خطبة بعنوان: فضيلة الرجوع إلى الحق بين ثقافة الاعتذار ووقاحة الاستكبار (من خلال غزوة بدر الكبرى)
خطبة بعنوان: فضيلة الرجوع إلى الحق بين ثقافة الاعتذار ووقاحة الاستكبار (من خلال غزوة بدر الكبرى) للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
خطبة بعنوان:
فضيلة الرجوع إلى الحق بين ثقافة الاعتذار ووقاحة الاستكبار
(من خلال غزوة بدر الكبرى)
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله الذي جعل الرجوع إلى الحق فضيلة، والاعتراف بالخطأ قضية نبيلة، كما جعل الإصرار على الباطل رذيلة، وجحود الحق كبرا وجهالة، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الصفات الجليلة الجميلة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}، وأشهد أن سيدنا محمدا أفضل من أكرم الله بالنبوة والرسالة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين حاربوا الجهالة والضلالة، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم لا تنفع فيه قوة ولا حيلة…
اللهم اجعلنا من الذين إذا اقترفوا اعترفوا، وإذا اعترفوا اعتذروا، وإذا اعتذروا استغفروا، وإذا استغفروا تابوا، وإذا تابوا قُبِلوا
{رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ}.
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
ها هو رمضان قد ذهب نصفه الأول تقريبا، وكنا في بدايته نقول: أهلا يا رمضان، واليوم يحق لنا أن نقول: مهلا يا رمضان، وموضوع خطبة اليوم هو: “فضيلة الرجوع إلى الحق؛ بين ثقافة الاعتذار ووقاحة الاستكبار”، وبعد أيام ستحل بنا -إن شاء الله- ذكرى غزوة بدر الكبرى؛ تلك الغزوة التي كانت أول انتصار للرسولﷺ على الذين ظلموه وحاربوه، وأخرجوه من مكة موطنه وأحب البلاد إليه، وقد بنىﷺ انتصاره هذا على أسس متينة وقواعد ثابتة ومبادئ قوية؛ منها: الأخذ بالاستخبارات لمعرفة قوة العدو، وتوحيد الكلمة على أساس كلمة التوحيد، والأخذ بالشورى لجمع الآراء، والمساواة بين أفرد الجيش، واتخاذ المبادرة، والقبول بالحق ولو كان على النفس مُرًّا، ومشاركة القائد فعليا في المعركة، والتوكل التام على الله تعالى مع اتخاذ الأسباب وكافة الاحتياطات، والإلحاح في الدعاء..
كل هذا طبقه الرسولﷺ في معركة بدر، ولن ندخل معكم اليوم في تفاصيل هذه القواعد كلها؛ ولكن دعونا نختر لكم قاعدة واحدة من هذه القواعد لنصلح بها أنفسنا ونتخذها أسوة في معاملاتنا، ألا وهي: “فضيلة الرجوع إلى الحق”، وقد جاء ذلك في واقعتين من هذه
الغزوة:
● الواقعة الأولى: لما وصلﷺ بدرا أمر الجيش بالنزول أسفل الوادي، بينما العدو أعلاه، وهنا قامت المعارضة يقودها الصحابي الجليل الحُبَاب بن المنذر، فقال: يا رسول الله! أهذا منزل أنزلكه الله: أي أمرك الله بالنزول فيه، فليس من حقنا حينئذ أن نعارض، فما علينا إلا السمع والطاعة؟ أم هو مجرد رأيك في الحرب والمكيدة؟ فقالﷺ: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، وحينئذ اعترض حباب بن المنذر فقال: لا يا رسول الله ليس هذا بالمكان الاستراتجي فارحل بنا حتى نكون أعلى الوادي فهناك سوف نتمكن من مصادر المياه، فنبنبي سدا أو قليبا نمنع به عن العدو المياه، فنشرب ولا يشربون، فتراجع الرسولﷺ عن رأيه وأخذ بهذا الاقتراح وقال: نِعْمَ الرأيُ، فأدى ذلك إلى الانتصار.
