منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

حكم الصيام في النصف الأخير من شعبان |سلسلة يسألونك

الشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

0

حكم الصيام في النصف الأخير من شعبان |سلسلة يسألونك

للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

*نص السؤال*
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه ورشده.

أما بعد؛ فقد سألني كثير من الناس في هذه الأيام عن حكم صيام النصف الأخير من شعبان؛ هل يجوز أم لا؟ ومتى يجب أن يتوقف الصائم عن الصيام قبل رمضان؟ وهل يجوز أن يصل في الصيام شعبان برمضان؟ والبعض منهم في حيرة؛ بحيث يسمع من بعض الوعاظ: لا يجوز الصيام بعد منتصف شعبان؛ بينما البعض الآخر يقول: لا بأس؛ الشيء الذي أوقع بعض العوام في حيص بيص كما قال أحدهم.

*نص الجواب والله الموفق للصواب*

لا داعي للحيرة هنا؛ فقد اختلف العلماء في حكم صيام النصف الأخير من شعبان قديما، واختلافهم لا يؤدي إلى حيص بيص؛ بل هو رحمة وسَعَة، واختلافهم هذا لم يأت من فراغ، -وما كان اختلاف العلماء ليقع أبدا من فراغ-؛ فأصله اختلاف الأحاديث عن رسول اللهﷺ، وهي على قسمين: أحاديث القاعدة العامة، وأحاديث الاستثناء الخاص:

  • القسم الأول: أحاديث القاعدة العامة

التي تدل على أن صيام شعبان كله أو جله أو بعضه سنة ومطلوب شرعا ومرغب فيه ومستحب من غير استثناء؛ منها:

● ما روى الإمام مالك والبخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: قالت: «كان رسولُ اللهﷺ يصوم، حتى نقولَ: لا يفطر، ويفطر حتى نقولَ: لا يصوم، وما رأيتُ رسولَ اللهﷺ استكمل صيام شهر قطُّ إِلا شهر رمضان، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان»(1).

● في رواية الترمذي أنها قالت: «…كان يصومه إِلا قليلاً، بل كان يصومه كلَّه»(2)، ومثله في رواية أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه(3).

● ما روى الترمذي وحسنه عن أم سلمة -رضي الله عنها-: قالت: «ما رأيتُ رسولَ اللهﷺ يصوم شهرين متتابعين؛ إِلا شعبانَ ورمضانَ»(4).

● ما روى النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حجر(5)، عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: قلت يا رسول الله؛ لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قالﷺ: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر تُرفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»(6).

● ما روى أبو يعلى بسند حسن(7) عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: «قلت يا رسول الله؛ أحب الشهور إليك أن تصومه شعبان؟ قال: إن الله يكتب فيه على كل نفس ميّتة تلك السنة؛ فأحب أن يأتني أجلي وأنا صائم»(8).

● ما روى الترمذي وضعفه أن أنسا -رضي الله عنه- قال: «سئل رسول اللهﷺ أي الصوم أفضل بعد رمضان؟ قال: شعبان لتعظيم رمضان»(9).

  • القسم الثاني: أحاديث الاستثناء الخاص

التي تدل على أن سنية صيام شعبان يستثنى منه ما يلي:

أولا: إلا يوما واحدا فقط وهو يوم الشك؛ والمراد به اليوم الثلاثون من شعبان عند عدم ثبوت رؤية الهلال؛ دليله ما روى الشيخان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول اللهﷺ قال: «لا يتقدمنَّ أحدُكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إِلا أن يكونَ رجل كان يصومُ صومه فليصم ذلك اليوم»(10)؛ واختلف العلماء في صومه:

1) المشهور عند المالكية أن صيامه مكروه -وهو قول عند الشافعية-؛ فإن صامه بنية النافلة وعلى وجه التطوع أجزأه، وإن صامه بنية رمضان وعلى وجه الاحتياط خوفا أن يكون من رمضان لم يجزئه ولو ثبت أنه رمضان(11)؛ قال الشيخ خليل: “وَصِيمَ (أي: جاز صوم يوم الشك) عادة وتطوعا وقضاء ولنذر صادف؛ لا احتياطا”(12).

2) المشهور عند الشافيعة أن صيامه حرام؛ فإن صام بطل(12)، وبه قال ابن عبد السلام التونسي المالكي(12)؛ لما روى أبو داود والترمذي وصححه أن عمار بن ياسر قال: «من صام اليوم الذي يشك فيه الناس فقد عصى أبا القاسمﷺ»(15).

3) قال الحنفية: إن صامه بنية الفرض فهو حرام وبطل صيامه، وإن صامه بنية النافلة جاز وصح(16)، وهو رواية عند الحنابلة.

