منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الشاعر محمد علي الرباوي: فتى “أسرير” الذي يبحر سندبادا في القصيدة المغربية الحديثة

حوار مع الشاعر المغربي الأستاذ محمد علي الرباوي/ حاوره الأستاذ محمد أبرعوز

0

الشاعر محمد علي الرباوي: فتى “أسرير” الذي يبحر سندبادا في القصيدة المغربية الحديثة

 

حوار مع الشاعر المغربي الأستاذ محمد علي الرباوي

حاوره الأستاذ محمد أبرعوز

الشاعر محمد علي الرباوي : فتى “أسرير” الذي يبحر سندبادا في القصيدة المغربية الحديثة

استطاع الشاعر محمد علي الرباوي فرض نفسه بعصامية واضحة اسما شعريا سامقا في المشهد الشعري المغربي والعربي.. وأن يخلق لنفسه منهجا شعريا خاصا أساسه نزعة ذات نفحة روحية سابرة للذات ومعبرة عن العوالم الخاصة والمشتركة مع بني الانسان، يكتب بلغة رشيقة  مستوية تقطر فصاحة

يجمع بين الماضي والحاضر…شاعر يرفض تماما أن يعيش في جبة التجارب الشعرية لغيره، يبحر في بحور الشعر بمجدافي الإيقاع الأصيل والمعاصر..شاعر يتصدى للقول الشاعري بخلفية علمية رصينة وصنعة موسيقية فطرية جعلت الحرف الشعري بين أنامله هينا لينا طيعا حتى لو كان يحكي لظى الذات وقساوة المحيط وغلظته. ..شاعر يعرف تماما ما يريده من القصيدة وما تريده منه..أنيق حين يفرح .. انيق حين يحزن..يعيش في عالمه الشعري في علاقة سلام ووئام مع جذوره وهويته ومصادرها،فصدر عن ذلك كله في أشعاره صدورا رساليا مسؤولا..

ونحن جد سعداء في موقع “منار الإسلام” أن يكون شاعرنا المميز ضيفا عزيزا أثيرا.. شاكرين له كرمَ القبول وتواضع الكبار.

1- الأستاذ الشاعر  محمد علي الرباوي اسم مشهور محليا وعربيا ،خاصة عند جمهور الأدب والشعر بالخصوص أرجو أن تقربوا قراء ومتتبعي موقع منار الإسلام من أهم المحطات التي وسمت وميزت مسيرتكم الشعرية.

يمكن تلخيص المحطات التي وَسَمَتْ مسيرتي الشعرية، وميزتها في الآتي: أنا من مواليد الجنوب الشرقي المغربي (1949)،  ومن سمات هذاالجنوب صعوبةُ الحياة به، وبخاصة حين تَقِلُّ الأمطارُ وتصبح عزيزة . ولهذا يعيش السكان في واحات متناثرة هنا وهناك . وهذا وَلَّد في السكان ضرورة الهجرة  للبحث عن العيش. وفي الوقت ذاته عُرف أهل الواحات بالمحافظة والتدين. فالقبائل مرتبطةٌ في الغالب بأحدى الطرق الصوفية المنتشرة بالمغرب الأقصى. حين وُلدت بقصر أسرير من أبوين أُميين، ومع ذلك  وجدت في خزانة الوالد رحمه الله كتابَ دلائل الخيرات المكتوب بخط يدوي مغربي جميل. هذا الفضاء الروحي سيصاحبني وأنا بوهران ،أو سيدي قاسم ،أو الرباط، أو مكناس، أو فاس، أو وجدة ،أو إفران. وهذه المدن  تجمع بين الصخب المادي، والصخب الروحي، وهذا الأخير وجدته في وجدة  وفي قراها المجاورة التي عشتُ بها أيضا.

