا تراحما، وإنما السلب والنهب، والدماء والقتل.

  إن النسق السابق لم يتكون في سنة ولا عقد، وإنما هو حصيلة قرون متتابعة، شهدت روافد مغذية ومتتابعة لهذه الفكرة، فتعمق مجراها، واستوى في مؤلفات كبرى.

بمعنى أنه ليس مجرد فكرة سادت عددا من الكتابات ردحا من الزمن، ثم انتهت، وأنها كانت فكرة مغلقة، لم تُرفَد بالجديد، وإنما كانت صورةُ الرسول قابلةً للتطوير والإضافة، دون رقيب علمي أو أخلاقي، يتساءل عن الحقيقة ومصادرها.

   ولذا، يتوجب علينا استحضار نظرية الأنساق المفتوحة التي يطرحها نيكولاس لوتمان، حيث يؤكد على أن النسق ليس مجالا مغلقا، بل هو مفتوح على المؤثرات المختلفة، والتي يمكن أن تكون مغايرة، فهناك مدخلات ومخرجات في النسق، وعلى حسب ما تكون نوعية المدخلات أي المعلومات، ستأتي المخرجات، والأمر هنا كما يؤكد لوتمان ليس رياضيا أو تقنيا، وإنما هو افتراض مفاده أن المدخلات المتشابهة، ستعطي نتائج أو مخرجات متشابهة. ولأن العلوم الإنسانية لا يمكن أن تكون مثل الآلة، فإن هناك ما يسمى الصندوق الأسود Black Book، وهو مختص بما يحدث في داخل النسق، من تحولات بنيوية، قد لا تأتي بالمخرجات المتوقعة أو المأمولة، مما يفتح المجال لدراسة النسق ذاته على المستوى البنيوي، وما فيه من تعقيدات مجهولة، قد لا ينتبه إليها مدخلو البيانات، أو لا يعيها مستقبلو المخرجات([9]).

    وتلك قضية غاية في الأهمية، فالنسق ليس ماكينة ولا مسألة حسابية، وإنما هو تفاعل إنساني: عقلي ومعرفي ووجداني، فيمكن أن تكون المدخلات تحوي توجها بعينها، ولكن تجد مقاومة مضادة في داخل النسق، أو اختلافا من مدخلات أخرى، تتفاعل كلها في داخل النسق، ويتوجب علينا فهم المدخلات والتفاعلات والمخرجات.

   فصورة الرسول محمد(ﷺ) في المتخيل الجماعي الغربي، لن نفهمها إلا إذا أدركنا أنها تشكلت من خلال المدخلات ألا وهي السرديات والكتابات التي أخذت تترى في الوعي الجمعي الغربي بديانته المسيحية، شفاهية وكتابية، داخل الكنائس والأديرة، وخارجها في بلاط الملوك والأمراء؛ كي تجيب عن أسئلة العوام، حول ماهية هذا الرسول الجديد، وديانته التي يروّجها أتباعه، وكانت سببا في سقوط الدولة الفارسية، وفي اضمحلال الدولة البيزنطية، بل إن الخلافة الإسلامية التي امتدت أكثر من ثلاثة عشر قرنا، كانت أكبر تهديد للعالم المسيحي، سواء كانت من الشرق من لدن آسيا الصغرى، بعد فتح القسطنطينية (1453م)، وتصفية ما تبقى من بيزنطة، بجانب التهديد من الغرب، أو كانت من الغرب من قبل الخلافة الأموية في الأندلس، أو من الممالك التي ورثتها، وكانت لها امتداداتها في بلاد المغرب العربي.

    فيكون السؤال: كيف نظر العالم المسيحي إلى رسول الإسلام؟

  والإجابة سنجدها جلية إذا تعقبنا الكتابات التاريخية القديمة وفي القرون الوسطى، وصولا إلى العصر الحديث، وبذلك ستكون المخرجات هي كتابات فيها كثير من المغالطات، ولكن قد تُضادُها مواقفُ وكتابات ومقولات تخالف المخرجات المتوقعة، مما يستلزم النظر في شخصية القائل أو الكاتب، وأيضا كيف نظر إلى شخصية الرسول(ﷺ)، وإلى الإسلام ذاته، وهل قرأ الإسلام وتعرف على محمد(ﷺ) في مصادره الأصلية، أم ردّد الأكاذيب والمغالطات الشائعة في الأوساط الكنسية والشعبية؟ وبالتالي، فإن الأمر يحتاج إلى النظرة العامة للنسق: مدخلاته ومخرجاته، وأيضا التفاعلات الداخلية/ البنيوية فيه، لنتعرف أوجه التشابه والاختلاف بين المدخل والمخرج من ناحية، وتكتمل الصورة أطرا وتفصيلات من ناحية أخرى.

