هل تنتهي عدة المرأة من الوفاة أو الطلاق بالسِّقط والإجهاض؟
الشيخ عبد الله بنطاهر السوسي التناني
هل تنتهي عدة المرأة من الوفاة أو الطلاق بالسِّقط والإجهاض؟
بقلم: الشيخ عبد الله بنطاهر السوسي التناني
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعد، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه ورشده.
وبعد؛ فقد سألني أحد الإخوة عن المرأة الحامل: هل تنتهي عدتها من الوفاة أو الطلاق إذا سقط حملها، أو أجهضت للضرورة؟ وهل تصدق المرأة إذا ادعت انتهاء عدتها؟
الجواب والله الموفق للصواب:
● أولا: لا بد من التنبيه إلى أن الإجهاض لا يجوز عند جمهور العلماء إلا لأحد أمرين: الخوف على حياة المرأة الحامل، أو الخوف على صحتها؛ حينئذ يتم التضحية بإنسان متوقع وهو الجنين حفاظا على الإنسان الواقع وهو المرأة الحامل؛ وهذا من غير تقييد بزمن معين؛ لا أربعين يوما ولا أقل ولا أكثر، وهذا هو الراحج الذي ينبغي أن يصار إليه؛ لأن الإجهاض قتل ونزع لهبة الحياة التي وهبها الله للإنسان(1).
● ثانيا: لا بد من التنبيه أيضا على أن المسائل الفقهية المتعلقة بالصحة يجب الرجوع فيها إلى الطبيب قبل الجواب؛ مثل: الحمل ومدته، والولادة والسقط، والعيوب الزوجية البدنية، والحيض والنفاس، وصيام المريض وتيممه، والحجامة…؛ لأن الطب اليوم قد تطور، فأصبح كثير من الحالات المعقدة فيما سبق، منحلة اليوم في التطور الطبي بما حقق، وذلك بعمليات جراحية بسيطة محترفة، أو بإجراء تحاليل مخبرية متوفرة، أو بوصفات دوائية متوافرة؛ ومن هذه المسائل: العلم بأن المرأة حامل، ومتى بدأ حملها، وأن حملها قد سقط، ومتى سقط، وكيف سقط، أو أنها حائل لم تحمل أصلا؟
وإن من العيب بمكان أن يفتي الفقيه في هذا العصر بما تعلمه الفقهاء القدماء من أطباء عصرهم قبل قرون، دون أن يرجع هو إلى معاصريه من الأطباء؛ لأن هذا نوع من التخلف الفقهي؛ فكيف يعيش الفقيه بجسده مع الطب المتطور الذي يشخص العلل بالأجهزة والتحليلات؛ ولكن عقله يستقي معلوماته مما تجاوزه الزمن من الطب القديم المبني على الظنون والتخمينات؟!
مثلا: هل يمكن اليوم أن نأخذ بقول أبي الحسن الصغير في شرحه على المدونة حين قال: “إن أشكل أمر الخارج منها: هل هو ولد أم دم؛ اختبر بالماء الحار؛ فإن كان دما انحلَّ، وإن كان ولدا لا يزيده ذلك إلا شدة”(2)؟! فهذا يلائم عصره رحمه الله ولا يلائم عصرنا.
● ثالثا: أجمع العلماء على أن السِّقط إذا ظهر على الشكل الآدمي من الرأس واليد والرجل؛ فإنه تنقضي به العدة كما تنقضي بالحمل العادي؛ قال ابن المنذر: “أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي بالسقط تسقطه إذا علم أنه ولد”(3)؛ سواء سقط لمرض أو أُسقِط بالإجهاض، وسواء في عدة الوفاة أو عدة المطلقة؛ لأنه حمل وقد قال الله تعالى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}(4).
