حجة المالكية في تحديدهم وجوب ترتيب الفوائت مع الحاضرة إذا كانت أقل من خمس صلوات؟ | سلسلة يسألونك
الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
حجة المالكية في تحديدهم وجوب ترتيب الفوائت مع الحاضرة إذا كانت أقل من خمس صلوات؟ | سلسلة يسألونك
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
نص السؤال
وبعد؛ فقد سألني أحد الإخوة الأئمة عن حجة المالكية في قولهم بوجوب ترتيب الفوائت من الصلوات مع الحاضرة إذا كانت أقل من خمس صلوات؛ لماذا خمس صلوات بالذات وليس ثلاثا أو ستا مثلا؟
نص الجواب والله الموفق للصواب
يجب أن نعلم بداية أن الفقهاء عموما وفي جميع المذاهب لا يطلقون الأحكام الشرعية بناء على الهوى والتشهي؛ بل ينطلقون في ذلك من الأدلة النقلية والعقلية؛ فكل حكم صدر عنهم لا بد أن يكون له مصدر شرعي معتبر:
● أولا: الترتيب بين الصلوات الخمس بناء على المشهور من المذهب ثلاثة أنواع:
الأول: ترتيب واجب شرط
بمعنى: أنه لا تجوز مخالفته لأنه واجب، ولا تصح الصلاة بمخالفته لأنه شرط؛ ويكون في الحاضرتين المشتركتي الوقت الضروري: الظهر والعصر، فوقتهما الضروري يمتد إلى غروب الشمس، والمغرب والعشاء فوقتهما الضروري يمتد إلى طلوع الفجر؛ فلا يجوز تقديم العصر على الظهر عمدا ولا يصح، وكذلك تقديم العشاء على المغرب؛ وله ثلاث حالات بطلت الصلاة الأخيرة في حالتين وصحت في واحدة:
أ) من تعمد ترك الصلاة الأولى من مشتركتي الوقت (الظهر أو المغرب) حتى صلى التالية (العصر أو العشاء) وجب عليه أداء الأولى مع وجوب إعادة التالية بعدها؛ لأنه تعمد التنكيس الكلي فتبطل التالية.
ب) من نسي الأولى منهما (الظهر أو المغرب) وتذكرها وهو في التالية (العصر أو العشاء) وجب عليه أداء الأولى مع وجوب إعادة التالية؛ لأنه حين تذكر الأولى وهو في الصلاة التالية يكون قد تعمد التنكيس الجزئي فتبطل التالية.
ج) من نسي الأولى -(الظهر أو المغرب) ولم تذكرها حتى سلم من التالية -(العصر أو العشاء) وجب عليه أداء الأولى مع استحباب إعادة التالية في الوقت(1) الضروري على المشهور(2)؛ لأنه لم يتعمد التنكيس الكلي ولا الجزئي، وإنما سقط شرط الترتيب نسيانا؛ وأثر النسيان مرفوع عن الأمة؛ لقول النبيﷺ: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه»، وفي رواية: «تجاوز الله عن أمتي…»، وفي رواية: «عفا لي عن أمتي»(3).
الثاني: ترتيب واجب غير شرط
بمعنى: أنه لا تجوز مخالفته لأنه واجب؛ ولكن تصح الصلاة لو وقع ونزل لأنه غير شرط، مع الإثم في العمد لكونه ترك واجبا؛ وله حالتان:
1) ترتيب يسير الفوائت مع الحاضرة، ويسير الفوائت هي: خمس فأقل، وقيل: أربع فأقل؛ فمن نسي صلاة الصبح مثلا حتى صلى الظهر وجب عليه أداء صلاة الصبح مع إعادة الظهر؛ فإن لم يفعل أساء وصحت له صلاة الظهر.
2) ترتيب الفوائت فيما بينها قليلة كانت أو كثيرة؛ فيجب تقديم الصبح ثم الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء وهكذا؛ فمن نسي مثلا صبح يوم فائت وظُهرَه ثم تذكر ذلك فإنه يصلي الصبح ثم الظهر، ولا يجوز له أن يصلي الظهر قبل الصبح(4)؛ فإن نكس الترتيب عمداً أثِم وصحَّت التي قدمها ولا يعيدها لخروج وقتها، أما إن نكس ناسياً فلا إثم عليه.
الثالث: ترتيب ليس بواجب ولا بشرط
بمعنى: أنه تجوز مخالفته من غير إثم لأنه غير واجب، وتصح الصلاة لو وقع ونزل لأنه غير شرط؛ ويكون في ترتيب الفوائت الكثيرة ست فأكثر مع الحاضرة.