السيمة الثانية مرتبطة بالموسيقى.استولت على كياني الإيقاعات ُالصوفية  التي امتدت إلى أسماعي وأنا صبي، وأخص إيقاعات كناوة الوافدة على المغرب من أدغال إفريقية  وهذا أسلمني إلى سحر الموسيقى التعبيرية في ما بعد. ولولا الأسرة المحافظة  لكنت اليوم مؤلفا موسيقيا. كان الشعر هو البديلَ الذي سَهُلَ علي أن أمارسه.  ولعل هذا الشعر جاءني من جدي لوالدتي أطال الله في عمرها، فقد كان رحمه الله شاعرا  ومنشدا

هذه الأجواء ربطتني بذاتي وهذا الربط أعتبره من أهم مميزات تجربتي الشعرية. فرياحين الألم ( =أعمالي الشعرية الكاملة) هو سيرة حياتي

لم أكمل تعليمي، بسبب الفقر  إذ عُينت معلما للغة الفرنسية  مع خريف 1967. في سنة 1978 استأنفت الدراسة فالتحقت بالجامعة ،ثم نلت دبلوم الدراسات العليا ثم شهادة دكتوراه الدولة في الأدب، وعينت أستاذ بالكلية 1984.

2- ماذا يعني لك أن تكون شاعرا؟ وهل تؤمن بأن الشعر قادر على تغيير العالم كما يقولون؟

يمكن إعادة صياغة هذا السؤال على الشكل التالي: ماذا يعني أن تكون موسيقيا ( الشعر عندي موسيقى). لا أتصور نفسي حيا من غير موسيقى أو شعر.  أرى الشعر خاصة هو الذي وَسَّعَ ميلي إلى  الذات، وإلى الحب بمعناه  المادي والروحي. فالشعر هو الذي أرجعني إلى فطرتي بل أحياها في . ولهذا أرى أن الشعر  طريق إلى الإيمان بالله. وفي حضارتنا الإسلامية هو طريقُ إلى القرآن. فالمعرفة الشعرية هي التي سهلت على عمر بن الخطاب  رضي الله عنه، حين استمع إلى القرآن، الدخولَ إلى الإسلام . ولعل هذا ما انتبه إلية خصوم ديننا فاجتهدوا، منذ ما يسمى بالنهضة العربية، في الطعن في ديوان الشعر العربي، والتشكيك في قيمته، ونجحوا في تقليص حضوره اليوم في مؤسساتنا التعليمية.

الشعر هو من غَيَّر  الفاروق من رجل جاهلي إلى رجل رقيق الحواشي، أبكته سورة طه،  فاستجاب لنداء الإسلام. هذه الحادثة  دليل على أن الشعر  (أو الثقافة الشعرية)،قادر  على تغيير العالم. هذه القدرة لا تنبع من موضوعات الشعر، ولكنها تنبع من شعريته المتمثلة في لغته وفي خياله.  لكن التغيير الذي قد يحدثه  لا يتحقق بالضرورة الآن ، ولكنه يتحقق باستمراره  حيا بين الناس.

3-بم تلهمك القصيدة عند أول لقاء غير مبرمج معها : الطفولة،  الحنين،  الحب، ،  المرأة، ،  الأم،  الذكرى،  الوجع،  الأمل… ؟ أو لك معها حظوةُ إلهامات  خاصة أخرى ؟ هل نطمع أن ” تخونها” فتبوح لنا ببعض أسراركما؟

القصيدةُ عند أول لقاء غيرِ مبرمج معها لا ترتبط عندى بموضوع شعري. فحين تُلح علي لا أعرف  هل هي آتية من عالم الطفولة، أو من أشجان الحنين، أو من رياحين الحب الذي قد يتوزع بين  الأرض والسماء. أو من الوجع…حين أُلقى في نار الشعر لا أعرف ما الموضوع، ولكن أشعر أن شيئا مبهما بداخلي يتكون، ثم ينمو دون علم مني؛ لأدرك ،وأنا في حالة مخاض، أن نصا شعريا يولد، لا أتحكم في مطلعه، ولا أعرف كيف ستكون خاتمتُه. ولهذا أقول علاقتي بالكتابة الشعرية هي نفسُ علاقة الموسيقي  بالقطعة الموسيقية التي يؤلف جملها اللحنية.

