بوارق من الفكر التربوي للمُلَّا رمضان البوطي
من خلال كتاب “هذا والدي”
بقلم: د. عبد اللطيف بن رحو
مقدمة
الحمد لله رب العالمين تعاظم ملكوته فاقتدر، وتعالى جبروته فقهر، وأعز من شاء ونصر، ورفع أقواما وخفض أقواما، فسبحانه الذي لا يرى بالبصر ويستدل عليه بالآيات والعبر وخلق كل شيء بقدر. والصلاة والسلام الأتمان الأنوران الأكملان الأزهران الأعتران المشرقان المضيئان على ولد عدنان سيدنا محمد ﷺ وعلى صحابته أجمعين ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد…
فالبحث في فكر عالم مفكر جليل من طراز محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله وإنجاز دراسة تتناول جوانبه المعرفية والعلمية أمر محمود، لما يستحقه الرجل من الاعتراف بفضله والإقرار بجهوده الخادمة للدين والأمّة.
وجاءت هذه الدراسة اللطيفة تحقق غاية الاعتراف بالجميل وتسطّر لحظة الوفاء للبوطي وتراثه وتحتفي بذكراه الطيّبة إجلالا له وعرفانا بقدره وإنزالا له حق منزله، وتمتّن الصلة وتوثّقها بالإمام عليه من الله الرحمة وله منه المغفرة.
وما ذلك الرافد إلا من ذاك النهر، فالملا رمضان إمام عارف تقي عالم بأمور دينه ودنياه، وهذه الدراسة التي عمدت إلى سبر أغوار الشخصية الصوفية وتتبع الجوانب التربوية في حياة الملا رمضان البوطي وذلك من كتابه الموسوم “هذا والدي”، جعله قاعدة البحث لاستكناه الأثر التربوي والانعكاس السلوكي في حياته انطلاقا من الارتباط القوي بين الابن محمد سعيد وبين والده الملا رمضان، والصلة الشديدة بينهما مما أثمر تلك الرؤية المعرفية العرفانية وذلك التصور الإحساني المتكامل في النفس الإنسانية والحياة والكون.
المبحث الأول: منهجية كتاب ” هذا والدي “
المطلب الأول: ترجمة حياة والد البوطي رحمه الله
كانت ولادة الملا رمضان عام 1888م حسب سجلات قيد النفوس، في قرية صغيرة اسمها (جيلكا) تابعة لجزيرة بوطان، التي يطلق عليها بالعربية اسم جزيرة ابن عمر، وهي داخلة في حدود تركيا.
ولد من أبوين كرديين. اسم أبيه عمر واسم جده مراد، فما إن بلغ الملا رمضان مرحلة الصبا، حتى غدا ينشط مستقلا ببعض شؤون نفسه، فاتجه إلى مساعدة جده في أعمال الفلاحة وخدمة الأراضي، وكان الملا رمضان يرى في ذلك فرصة لأنشطته اللاهية التي يتعلق بها الأطفال في تلك المرحلة …. غير أن والدته التي كانت كثيرة الصلاح والتقوى، كانت تصر على أن يوجه نحو الدراسة وطلب العلم، وقد استطاعت أن تقنع أخيرا زوجها بذلك.[1]
يقول الملا رمضان رحمه الله: “فبقيت مدة من الزمن أتقلب بين رغبة جدي في العمل معه في الحقل وخدمة الأرض، وإصرار أبوي على الدراسة والسير إلى طلب العلم، غير أني كنت أجد متعتي تلك الفترة في أن أفلت من قيود الدرس والكتابة، وأنطلق لأعبث وألهو بين الحقول مع أمثالي من الصغار بحجة تلبية جدي في أن أعينه في أعمال الفلاحة. ولما فوجئت بمن جاء يحمل إلى قلم قصب ودواة حبر وشيئا من الورق، داخلتني الفرحة وتملكني سرور كبير من وصول هذه الأدوات النادرة إلي.”[2]