● الواقعة الثانية: نتعلم منها أنه لا أحد تحت قيادة الرسولﷺ فوق الشرع والقانون، نتعلم منها أن الحاكم يجب عليه إذا ظلم أن يُمَكِّن نفسه من مظلومه حتى يأخذ منه حقه، حدث ذلك في غزوة بدر عندما كانﷺ يسوي صفوف المقاتلين قبيل المواجهة، فمر بصحابي اسمه سواد بن غزية وهو خارج من الصف، فضربهﷺ ضربا خفيفا بعصا في بطنه وقال: استو يا سواد! وهنا يعترض سواد ويقول: أوجعتني يا رسول الله وقد بعثك الله بالحق والعدل، فامنحني فرصة آخذ منك بحقي! وفورا ودون تردد كشف له الرسولﷺ عن بطنه الشريفة فقال: خذ يا سواد! والصحابة ينظرون وقد أفزعهم الموقف، وأذهلهم الأمر، فكيف يسمحون أن يضرب رسول اللهﷺ؛ ولكن هذا الصحابي فاجأ الجميع حين اعتنق بطن المصطفىﷺ يقبله، فقال لهﷺ: ما حملك على هذا يا سواد؟ فقال: يا رسو ل الله لقد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك في حياتي أن يمس جلدي جلدك! إنه موقف إيماني غني عن التعليق، منه ندرك عمق محبة المصطفىﷺ في قلوب أصحابه.
ومن هاتين الواقعتين نتعلم أن أحكام شرع الله الثابتة بالنص لا يجوز بحال من الأحوال معارضتها، وأن المعارضة إنما تجوز في الآراء البشرية، وقد ولدت بولادة الإسلام، وتشكلت في صفوف الصحابة مند الوهلة الأولى، فهي لست وليدة هذا العصر، بل فتح لها الرسولﷺ صدره، فاستمع لها ونزل على رأيها فيما لا وحي فيه من مسائل الدنيا، وطبقها الصحابة من بعده على أرض الواقع، وأن النبيﷺ يقبل بالمعارضة ولو كان ذلك يؤدي إلى إيذائه وضربه.
وعلى هذا الأساس فتح أبو بكر -رضي الله عنه- باب المعارضة في أول خطبة له بعد توليه الخلافة إذ قال: «إن أحسنت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني»، وعبر عنها سيدنا عمر-رضي الله عنه- وهو خليفة بأسلوب آخر حيث قال في إحدى خطبه: فماذا تفعلون لو رأيتموني زِغْتُ عن الطريق؛ فقال أحد الحاضرين: لو زغت عن الطريق يا أمير المؤمنين لقومناك بهذا مشيرا إلى السيف بيده؛ فقال عمر قولته المشهورة: «الحمد لله الذي جعل من رعيتي من إذا أخطأت قومني بسيفه».
أيها الإخوة المؤمنون؛ إن الأخطاء طبيعة بشرية سائدة، وصفة آدمية دائمة؛ فلا عصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة السلام؛ والرسولﷺ يقول: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون»؛ ولكن الاعتذار من أخلاق المؤمنين، ومن صفات الأبرار الطيبين، قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى الله أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ}؛ إنهم يخطئون؛ ولكنهم في الحال يعترفون ويعتذرون، ويتوبون ويستغفرون…
والاعتذار مظهر حضاري جميل لا يحسنه إلا العقلاء العظماء، يدل على احترام الإنسان لنفسه قبل كل شيء، كما يدل على تقديره لغيره، فلا ينبغي لأي عاقل أن يترفع عن الاعتذار، أو يمتنع عن الاعتراف، فإن الإصلاح إنما يبدأ بالاعتراف بالخطأ أولا، ثم بالاعتذار عنه ثانيا، فقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه قوله: «أعقل الناس أعذرهم للناس»، وقد أصّل رسول اللهﷺ لثقافة الاعتذار بين الناس، ووضع لها القاعدة والأساس، حينما نهىﷺ عن الهجر فوق ثلاث ليال، وجعل لمن بادر بالاعتذار وإلقاء السلام الفضل والنوال، فقالﷺ: «لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان فيُعرض هذا ويُعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام»، والاعتذار يكون بعبارات جميلة، وكلمات حسنة رقيقة، قال تعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
والاعتذار حسنة تُدْرَأُ بها السيئاتُ، وتنتشر بها المودات، والاعتراف بالخطأ دليل على صفاء في النفوس، ورقي أخلاقي حضاري بين الناس، دليل على سماحة في الأخلاق، وسمو في الأذواق، دليل على نضج في العقل والتفكير، ورغبة في الصلاح والتغيير، فإن لكل فكرة نافذة فكرةً ناقدةً، والمؤمن الصادق لا يجد في نفسه غضاضة أو نقصا حينما توجه إليه الانتقادات، ولا يشعر بأي حرج حينما يقر بذنبه في شجاعة وصدق؛ ويرجع إذا تبين له الحق، لا يتأخر عن الانقياد للحقيقة، ولا يتوانى في ذلك لحظة؛ طالبا من وراء ذلك العفو والصفح والغفران؛ سواء كان خطؤه في جنب الرحمن أم كان في حق أخيه الإنسان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ الناس باعتبار الرجوع إلى الحق أصناف ثلاثة:
• الصنف الأول: من الناس من إذا ارتكب الخطأ أصر عليه ورفض الاعتراف به والاعتذار منه، فهذا في ظلمة عنادية؛ والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ الله وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}؛ ولا يصر على الأخطاء إلا ضعاف الإيمان، الذين يبحثون عن مبررات ومسوغات واهية، وحجج باطلة لاغية، وهدفهم الهروب من الحقيقة، وعدم قبول الحق، وقد بيّن رسول اللهﷺ أن ذلك صفة من صفات المتكبرين المتعجرفين المرجفين، كما في الحديث الذي رواه الإمام مسلم قالﷺ: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله؛ إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا، ونعله حسنة؟ فقالﷺ: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر: بَطَر الحق، وغَمْط(1) الناس»؛ وبَطَر الحق يعني: الطغيان واعتبار الحق باطلا، ودفعه ورده وعدم قبوله عنادا وفسادا، وغمط الناس يعني: احتقارهم والحط من قدرهم وقيمتهم، فالذي لا يقبل الحق أو يحتقر أحدًا من الناس هو من المتكبرين المعاندين؛ والله تعالى يقول: {وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِم بَطَرٗا وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ}.
• الصنف الثاني: من الناس من إذا ارتكب الخطأ اعترف به؛ ولكنه يبقى مصرا عليه؛ كما نرى في الكثير من الذين ابتلوا بارتكاب بعض المخالفات كالتدخين مثلا، حينما تحاروه وتنصحه وتقدم له دلائل الإقناع من أجل الإقلاع؛ يقول لك أعرف كل هذا وأعترف به، ولكنني ضعيف لا أستطيع، وبعض الناس لا يقبل الحق ولا يرضى به لمجرد أنه صدر من ابنه، أو من زوجته، أو من أحد تلاميذه، أو من أحد عماله في شركته…
• الصنف الثالث: من الناس من إذا ارتكب الخطأ اعترف به واعتذر عنه وتاب وندم وابتعد، وإن كان يظنه في البداية خيرا فتبين له لاحقا غير ذلك؛ وفي الحديث المتفق عليه أنهﷺ قال: «وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفِّر عن يمينك وائتِ الذي هو خير»، وهذا من صفات الأنبياء، ومن حذا حذوهم من الصالحين والأولياء؛ والقرآن الكريم ذكر لنا أمثلة كثيرة لاعتذارات الأنبياء وهم أرفع الناس مقامًا، وأعلاهم درجة، ترسيخًا لسلوك الاعتذار، فقد اعتذر آدم وزوجه حواء -عليهما السلام-: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ}، واعتذر نبي الله نوح -عليه السلام-: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنْ الْخَاسِرِينَ} واعتذر نبي الله موسى -عليه السلام- قائلاً: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}، واعتذر نبي الله يونس -عليه السلام- وهو في بطن الحوت مرددا: {لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنْ الظَّالِمِينَ}…
فما أجمل أن تنتشر ثقافة الاعتذار في مجتمعنا بكل مكوناته؛ من بيوتنا، ومعاملنا ومدارسنا ومساجدنا؛ فيعتذر الصديق لصديقه إذا أخطأ في حقه، وكذلك الأب وولده، والأخ وأخيه، والأستاذ وتلميذه، والمدير وموظفه، والزوج وزوجته، وذلك بكلمة تبعث في نفس الطرف الآخر الرضا والقرار، وتشعره بإعادة الاعتبار، وتوثق بينهما عرى المحبة والاستقرار، وقد روي عن أبي الدرداء أنه قال لزوجته أم الدرداء -رضي الله عنهما: «إذا غضبتُ أرضيتك، وإذا غضبتِ فأرضيني، فإنك إن لم تفعلي ذلك فما أسرع ما نفترق» وبذلك يكون الأبوان قدوة لأولادهما في الاعتذار والتناصح، والعفو والتسامح، والحب والتصالح؛ والمسلم الصالح هو الذي يزن نفسه باستمرار، وإن أدرك أنه أساء أو قصر في حق بادر بالاعتذار، فإن حسن الاعتراف يهدم الاقتراف، وإن التراجع عن الخطأ بالاعتذار، خير من التمادي في الباطل بالاستكبار…
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) قال الإمام النووي في شرح مسلم (2/ 90): “وغمط الناس هو بفتح الغين المعجمة وإسكان الميم وبالطاء”.