● رابعا: اختلفت المذاهب الأربعة في السقط إذا لم يظهر على الشكل الآدمي؛ بأن كان مجرد نطفة أو دم أو علقة أو مضغة حسب التالي:
• المالكية قالوا: تنقضي العدة بما أسقطت المرأة مما يَعْلَم النساء أنه جنين؛ سواء كان نطفة أو دما أو علقة أو مضغة مخلقة أوغير مخلقة(5)؛ قال الإمام مالك: “ما أتتْ به النساءُ من مضغة أو علقة أو شيء يُسْتَيْقَنُ أنه ولد فإنه تنقضي به العدة(6)، وقال أيضا: “إذا ألقتْه فعُلِمَ أنه حملٌ وإن كان مضغة أو علقة أو دما؛ ففيه الغُرَّةُ وتنقضي به العدة”(7).
قال القاضي عبد الوهاب: “دليلنا: أنه أول خلق الآدمي مستحيل من النطفة، فوجب إذا ألقته أن تنقضي به عدتها، كما لو بان فيه تخطيط، ولأنه ينطلق عليه اسم الحمل والإسقاط؛ فوجب أن تنقضي به العدة كالولد”(8).
وقال القرطبي المفسر: “لأنَ مُسْقِطَة العلقة والمضغة يصدق على المرأة إذا ألقتْه أنها كانت حاملا وضعت ما استقرَّ في رحمها، فيشملها قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}، ولأنها وضعت مبدأ الولد عن نطفة متجسدا كالـْمُخَطَّطِ؛ وهذا بَيِّنٌ”(9).
• الحنفية قالوا: يشترط لانقضاء العدة أن يكون السِّقط قد استبان خلقه أو بعضه؛ فإن لم يستبن رأسا بأن أَسْقَطَتْ المرأة علقة أو مضغة غير مخلقة لم تنقض العدة؛ لأنها لم تتغير؛ فلا يُعْرَفُ كونُها متغيرة بيقين إلا باستبانة بعض الخلق(10)، ولأنه إذا لم يستبن وقع الشك في وضع الحمل والعدة لا تنقضي بالشك، ولا عبرة عندهم بشهادة النساء كن أربعا أو أكثر أو أقل واعتبروه لا شئ؛ لأنهن لم يشاهدْنَ انخلاق الولد في الرحم ليقسْنَ هذا عليه فيعرفْنَ، وكذا لا عبرة عندهم باختبار السقط بالماء الحارِ، فإن انحل فليس بولد، وإن لم ينحلَّ فهو ولد، واعتبروه رأيا فاسدا(11).
• الشافعية قالوا: تنقضي العدة بانفصال الجنين الكامل، ولا تنقضي بإسقاط العلقة والدم؛ أما لو أسقطت مضغة؛ فإن ظهر فيها شيء من صورة الآدميِ، كيد، أو أصبع، أو ظفرٍ وغيرها، فتنقضي بها العدة، وإن لم يظهر فيها شيء من ذلك؛ فإن شهد أربع قوابل من أهل الخبرة والمعرفة والعدالة من النساء بأنه صورة جنين لم يكتمل؛ فتقبل شهادتهن ويحكم بانقضاء العدة وسائر الأحكام، وإن لم يتبين لهن شيء فلا تنقضي عدتها(12).
• الحنابلة قالوا: تنقضي العدة بانفصال الجنين الكامل، أو إذا ألقت مضغة لم تظهر فيها الخِلقة فشهد الثقات من النساء القوابل أنها خِلقة آدمي، وأما لو ألقت نطفة أو دما لا يعرف هل هو ما يُخْلَقُ منه الآدمي أو لا؛ فلا يتعلق به شيء من الأحكام؛ لأنه لم يثبت أنه ولد؛ لا بالمشاهدة ولا بالبينة(13).
● خامسا: اتفقت المذاهب الأربعة على أن المرأة تُصَدَّق إذا ادعت أن عدتها قد انقضت بانتهاء أقرائها أو بسقوط حملها؛ لأن النساء مأمونات على فروجهن؛ فقد ائتمنهن الله تعالى في هذا الباب(14) في قوله سبحانه: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(15).