    خاصة أن محمدا (ﷺ) لم يكن مجرد شخصية عادية في الفكر الغربي، وإنما إذا ذُكِرَ شفاهة أو كتابة؛ استدعت الذاكرة الفردية والجمعية سيلاً لا ينتهي من التصورات والمفاهيم والمعلومات عنه؛ كشخص ونبي، وعن المؤمنين به، بما يعني أنه صار أيقونة دالة، هو كلمة واحدة، تستدعي مئات الأفكار، وأيضا بمنظومة من السرديات، التي نسجها العقل الغربي، في قرون متتابعة، وبعبارة موجزة فإن محمدا ليس مجرد كلمة تلفظ تعبر عن نبي الإسلام، إنما هو أفكار ومغالطات وتصورات.

    ولذا، فإن أفضل السبل لفهم طبيعة النسق الغربي الذي صوّر الرسول محمد(ﷺ) هو الاستفادة من علم العلامات (السيميوطيقا Semiotics)، وهو ما يرسخه أرثر أيزابرجر، حيث يرى أن النصوص بجميع أنواعها تُعَدُّ ظواهر رمزية، مثل الكلمات وتصرفات الشخصيات، والمواقع الجغرافية، فخصائصها الرمزية والأسطورية تجعلها بالغة التعقيد، وتحتاج إلى تأويلات عديدة. فالعلامات تسعى لشيء ما، ألا وهو تقديمها للمعاني، التي ترتبط عادة بالأحداث التاريخية، فالرمز أيا كان كلمة أو صورة؛ يحتوي على جميع الأمور الخارجية المتصلة به، وهو ما يجب التفكير به، ونحن درس الأيقونات والرموز الدينية، وعندما يقوم العقل باستكشاف الرمز، سيهتدي إلى الأفكار التي تكون وراءه، كما نستخدمه في محاولاتنا لتقديم إجابات عن افتراض ما بأن هناك فهما مشتركا لما يعنيه رمز أو مجموعة من الرموز ذات الصلة([10])، وبذلك يأخذنا البحث للنظر في المصاحبات اللغوية وغير اللغوية التي حفلت بها الرموز الدينية، وعبّرت عن أفكار وتصورات.

    فقد أصبح محمد(ﷺ) علامة في الفكر الجمعي الغربي محملا بدلالات وأفكار عديدة، بمعنى أن محمدا هو رمز، عندما نقرأه في الموروث التاريخي الغربي، سنكتشف أن فيه حمولات دلالية وأفكار، وأيضا معلومات وأساطير، صيغت على مرّ العصور،  عبر كتابات وخطابات موجهة إلى العالم المسيحي عن الرسول والإسلام.

    والسؤال هل هذا الإرث -بكل ما فيه تشويه- موجود حتى يومنا؟

  والإجابة يذكرها محمود حمدي زقزوق، مقررا أن الأوروبيين –في غالبيتهم- يستقون معلوماتهم عن الإسلام وعن الرسول من كتابات المختصين الأوروبيين الذين هم من فئة المستشرقين، وكذلك من كتابات الفلاسفة الأوروبيين، التي تستقي معلوماتها أيضا من المستشرقين. ويضيف بأن الاستشراق قد أفاد التراث العربي في الفهرسة والتحقيق، ولكن المستشرقين وقعوا في أغلاط شنيعة، تلقفها منهم بنو قومهم، وأيضا العلمانيون العرب الذين لم يدرسوا الإسلام من مصادره ولم يعرفوه حق المعرفة، وخُدِعوا بدعوات المناهج الجديدة، ونقد التراث الديني، كما أن كثيرا من المستشرقين لا يقرأون كتابات المسلمين المعاصرين التي تناقش أفكارهم، ويعتبرونها كتابات عاطفية، فالأمر بين الشرق والغرب هو حوار طرشان([11]).