ومن الشيوخ الذي تلقى عليهم الملا رمضان رحمه الله، وكانت أماكنهم متفرقة. أحدهم: الشيخ محمد سعید سیدا، وكان مشهورا باسم: شیخ سیدا، ثانيهم سید محمد الفنذكي، وكان الملا رمضان رحمه الله، ينعته بالعلم والتواضع، وثالثهم الملا عبد السلام، وكان يدعوه دائما ب: سیداي ملا عبد السلام، أي أستاذي ملا عبد السلام.[3]
رحل إلى العديد من البقاع لطلب العلم، وبعد عودته واستقراره في مسقط رأسه، قرية جيلكا، إماما في مسجدها ومدرسا لطلاب العلوم الشرعية في المدرسة التابعة له. أخذ يفكر في تلك الحرب التي اشتعل أوارها، والتي كانت تهدف إلى القضاء على الخلافة الإسلامية التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة …. وما لبث أن تطوع مجاهدا في تلك الحرب، وكان عليه أن يتكلف بمعظم نفقاتها … وبعد تدريب سطحي في بعض المعسكرات القريبة، تم الاتجاه بمجموعته إلى جهات من حدود روسيا مما يلي (وان) و (بتلبيس) ومناطق البحر الأسود كان اشتراكه في تلك الحرب تجربة فاشلة قاسية، كما كان يذكر.[4]
هاجر إلى الشام، وذلك لعدة أسباب كانت تموج في تلك الفترة. وصل إلى دمشق واستقر المقام بادئ ذي بدء في غرفة من دار عربية ذات غرفة عدة، في أواخر حي الأكراد. زاول في بداية أمره بتجارة الكتب. وشاءت الأقدار أن يتعرف الملا رمضان على ثلث من العلماء، وسرعان ما عرف في حي الأكراد بالفقيه الشافعي الأول بين علماء الأكراد، فاتجه إليه الطلاب الأكراد الذين من حوله أولا، ثم أقبل إليه كثير من طلاب العلوم الشرعية الذين كانوا يدرسون في المعاهد أو على أيدي المشايخ …. في عامة أحياء دمشق. أسند إليه مهام الإمامة في أحد المساجد الواقعة في المنطقة التي تسمى الحارة الجديدة، فنظم دروسا فيه بعد صلاة الصبح، ودرسا بعد صلاة العصر من كل يوم جمعة.[5]
عرف الملا رمضان رحمه الله بورعة وزهده وتقواه، فشهد له بذلك من عاصره. ورغم أنه في أواخر حياته عانا من المرض إلا أن وعيه كان متألقا، كما أن انصرافه الوجداني إلى الله زاد، حيث تجلی ذلك في كيانه وفكره وشعوره وتصرفاته وتصوراته إلى الله عز وجل …كانت هذه الحالة تغالب مرضه وتتفوق تفوقا كبيرا على مشاعر آلامه. فلم يكن يراه أحد من أهل البيت أو الزائرين، إلا وهو في حالة تذكر أو فكر وشهود مع الله عز وجل. عاش الملا رمضان رحمه الله مائة وأربعة أعوام، وكانت وفاته رحمه الله ضحى يوم الثلاثاء الواقع في 20 شوال عام 1410ه الموافق ل: 15 أيار عام 1990. دفن في باب الصغير الذي يرقد فيه بعض رجال العلم من أعيان دمشق. وحين شيعت جنازته كتب على نعشه بيت شعري، وكان بطلب منه رحمه الله:
أتيتك بالفقر ياذا الغنى وأنت الذي لم تزل محسنا[6]
المطلب الثاني: مفهوم العبادة عند الملا رمضان رحمه الله
- الفرع الأول: صلواته وتهجده
كان الملا رمضان رحمه الله مكثرا من النوافل، سواء منها المؤكدة وغيرها، فلم يكن يدع وقتا يمر وللشارع فيه صلاة مستحبة، إلا وقام فصلاها، مؤثرا دائما النهاية العظمى في عدد الركعات على النهاية الدنيا. ما لم يكن معتلا بعلة تقعده عن أداء هذا الالتزام. وسواء ورد استحبابها في أحاديث صحيحة أو ضعيفة، فقد كان يعزز الضعيف منها ويدعمه بقول رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: الصلاة خير مشروع و