جاء في مدونة سحنون: “فسر أهل العلم أن الذي خلق الله في أرحامهن لا يحل لهن أن يكتمنه الحيضةُ والحَبَلُ؛ فيجعل العدة إليهن بما حرم الله عليهن من كتمانها”(16)، وقال الكاساني: “نَهَاهُنَّ -سبحانه وتعالى- عن الكتمان، والنهي عن الكتمان أمر بالإظهار؛ إذ النهي عن الشيء أمر بضده، والأمر بالإظهار أمرٌ بالقبول لتظهر فائدة الإظهار؛ فلزم قبول قولها وخبرها بانقضاء العدة”(17).
ولكن القاضي عياض نقل عن بعض العلماء: “ليس في الآية دليل واضح على أمانتها، وليس في نهيهن عن كتم ما في أرحامهن دليل على ائتمانهن، كما ليس فيه دليل على غيره من الأحكام؛ وإنما الحجة فيه الإجماع”(18)؛ وانفرد الرجراجي القائل: لا تُصَدَّقُ إذا ادعت انقضاء العدة بوضع سِقْط(19).
وعلى أي حال؛ سواء كان الاستدلال بالآية أو بالإجماع؛ فإن المرأة إذا ادعت أن عدتها قد انقضت؛ يكون القول قولها بلا يمين على المشهور(20)، ولا حاجة لسؤال النساء(21)؛ قال الإمام مالك: “وأما السِّقط؛ فإن الشأن فيه أنهن فيه مأمونات على ذلك، ولا تكاد تُسْقِطُ المرأة إلا علم بذلك الجيران؛ ولكن الشأن في ذلك أن يُصَدَّقْنَ، ويكون القولُ قولَها”(22)، وقال أيضا: “إذا ادعت أن عدتها قد انقضت في مقدار ما تنقضي فيه العدة صُدِّقَتْ”(23)، وقال الشيخ خليل: “وَصُدِّقَتْ فِي انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْقَرْءِ وَالْوَضْعِ بِلَا يَمِينٍ”(24).
وقيل: القول قولها بيمينها(25) قال به ابن مغيث القرطبي(26)، وهو مذهب الحنفية والشافعية والحنابلة(27)، وعليه درج ابن عاصم حين قال في التحفة:
وَمَنْ يُطَلِّــــقْ طَلْقَــــــةً رَجْعِيَّة * ثُمَّ أرَادَ العَــوْدَ لِلزَّوْجِيَّـــــــــــــــــــة
فَالقَوْلُ للزَّوْجَــــــــــــةِ واليَمِيـنُ * عَلَى انْقِضَـــــــــاءِ عِــــــــــدَّةٍ تُبِينُ
وَمَا ادَّعَتْ من ذَلِك الْمُطلقَة * بالسِّقْطِ فَهْيَ أبَداً مُصَدَّقَة(28)
● الخلاصة: يمكن في هذا العصر توحيد المذاهب الأربعة في انتهاء العدة بالسِّقط؛ سواء سقط لمرض أو بإجهاض؛ بناء على الخبرة الطبية التي تثبت يقينا بما لا مجال فيه للشك بأن المرأة حامل قد سقط حملها ولو كان نطفة بعد تلقيح البويضة بالحيوان المنوي؛ لأن مدار ذلك عند المذهب الأربعة على العلم بالحمل وسقوطه يقينا من غير شك.
فالمالكية قالوا: تنقضي العدة بما أسقطت المرأة مما يعلم النساء أنه جنين(29)، والحنفية قالوا: لا تنقضي بالسِّقط إلا إذا تبين خلقه من أجل الشك وعدم اليقين(30)، والشافعية قالوا: تنقضي إذا شهد أربع قوابل من أهل الخبرة والمعرفة والعدالة من النساء بأن السِّقط جنين لم يكتمل(31)، والحنابلة قالوا: إذا شهد الثقات من النساء القوابل بأن السِّقط خِلقة آدمي(32)
وهذا كله يمكن التثبت منه بواسطة التحليلات الطبية؛ وعليه فإذا ثبت طبيا أن المرأة حامل في أي مرحلة من مراحل الحمل؛ نطفة أو علقة أو مضغة مخلقة أو غير مخلقة، وأن حملها قد سقط؛ فإن عدتها قد انتهت، وهذا ما أخذت به مدونة الأسرة بالمغرب في (المادة 133)؛ ونصها: “تنتهي عدة الحامل بوضع حملها أو سقوطه”(33).
والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب.
الهامـــــــــــش:
(1) عندي في هذه المسألة جواب مفصل في صفحة “نفحات من الفقه المالكي” على الفيسبوك بعنوان: (خطورة الإجهاض ونفخ الروح في الجنين على رأس 40 يوما، وليس 120 يوما).
(2) شرح الزرقاني على مختصر خليل وحاشية البناني: (4/367)، وحاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: (2/83)، ومنح الجليل شرح مختصر خليل لعليش: (4/309).
(3) الإشراف على مذاهب العلماء لابن المنذر (5/ 352)، والإجماع له أيضا: (ص: 91)، والإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان: (2/45)، والمجموع شرح المهذب: (18/127).
(4) سورة الطلاق: الآية 4.
(5) تهذيب المدونة للبرادعي: (2/379)، والجامع لمسائل المدونة لابن يونس: (9/457).
(6) المدونة لسحنون: (2/237).
(7) نفس المصدر: (4/630).
(8) الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب: (2/797).
(9) تفسير القرطبي: (12/ 10 و11).
(10) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم: (4/147).
(11) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني: (3/ 196).
(12) المهذب للشيرازي: (3/118)، والتهذيب في فقه الإمام الشافعي للبغوي: (6/243)، والمجموع شرح المهذب: (18/127 و128)، وروضة الطالبين للنووي: (8/376).
(13) المغني لابن قدامة: (8/119 و120).
(14) شرح مختصر خليل للخرشي المالكي: (4/86)، وبدائع الصنائع للكاساني الحنفي: (3/186)، والحاوي الكبير للماوردي الشافعي: (11/179)، والمغني لابن قدامة الحنبلي: (7/525).
(15) سورة البقرة: الآية: 228.
(16) المدونة لسحنون: (2/235 و236).
(17) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للكاساني الحنفي: (3/186).
(18) التنبيهات المستنبطة على الكتب المدونة والمختلطة للقاضي عياض: (2/710).
(19) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: (2/422).
(20) البهجة في شرح التحفة للتسولي: (1/596 و597).
(21) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: (2/423).
(22) المدونة لسحنون: (2/235)، والمختصر الفقهي لابن عرفة: (10/408).
(23) المدونة لسحنون: (2/236)، وتهذيب المدونة للبرادعي: (2/378).
(24) الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي: (2/422).
(25) حاشية الصاوي على الشرح الصغير: (2/613)، وضوء الشموع شرح المجموع للأمير الكبير: (2/458)، والبهجة في شرح التحفة للتسولي: (1/596).
(26) ابن مغيث هو: أبو الوليد يونس بن محمد بن مغيث القرطبي المالكي(ت429هـ)، الإمام العالم الصالح الفقيه الحافظ، أخذ عنه جماعة من العلماء منهم: الباجي وابن عبدالبر، وله كتاب المقنع في علم الشروط، وهو مطبوع. انظر: شجرة النور لمحمد مخلوف: (1/168).
(27) المبسوط للسرخسي الحنفي: (6/ 24)، والحاوي الكبير للماوردي الشافعي: (11/179)، وروضة الطالبين للنووي الشافعي: (8/377)، ووبل الغمامة في شرح العمدة لابن قدامة الحنبلي: (6/407).
(28) البهجة في شرح التحفة للتسولي: (1/595 – 597).
(29) الجامع لمسائل المدونة لابن يونس: (9/457).
(30) البحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم: (4/147).
(31) المهذب للشيرازي: (3/118)، والتهذيب في فقه الإمام الشافعي للبغوي: (6/243).
(32) المغني لابن قدامة: (8/119 و120).
(33) انظر: كتابي: شرح مدونة الأسرة في إطار المذهب المالكي وأدلته: الكتاب الثاني: الطلاق: (ص: 234).