  والأمر ذاته مع العلمانيين العرب، فحوارهم مع المفكرين الإسلاميين أشبه بحوار متكلمين بلغات غير مفهومة، كلٌ يطرح قضاياه وردوده فلا يعيها الطرف الآخر، ويظل الاثنان يتبادلان الاتهامات، بدون الوصول إلى أرضية مشتركة، أو هدف يمكن الاتفاق عليه، وكأن كل طرف متحصن فيما عنده، وله مصطلحاته ومفاهيمه التي يرى الطرف الآخر غير واع لها، وإن كنا نلاحظ استعلاء العلمانيين على الإسلاميين بما يسمونه المناهج البحثية الجديدة في قراءة الإسلام والتراث العربي، ويرون أن الإسلاميين ما هم إلا تراثيون لا يعون من علوم العصر إلا قليلا.

     وربما يقول قائل وهل الغرب يتعامل مع كل الأديان الأخرى بنفس هذه الروح العدائية المستحكمة، التي تعتمد على أكاذيب، أو الصورة المغلوطة؟

   يأتينا الرد من زقزوق الذي يقرّ أن الإسلام عامة، والرسول خاصة، لهما ميراث أسود ونظرة عمياء عند الغرب، على عكس موقف الاستشراق الغربي من البوذية والهندوسية، وسائر الأديان الوضعية، حيث يتعمد المستشرقون الموضوعية في النظر إليها، والتنقيب في المصادر الأصلية لهذه الأديان؛ دون أي تجريح لهذه الديانات أو الحط منها، على الرغم من أنها ليست سماوية، بل هي أقرب للوثنية.

  أما سهام النقد والتجني فتُوَّجه إلى الإسلام ورسوله؛ بقاموس لا ينتهي من الاستهزاء والتحقير، وفي المقابل فإن المسلمين يتعاملون مع المسيحية واليهودية بشكل موضوعي، فلا تسمح لهم عقيدتهم بالغمز واللمز في موسى وعيسى (عليهما السلام) لأنهما نبيانِ من الله سبحانه يتوجب لهما القداسة والتوقير([12]).

   ولذا، يلزم علينا الوقوف على الصورة الكاملة؛ أو بالأدق حقيقة صورة محمد في التراث الغربي، كيف نظروا إليه، وكيف تلقوا رسالته، وهو ما يستدعي النظر إلى الاستشراق الغربي من ناحية، وأيضا كتابات المؤرخين الغربيين، غير المستشرقين من ناحية ثانية، لننظر هل الصورة واحدة في كتابات الاستشراق والمفكرين والقساوسة، أم أن هناك اختلافا فمن اطلع على كتب الشرق لا يستوي مع من لم يطلع.


[1]) حفريات المعرفة، ميشال فوكو، ترجمة: سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط2، 1987، ص127، 128

[2]) الفتوحات الإسلامية، د. صالح أحمد العلي، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، ط1، 2004، ص48.

[3]) المرجع السابق، ص 50، 51.

[4]) انظر: دوافع الفتوحات الإسلامية في العصرين الراشدي والأموي، د. عدي سالم الجبوري، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمّان، الأردن، 2011، ص108.

[5]) المعرفة التاريخية للغرب: مقاربات علمية وفلسفية وأدبية، قيس ماضي فِروّ، المركز العربي للسياسيات، الدوحة، قطر، ط1، 2013، ص182.

[6]) الفتوحات الإسلامية، مرجع سابق، ص52، 53.

[7]) نظرية الأنساق المتعددة: نحو نظرية أدبية ونقدية جديدة، د. جميل حمداوي، منشورات شبكة الألوكة الإسلامية، الرياض، 2006، ص12.

[8]) تراث الإسلام، جوزيف شاخت، كليفورد بوزورث، ترجمة: محمد زهير السمهوري وآخرانِ، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، ط3، 1998، ج1، ص31، 32.

[9]) مدخل إلى نظرية الأنساق، نيكولاس لوتمان، ترجمة: يوسف فهمي حجازي، منشورات الجمل، ألمانيا- بغداد، 2010، ص63- 65.

[10]) النقد الثقافي: تمهيد مبدئي للمفاهيم الثقافية، أرثر أيزابرجر، ترجمة: وفاء إبراهيم، رمضان بسطاويسي، المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003، ص124.

[11]) الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، د. محمود حمدي زقزوق، دار المعارف، القاهرة، 1997، ص12، 13.

[12]) الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1987، ص14.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.