كان حرصه على التهجد لا يقل عن حرصه على الفرائض، ولم يكن يقنعه من ميقاتها قبل الفجر دقائق معدودات بل كان يصر على أن يقوم قبل الفجر بساعتين أو ثلاث ساعات، كان يصلي أولا ركعتين خفيفتين، ثم يطيل الركعة من صلواته التالية ما شاء الله أن يطيل … فإذا دخل السحر جلس على سجادته، وأسلم نفسه لمشاعر الحزن، من تقصيره والخوف مما هو مقبل عليه، وأخذ يناجي الله أنا بالعربية و أخرى بالكردية مع نشيج وبكاء متواصل ثم إن صلاته لم تكن كصلاة أحدنا ، تلاوة باللسان، وحركات مألوفة بالجذع والأعضاء، مع قلب منصرف إلى الدنيا وشؤونها بل كان إذا دخل في الصلاة تحول إلى كتلة من التذلل والصغار بين يدي الله، وانساق في ذلك جسمه ومظهره وراء أحاسيسه ومشاعره المنصرفة إلى مناجاة الله عز وجل.[7]
- الفرع الثاني: تلاوته وحفظه للقرآن الكريم
اتجه الملا رمضان رحمه الله منذ شبابه إلى حفظ القرآن الكريم، ولكنه لم يتم حفظه إلا بعد استقراره في دمشق، بسنوات.
والمهم أنه كان كثير التلاوة للقرآن الكريم، أما قبل استكمال حفظه له فعلى طريق إكمال حفظه، وأما بعد أن أتم حفظه، فعلى سبيل المحافظة على المحفوظ، واستئناس بكلام الله وتدبر لمعانيه ومراميه.
كان يختم القرآن في كل أسبوع مرة، وكان يلزم نفسه بقراءة خمسة أجزاء في كل يوم، يبدأ الختمة يوم السبت، ويختمها الخميس ليلا أي ليلة الجمعة. ويجعل من يوم الجمعة يوم راحة للقيام بوظائف أخرى. وقد بقي محافظا على هذا الالتزام وطبق هذا النظام، إلى ما قبل وفاته بأشهر، مع استثناء أيام مرضه. وكانت تستوقفه بعض الآيات فتنال منه منالا، حيث يبقى أياما وأسابيع عدة يتدبرها ويعيش معها ويتحدث عنها وعن تأثره بها للناس في دروسه ومناسبات وعظه.[8]
- الفرع الثالث: أذكاره وأوراده
إذا استثنينا الأوقات التي كان مشغولا فيها بالصلاة، والأوقات التي يتناول فيها طعامه، والتي يسلم نفسه فيها إلى الرقاد، فقد كان كل ما بقي من أوقاته وساعات عمره ملينا بالأذكار والأوراد، على ألا ننسى أن الاشتغال بالعلم وتلاوة القرآن، من أجل أنواع الذكر.
كان ذاكر حتى في الطريق الذي يمشي فيه، وكان يمزج، جهد استطاعته، سائر معاملاته الدنيوية، بذكر الله عز وجل.
فإذا طافت به غاشية من الغفلة في ساعة ما، عاودته الصحوة إلى الله سريعا، وأقبل من جديد يشتغل بذكره وورده. وقد كان رحمه الله يظل يتذكر دقائق مرت به يوما ما، كان يعدها من أوقات غفلاته التي مرت به، ولكن الله تدارکه فأرسل إليه من ينقده منها. وقد كان رحمه الله ملتزما، التزاما مثابرا على ترديد أذكاره وأوراده في كل صباح ومساء.[9]
- الفرع الرابع: أدعيته ومناجاته
كانت له رحمه الله – بالإضافة إلى الأدعية المأثورة التي يحفظها ويرددها – أدعية أخرى، يعبر بها عما تجيش به نفسه من مشاعر الخوف من الله والتعظيم له والثناء عليه.
وكانت تمر ساعات وأوقات، يدعو فيطيل فيها الدعاء، ويثني على الله فيطيل الثناء. ومن أخص تلك الأوقات، مساء الجمعة من يوم الخميس، عندما ينتهي من ختمة القرآن الكريم. وكان يختمه على الأغلب بعد منتصف الليل، حيث يكون خاليا في غرفته الصغيرة ليس معه فيها ولا من حوله أحد.