4) الرواية الأخرى عند الحنابلة: أن صيامه واجب، وأجزأ إن كان من رمضان، وإلا فنافلة(17)؛ لما روى أحمد والبيهقي عن عبد الله بن أبي موسى أنه سأل عائشة -رضي الله عنها- فقالتْ: «لَأن أصوم يوما من شعبان أحب إليَّ من أن أُفطِر يوما من رمضان. قال: فخرجتُ، فسألتُ ابن عمر وأبا هريرة؛ فكل واحد منهما قال: أزواج النبيﷺ أعلم بذاك منا»(18)؛ قال الهيثمي: “رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح”(19).
ملاحظة: الملاحظ هنا أن قول المالكية -في المشهور بالكراهة نظرا لاختلاف الأدلة- هو الوسط بين من قال بالتحريم أو الجواز أو الوجوب.

ثانيا: إلا يوما أو يومين؛ نظرا لاحتمال ثبوت الهلال في غروب اليوم التاسع والعشرين من شعبان ينبغي التوقف عن صيامه؛ ليكون آخر يوم للصيام هو الثامن والعشرون خشية اختلاط النفل بالفرض؛ إلا لمن كانت عادته صوم يوم معين -كالاثنين أو الخميس مثلا- فيجوز له ذلك؛ ودليله ما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول اللهﷺ قال: «لا يتقدمنَّ أحدُكم رمضان بصوم يوم أو يومين؛ إِلا أن يكونَ رجل كان يصومُ صومه فليصم ذلك اليوم»(20).

ثالثا: إلا النصف الأخير منه؛ لما روى أبو داود والترمذي وابن حبان عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول اللهﷺ يقول: «إِذا انتصف شعبان فلا تصوموا»(21)؛ واختلف فيه العلماء:

1) منهم من قال بجواز الصيام بعد النصف من شعبان مطلقا؛ بل هو مستحب مرغب فيه؛ لأن هذا الحديث فيه مقال؛ فقد صححه الترمذي وابن حبان، وقال أحمد وابن معين: إنه منكر(22)؛ وبناء عليه فلا يمكن تخصيصه للأحاديث الصحيحة السابقة الدالة على سنية صيام شعبان كله.

2) منهم من قال بالكراهة مطلقا؛ وعليه يكون الأولى التوقف عن الصيام بعد منتصف شعبان؛ احتياطا لرمضان حتى لا يلحق به ما ليس منه؛ فلهذا -كما قال ابن العربي في تعليقه على هذا الحديث- لا يجوز استقبال رمضان ولا اتباعه بصوم؛ فلا يحل اتصال الست من شوال بيوم الفطر ولكن يصومها متى شاء بعد ذلك(23)؛ وإنما كان النبيﷺ يصوم في شعبان أكثر مما يصوم في غيره لأنه ربما شُغل عن صيام الثلاثة أيام من كل شهر لسفر أو غيره، فيقضيها في شعبان(24).

3) منهم من قال بالكراهة للضعيف والمريض لئلا يتعبه الصيام، “وليتقوى بذلك على صيام الفرض في شهر رمضان”(25)؛ أما من كان من الأصحاء؛ فلا حرج أن يصوم النصف الأخير من شعبان.

4) منهم من قال بالكراهة إلا لمن كان يعتاد الصيام؛ مثل يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فلا بأس بالنسبة له أن يصوم ذلك من النصف الأخير من شعبان(26).

5) منهم من قال بالكراهة في حق “من لم يكن يصوم من أوله شيئا قبل انتصافه وأما من صام من أوله أو صامه كله فلا نهي”(27) ولا حرح بالنسبة له في صوم النصف الأخير أيضا.

ملاحظة: الاستثناء من الاستثناء: هذا الاستثناء بأنواعه يستثنى منه من كان عليه قضاء ما فات من صيام رمضان؛ فيجوز له أن يقضي ما عليه في شعبان من غير استثناء ولو في يوم الشك؛ قال الشيخ خليل: “ووجب القضاء بالعدد، بزمن أُبِيحَ صومه”؛ وقال شراحه: شمل يومَ الشك للإذن في صومه قضاء وتطوعا(28)؛ بدليل ما روى الإمام مالك والشيخان عن عائشة -رضي الله عنها-: قالت: «كان يكون عليَّ الصوم من رمضان؛ فما أستطيع أن أقضيَ إلا في شعبان؛ وذلك لمكانِ رسولِ اللهﷺ»(29).