● ثانيا: المالكية اعتبروا أربع صلوات من اليسير اتفاقا وست صلوات من الكثير اتفاقا، واختلفوا في خمس صلوات: هل هي من الكثير، أو من اليسير.
1) أما حجة من حدد اليسير بأربع صلوات؛ فهو ما روى الترمذي والنسائي عن أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «إن المشركين شغلوا رسول اللهﷺ عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله، فأمر بلالا فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء»(5).
وما روى ابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري قال: «حبسنا يوم الخندق عن الصلاة، حتى كان بعد المغرب بِهوِيٍّ من الليل(6)، حتى كفينا، وذلك قوله: {وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ ٱلۡقِتَالَۚ وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزٗا}(7)، فدعا رسول اللهﷺ بلالا فأقام الصلاة فصلىﷺ الظهر كأحسن ما كان يصليها، ثم أقام فصلى العصر مثل ذلك، ثم أقام فصلى المغرب مثل ذلك، ثم أقام، فصلى العشاء كذلك قبل أن تنزل صلاة الخوف: {فَرِجَالًا أَوۡ رُكۡبَانٗا}(8)»(9).
قال الإمام المازري: “وأما وجه من حدَّ بأربع؛ فلأن النبيﷺ يوم الخندق إنما رتب أربع صلوات، ولم ينقل عنه ترتيب فوائت زائدة على هذا العدد؛ فوجب الاقتصار عليه”(10). وقال أيضا: “ولما قضى رسول اللهﷺ ما ترك من الصلوات التي حبسه المشركون عن فعلها، بدأ بالأول فالأول؛ فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء؛ وهذا يدل على صحة ما قلناه من وجوب ترتيب الفوائت”(11).
2) وأما حجة من حدد اليسير بخمس صلوات؛ فلأن الخمس هي صلوات اليوم بليله ونهاره من غير تكرار؛ قال الإمام المازري: “وأما المشهور من مذهبنا فالحجة له أنه عدد لا تكرير فيه؛ لأن الخمس صلوات مختلفات؛ فإذا زادت سادسة كانت السادسة كإحدى الخمس؛ والترتيب يسقط مع التكرير ويثبت مع عدمه، ولا يعدم إلا في الخمس فأقل؛ فوجب التحديد بها(12).
والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب.
الهامــــــــــش:
(1) المقدمات الممهدات لابن رشد الجد: (1/202).
(2) وقيل: في الوقت المختار. انظر: حاشية العدوي على كفاية الطالب الرباني: (1/328).
(3) رواه ابن ماجه والحاكم وصححه ووافقه الذهبي، وأورده النووي في الحديث التاسع والثلاثين من “الأربعين”، فقال: «حديث حسن»، أما المشهور في كتب الفقه والأصول بلفظ: «رفع عن أمتي…» فهو منكر بهذا اللفظ. انظر: سنن ابن ماجه: كتاب الطلاق: باب طلاق المكره والناسي: (رقم:2045)، والمستدرك للحاكم: (2/216): (رقم: 2801).
(4) شرح التلقين للمازري: (2/732).
(5) قال البيهقي: “هكذا رواه أبو عبيدة ابن عبد الله بن مسعود عن أبيه في هذه القصة…؛ إلا أن أبا عبيدة لم يدرك أباه، وهو مرسل جيد”. انظر: سنن الترمذي: كتاب الصلاة: باب ما جاء في الرجل تفوته الصلوات بأيتهن يبدأ: (رقم: 179)، وسنن النسائي: كتاب الأذان: باب الاجتزاء لذلك كله بأذان واحد والإقامة لكل واحدة منهما: (رقم: 662)، والسنن الكبرى للبيهقي: (3/133): (رقم: 1912).
(6) يقال: الهَوِّي من الليل بفتح الهاء بوزن (غَنِيٍّ)، والهُوي بضمها بوزن (ّرُقِـــيٍّ) أي: ساعة ممتدة منه. انظر: المحكم لابن سِيده: (4/451)، ولسان العرب لابن منظور: (15/372)، وتاج العروس للزبيدي: (40/330).
(7) سورة الأحزاب: (الآية: 25).
(8) سورة البقرة: (الآية: 237).
(9) قال الأعظمي: “إسناده صحيح”. صحيح ابن خزيمة: (3/100): (رقم: 1703).
(10) شرح التلقين للمازري: (2/738).
(11) شرح التلقين للمازري: (2/732).
(12) شرح التلقين للمازري: (1/738).