فيدعو الله ما شاء أن يدعوه، وربما انتابته أحوال غريبة أخذ فيها عن نفسه. وقد كانت له صيغ من أدعية وألوان من المناجاة، سجلها بخط يده في كتيب له، ويبدو أنه كان يعود إليها فيقرؤها في أوقات خاصة. ومن جملة بعض الأدعية التي كان يدعو ويناجي ربه بها: يا رب مالي سواك خالق ولا مالك ولا نافع ولا ضار. فخذ بناصيتي إلى ما يرضيك. يا رب منك الفضل وإليك يا رب رجائي إن لم ترحمني فمن الرحمان؟، يا رب إن لم تسترني فمن الستار؟ يا رب أسألك باسمك العفو الغفور الستار، أن تعفو وتغفر وتستر جميع هفواتي وعثراتي.[10]
- الفرع الخامس: ورعه وزهده
كان رحمه الله شديد الورع في علاقاته ومعاملاته، كثير الرقابة على لسانه وعلى ما يجري في مجالسه، فلم يكن يحرك لسانه بغيبة أحد، ولم يكن يأذن لأي من مجالسيه أن يغتاب أحدا، سواء كانوا ضيوفا عنده، أو كان هو ضيفا في دار أحدهم، وأيا كانت مرتبة الذي تورط فاغتاب. ولم يكن يسكت على أي منكر يراه مهما دق أو صغر، ولكنه كان يستعمل في إنكاره أقصى درجات الحكمة واللطف. فإذا رأى من يقابل حكمته ولطفه بالمخاتلة والخداع، أخذ منه الغضب ولم يعد يبالي بأحد أو شيء.
فورعه يتجلى في رقابته على نفسه وشدة اتهامه إياها، وقد يتجلى في اهتمامه الشديد بمراقبة سلوكه وتتبع ما قد تجترحه حواسه وأعضاؤه، وقد يتجلى في اهتمامه بمراقبة نوع المال الذي يدخل جيبة والطعام الذي يدخل فمه والطريق الذي يصل إليه المال أو الطعام منه. كان يحرص على ألا يتسرب إلى جيبه أي مال مشبوه، فضلا عن المال المحرم. والمال المشبوه فيما يعرفه به العلماء هو المال الذي اختلط فيه الحلال مع الحرام. فهو لم يكن يأكل من مرتبي، وكان إذا تلقى دعوة من أحد إلى الطعام، أرسل يحقق في مصدر ماله وكيفية كسبه، فإن علم أن في ماله شائبة حرمة، أو أنه من المال المشبوه كما أوضحنا، افتعل، أيا من الأعذار الممكنة ولم يستجب للدعوة.[11]
أما زهده، فيخيل إلى أنه لولا ذيول من الزوجة والأولاد كان يتحمل مسؤولية رعايتهم والنظر في معايشهم، لآثر أن ينفض يده من الدنيا وأن يعيش حياة أزهد الزاهدين من أصحاب رسول الله ﷺ كان إذا جلس إلى مائدة الطعام في داره، ورأى ألوانا متعددة وضعت أمامه، انتابه مزيج من مشاعر العتب على أهل داره، والخوف من سخط الله وعقابه، والألم من عجز الجميع عن الشكر اللائق الله عز وجل.[12]
المطلب الثالث: مسلك الملا رمضان في تربية أولاده
كان الملا رمضان رحمه الله يعتقد أن المنزل هو المصدر الأول للتربية، وأن الأبوين هما أول مسؤول عن تربية الأولاد، والقاسم المشترك بين الذكور والإناث في التربية التي يأخذهم بها، ضرورة تلقين الطفل لفظ الجلالة عند أول محاولة للنطق.