الخلاصة: صيام شعبان سنة؛ إلا يوم الشك وهو اليوم الثلاثون منه؛ فلا ينبغي صومه حتى يُميز بين الفرض والنفل، هذا إذا لم يثبت هلال رمضان في اليوم التاسع والعشرين، ونظرا لاحتمال ذلك كان ترك صيام يومين قبل رمضان أولى.
أما ما بعد منتصف شعبان فيكره صومه للضعفاء حتى لا يتعبهم صيام رمضان فيضطروا لرخصة الأكل، أما الأصحاء فلا حرج؛ وخصوصا منهم من بدأ الصيام من النصف الأول من شعبان؛ ويجوز من غير كراهة لمن عليه قضاء رمضان أن يصوم ولو يوم الشك.

والله أعلم وهو سبحانه الموفق للصواب.


الهامـــــــش:

(1) الموطأ: كتاب الصيام: باب جامع الصيام: (رقم1098)، وصحيح البخاري: كتاب الصوم: باب صوم شعبان: (رقم1969)، وصحيح مسلم: كتاب الصيامك باب صيام النبيﷺ في غير رمضان: (رقم1156).
(2) سنن الترمذي: كتاب الصوم: باب ما جاء في وصال شعبان برمضان: (رقم737).
(3) سنن أبي داود: كتاب الصوم: باب كيف كان يصوم النبيﷺ: (رقم2435).
(4) سنن الترمذي: كتاب الصوم: باب ما جاء في وصال شعبان برمضان: (رقم736).
(5) فتح الباري لابن حجر: (4/215).
(6) سنن النسائي: كتاب الصوم: باب صوم النبيﷺ: (رقم2357).
(7) مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح للمباركفوري: (4/340).
(8) مسند أبي يعلى الموصلي: (8/311): (رقم4911)؛ قال الهيثمي في المجمع (3/192: رقم5156): “في الصحيح طرف منه” ثم قال في سند أبي يعلى “مسلمُ بن خالد الزَّنْجِيُّ، وفيه كلام، وقد وُثِّقَ”.
(9) سنن الترمذي: كتاب الزكاة، باب ما جاء في فضل الصدقة: (رقم663).
(10) صحيح البخاري: كتاب الصوم: باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين: (رقم1914)، وصحيح مسلم: كتاب الصوم: باب لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين: (رقم1082).
(11) الكافي لابن عبد البر: (1/348)، والتبصرة للخمي: (2/775).
(12) الشرح الكبير للشيخ الدردير: (1/513).
(13) المجموع شرح المهذب للنووي: (6/399 و400).
(14) الفواكه الدواني شرح الرسالة للنفراوي: (1/306)، وحاشية العدوي على شرح الرسالة: (1/444).
(15) سنن أبي داود: كتاب الصوم: باب كراهية صوم يوم الشك: (رقم2334)، وسنن الترمذي: كتاب الصوم: باب ما جاء في كراهية صوم يوم الشك: (رقم686).
(16) المبسوط للسرخسي: (3/60 و61)، وبدائع الصنائع للكاساني: (2/78).
(17) المغني لابن قدامة: (3/108).
(18) مسند أحمد: (41/421): (رقم24945)، والسنن الكبرى للبيهقي: (8/440): (رقم8050).
(19) مجمع الزوائد للهيثمي: (3/148): (رقم4826).
(20) صحيح البخاري: كتاب الصوم: باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين: (رقم1914)، وصحيح مسلم: كتاب الصوم: باب لا تتقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين: (رقم1082).
(21) سنن أبي داود: كتاب الصوم: باب في كراهية من يصل شعبان برمضان: (رقم 2337)، وسنن الترمذي: كتاب الصوم: باب ما جاء في كراهية الصوم في النصف الثاني من شعبان لحال رمضان: (رقم 738)، وصحيح ابن حبان: (8/355): (رقم3589).
(22) فتح الباري لابن حجر: (4/129).
(23) القبس في شرح الموطأ لابن العربي: (ص: 486 و487)، والمسالك شرح موطأ له أيضا: (4/163).
(24) مواهب الجليل للحطاب: (2/411)، وفتح الباري لابن حجر: (4/214).
(25) معالم السنن للخطابي: (2/100).
(26) شرح مسلم للنووي: (7/194)، وفتح الباري لابن حجر: (4/128 و129 و215).
(27 التنوير شرح الجامع الصغير للأمير الصنعاني: (1/603).
(28) منح الجليل شرح مختصر خليل لعليش: (2/152).
(29) الموطأ: كتاب الصيام: باب جامع قضاء الصيام: (رقم1094)، وصحيح البخاري: كتاب الصوم: باب متى يقضي قضاء رمضان: (رقم1950)، ومسلم: كتاب الصيام: باب قضاء رمضان في شعبان: (رقم1146).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.