ثم تلقينه جملة الشهادة عندما تنشأ قدرته على النطق بالجملة الكاملة، فإذا درج من المهد وتهيأ عقله لإدراك الأمور وحفظها، وجب إعلامه بأولى الحقائق الكونية وأخطرها. ينبغي إعلامه بأن لهذا الكون إله يدبره ويدير أمره، وأن كل إنسان عبد مملوك لله، كما ينبغي إعلامه باسم أخر الرسول والأنبياء محمد ﷺ، واسم أمه وأبيه ومكان ولادته، ومكان هجرته، وبخلاصة عن سيرته، ثم يلقن القرآن من أوله إلى آخره.[13]
بهذه المبادئ الهامة كان الملا رمضان رحمه الله يأخذ أولاده منذ نعومة أظفارهم. ثم إنه كان يرى أن تربية البنت وتعليمها في المنزل أكثر ضمانة لاستقامتها، إن تيسر وأمكن ذلك، وهذا ما ثم فعلا لابنته زينب وخديجة.
وكان يستحسن إذا أخذت البنت حاجتها من الثقافة والمعارف الإسلامية، أن تتجه إلى إتقان أي من الفنون النسوية. ولم يكن له موقف مخالف لمبدأ تعليم البنات، لكنه كان يشترط لذلك أن يكون طريقهن إلى التعليم نظيفا غير مبوء أو موبوء.
المطلب الرابع: أخذ الأهل والأولاد بهذه التربية
كان الجانب المتميز في التربية الملا رمضان رحمه الله لأهله وأولاده، أنه يذكرهم بالله تعالى في كل مناسبة، ويجعل من كل حال يصيرون إليها أو يتقلبون فيها مناسبة لتذكيرهم بسطوة الله أو برحمته أو بكرمه وإنعامه. كان إذا وضع الطعام، أمر جميع أهلاه وأولاده أن يجلسوا جلسة أدب، حتى لكأنهم ماثلون من هذه المائدة أمام الله … وكان يطيب له أن يعدد ألوان الطعام، ويذكر بفضل الله ونعمه ثم يردد قول الله تعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْـَٔلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ اِ۬لنَّعِيمِۖ﴾[14] كان الصغار والكبار يتأثرون بهذا التذكير. ومنذ عشرات السنوات، كان رحمه الله يجمع أهله وأولاده على ورد من ذكر الله صباح كل اثنين وخميس بعد صلاة الفجر، فكان يجتمع إليه في مجلسه بعد صلاة الصبح الصغار والكبار جميعا. فيبدأ ويبدؤون معه بذكر (لا إله إلا الله) مائة مرة، ثم ينتقل بهم إلى ذكر لفظ الجلالة (الله) مئة مرة، ثم يقرأ ويقرؤون معه حزب الإمام النووي.[15]
وما يزال البوطي وأهله ملتزمين بوصية الملا رمضان رحمه الله مثابرين على النهج ذاته وفي المواقيت ذاتها حتى وفاته رحمه الله.
المطلب الخامس: الأثر الذي تركته هذه التربية
لقد اصطبغ أهله وأولاده بأثار هذه التربية التي أخذوها، منه رحمه الله عليه شعورا وعاطفة وسلوكا. لقد كانت ولا تزال متميزة بهذه الصبغة. فهذه التربية أثرت أشد التأثر على البوطي، وذلك أنه شعر يوما لأول مرة بعد يقظة من نوم، أنه بلغ ملغ الرجال، فتملكه شعورا غريبا. واهتاجت نفسه موجة عاتية من الوحشة والأسى، إذ تبين له أنه دخل في عهد التكليف … وأن صحيفة قد هيئت باسمه لمراقبة أعماله. وغدا إلى والده رحمه الله وقد أخذه تيار من البكاء، لم يستطع التغلب عليه إلا بالالتجاء إلى والده رحمه الله! قد دخل عليه غرفته وأخبره – ويا للعجب – بكل ما حدث معه، ونشيج البكاء يتغلب عليه. فهدأ من روعه رحمه الله، موضحا أن دخول الإنسان في عهد التكليف يحمل إليه من الخير أضعاف ما قد يعرضه للشر فالأجر على الأعمال الصالحة والمثوبة التي يذخرها الله للعبد، وسبل الوصول إلى محبة الله ورضوانه، إنما يبدأ ذلك كله بدخول الإنسان عهد التكليف.
لم يكن، رحمه الله، يعتد بأثر التربية التي كان يأخذ بها أهله وأولاده، إن تمثلت في مجرد علم يحفظ وأقوال تروى وإنما كان يعد بها عندما تتمثل في شعور من الحب والخوف والتعظيم والتبجيل … ولذا فإنه لم يكن يكترث لاهتمام أولاده المتواصل بالعلوم والسعي إلى التحقيق فيها على أنه كان يوصي بالعلم، ويرى أهميته وسيلة لا غاية.[16]
المطلب السادس: الموالد وموقف الملا رمضان رحمه الله منها
كان الملا رمضان رحمه الله يحضر لمجالس المولد النبوي، إن لم يكن فيها منكر أو بدعة عملية أو قولية، وكان يعدها – إن خلت من البدع والمنكرات – من مجالس الذكر التي كان يندب إليها سيدنا رسول الله ﷺ. ولكن إذا شاب هذه المجالس منكر، كاختلاط الرجال بالنساء، أو كإنشاد أبيات تخالف هدي رسول الله ﷺ. و كان يعجبه الإنشاد الذي يتضمن الثناء على الله عز وجل، أو يتضمن مدح سيدنا رسول الله ﷺ بالنهج المشروع، ويؤثر أن يكون المنشدون والسامعون على حالة من التأدب مع الله عز وجل، والأدب مع رسوله ﷺ، لا أن يهتاجوا هياج من يبحثون عن الطرب بالأنغام والألحان. وربما رأى فيهم من يصفق بيديه، لطرب استخفه، فينكر بشدة وربما أخذه الغضب. إذ المجلس مجلس ذكر وثناء على الله وصلاة على رسوله ﷺ، والتصفيق رعونة أنكرها جمهور الفقهاء فما ينبغي أن يشوب المجلس المبرور والمبارك شيء يخالف الشرع أو لا يتفق مع آدابه.[17]
وصفوة القول إنه رحمه الله كان يمسك بجانبين من أهم مكملات الدين، قلما اجتمعا معا لغيره في هذا العصر، هما شدة تمسكه بالتصوف النقي وآدابه، وشدة تجنبه للبدع والمنكرات المألوفة والشائعة.
المبحث الثاني: تأثر البوطي بمنهج وسلوك والده رحمه الله
المطلب الأول: التأثر بعبادة والده
يقول البوطي: “كنت أنفذ نصيحة، بل أمرا أمرني به أبي: أن أتلو سورة يس صباح كل يوم، ومساءه إن استطعت، وأن أهدي ثواب تلاوتها إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعض العلماء الربانيين من رجال السلف الصالح، أجل …فلقد كنت ولا أزال، أنفذ هذه الوصية بدقة جهد استطاعتي.[18]
وما يزال البوطي وأهله يجتمعون لذكر الله، بعد صلاة الصبح ملتزمين بوصية الملا رمضان رحمه الله مثابرين على النهج ذاته وفي المواقيت ذاتها. وكانت لهذه العبادة أثر شديد على البوطي، وهذا ما يتبين حين تجالس الرجل، فكل ما يكلمك عن محبة الله إلا وتذرف عيناه بالبكاء لشدة خشيته، وحبه لهذا الدين الحنيف. فقد سبق لي أن راسلته عبر البريد الإلكتروني، فكانت عباراته دالة على أورعه وتقواه العميق، فكان أسلوبه مليحا عذبا، كان له الأثر الشديد في نفسي. يقول البوطي: ومرت أيام، بل سنوات، تشرب فؤادي خلالها وهجا من مشاعر الحب التي كانت يبحث أبي عن أثر ما، لها في قلبي، وساقتني هذه المشاعر إلى وقفة أمل وحب ورجاء بين يدي الله تعالى، ثم إني سجلت هذه المشاعر وكتبها تحت عنوان: “مناجاة قلب کسیر.” [19]
المطلب الثاني: التأثر بعلم والده رحمه الله
يقول البوطي: “الحمد لله الذي نشأني على عين والدي هذا تعليما وتربية وتهذيبا. و الحمد لله الذي جعل من وصية والدي التي كتبها لي، لسانا ناطقا يخاطبني بها بعد وفاته أملا من توفيقه وکرمه عز وجل أن ألتمس بها ولا أحيد عنها جهد الاستطاعة ما حييت.”
لقد ذكرت فيما سبق، أن البوطي درس في بداية حياته العلمية على والده رحمه الله، فكان لهذا التلقي عن والده الأثر الكبير في شخصية البوطي العلمية. فلقد سار على نفس منهج والده رحمه الله واتخذ نفس السبيل، فهو الآن يحاضر بشكل شبه يومي في المساجد حتى يتسنى للناس الاستفادة من علمه الغزير، وقد حدثني أستاذي ومشرفي على أن البوطي يعد من أجل علماء العصر، ولا شك أن كل واحد منا قد سمع له خاصة وهو يحاضر هنا بالمغرب خلال شهر رمضان المبارك في الدروس الحسنية، أو قرأ له من بعض كتبه، التي توحي بغزارة علمه.
وهو الذي أخذ العهد من والده رحمه الله بأن لا يسعى في طلب العلم إلى وظيفة أو ما شابهها، بل يلتمس رضا الله تعالى.
يقول البوطي: “لقد كنت ألتمس رضاه، رحمه الله، جهد استطاعتي في كل تقلباتي وأنواع سلوكي، طوال حياتي.”[20]
ويقول أيضا: “كان أبي معلمي الأوحد، علمني أولا مبادئ العقيدة الإسلامية، ثم علمني موجزا من سيرة سيدنا رسول الله ﷺ، من خلال رسالة صغيرة اسمها: ذخيرة اللبيب في سيرة الحبيب ﷺ. ثم أخذ يعلمني مبادئ علوم الألة من نحو وصرف. وسلكني في طريق حفظ ألفية ابن مالك في النحو. فكان يفسر لي كل يوم خمسة أو ستة أبيات منها، وكان عَلَيَّ أن أتقنها بعد ذلك حفظا في بياض ذلك النهار. فأذكر أنني حفظت الألفية كلها خلال أقل من عام ولم أكن قد ناهزت البلوغ بعد.”[21]
خاتمة
من الأمور التي تطرقت إليها في البحث، أني عرجت على مخائل التربية الإسلامية الصحيحة والسليمة، وجعلتها مرتبطة بشخص الملا رمضان رحمه الله، والمتصلة بالتصوف الذي يتماشى مع الشريعة الإسلامية، ولا شك أنها جعلت عائلة الملا رمضان رحمه الله متميزة بل الأكثر من ذلك أنجبت لنا علما من علماء الأمة الإسلامية، ألا وهو الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله.
ولعل السمة البارزة في هذه الدراسة هو وضع أسس تربوية للأسرة التي ترعرع فيها كل من البوطي الابن ووالده والمتحكمة إلى التصوف السني، الذي يجمع التربية الرفيعة والأصلية لأنه مقيد بأصول وضوابط الشريعة السمحا، وبذلك تكون أصوله صحيحة ومنابعه صافية.
المراجع
-القرآن الكريم برواية الإمام ورش.
-هذا والدي لمحمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر دمشق، الطبعة: 2. سنة: 1998.
[1] “هذا والدي ” لمحمد سعيد رمضان البوطي، دار الفكر دمشق الطبعة: 2. سنة: 1998 ص:13-14.
[2] نفسه ص 14.
[3] نفسه ص 14.
[4] هذا والدي ص:21.
[5] نفسه ص:47.
[6] نفسه ص:47.
[7] هذا والدي ص :70.
[8] نفسه ص:72.
[9] هذا والدي ص:74-75.
[10] نفسه ص:77-79.
[11] هذا والدي ص:92-94.
[12] نفسه ص: 96.
[13] نفسه ص:56.
[14] سورة التكاثر الآية:8.
[15] هذا والدي ص:65.
[16] هذا والدي ص:67-68.
[17] نفسه ص:122-123.
[18] نفسه ص :61.
[19] هذا والدي ص:68.
[20] نفسه ص:195.
[21] نفسه ص :57.