قد أطلب القصيدةَ، وألح في طلبها، لكنها تتمنع، ولا تستجيب للطلب، كما كانت تفعل حين كنت أخطو أولى خطواتي في بيدائها.  لكن مع مطلع سنوات السبعين من القرن الماضي صارت القصيدةُ تقتحمني دون استئذان. تقتحمني في أي مكان تريده، وفي الزمان الذي يروق لها. بل هي من يحدد شكلها الشعري، هل هي قصيدة (ولأ أقول الشعر العمودي)، أم هل هي قصيدة حرة، بل هي التي تحدد وزنها وبحرها.

4- القصيدة رسالة مفتوحة لإنسان هذا العالم ، وأنتم تكتبون هل تُفكرون في قارئ معين؟

لعل في الجواب السابق  ما يَرد على هذا السؤال.  ولكن أضيف  أمرا هو كالتالي.

الشعر عندي ليس موضوعاتٍ أصوغها شعرا موزونا. فلو كان الأمر كذلك، لاخترت لكل موضوع الوزنَ الذي قد أراه مناسبا للموضوع. وبهذا ستتعدد أوزان شعري بتعدد المواضيع. وهذه سبيل ما سلكتها منذ مطاع سنوات السبعين.

فالشعر كما أراه هو تعبير عن تجاربَ يعيشها الشاعر ؛ ولهذه التجارب علاقة بذات الشاعر  في علاقتها بذاتها، وفي علاقتها بالآخر. ولهذا أقول كل تجربة تستدعي شكلا شعريا منسجما مع منعرجاتها، وفي الوقت ذاته تستدعي التجربةُ الوزن /الأوزان المنسجمة مع صلواتها. التجربةُ هي التي تتحكم في لغة النص؛ فقد تأتي واضحةً، ومباشرة. وقد تأتي رمزيةً موغلة في غموض تَكْشِفُ بعضُ أسراره بلاغةً عميقةً تشد قواعده.  مع ضرورة  أن يكون بين اللغة والتجربة انسجام. فإذا غاب هذا الانسجام سقطت القصيدة. يَنْتِجُ عن هذا الكلام أني لا أفكر في قارئ معين بل أفكر في قارئ كوني. هذا القارئ،حين أستدعيه إلى رياحين ألمي، ينبغي أن يَشعر بوجوده،بحياته، بمعاناته، بأفراحه، بأحلامه في هذه الرياحين.

5- يقول مالارميه: “القصيدة سرّ، وعلى القارئ أن يبحث عن مفتاح”. طبيعي أن يبذل القارئ جهدا ليتذوق ، فذلك بعض مهر القصيدة ..لكن ما رأي شاعرنا في استحالة هذه المفاتيح إلى أقفال عند البعض تصد كل راغب في قُرب؟

صحيح القصيدةُ سر من الأسرار، وقيمتها في عمق أسرارها. ومتعةُ القراءة، أو لذتُها، حسب تعبير Roland Barthes ،تتجلى حين يَكتشف القارئ سرا من أسرارها، بل تعظم متعتُه، ولذته، إذا أعاد قراءتها ، وفي كل إعادة يكتشف أسرارا جديدة. هذا ما يفسر خلود الشعر.

القصيدة المثقلة بالأسرار تُغري القارئ بأن يساهم في خلقها،  فليس من الضروري أن يتطابق فهمُه وما يريده الشاعر. وسأروي لك تجربة عشتها مع بعض القراء :

في سنة 1983، كتبتُ قصيدة  بعنوان: الفرح المشتعل. وهي قصيدة  بلا موضوع لكنها تعبر عن تجربة ذاتية مغلقة، كما تصورتها بعد إنجازها. بعد 1987 نشرتُها في الملحق الثقافي لجريدة العَلَم المغربية. نشرها المحرر في الصفحة الأولي من الملحق، تصاحبها صورةٌ لأطفال الحجارة. لم تثرني تلك الصورة. بعد ذلك، كلفتُ طالبة بإنجاز بحث لنيل الإجازة في الأدب، تجمع من خلاله النصوص الشعرية المغربية التي واكبت أطفال الحجارة، وتكتب لها تقديما. حين تصفحت النصوصَ التي جمعتها، اكتشفت أن من بينها قصيدتي الفرح المشتعل. وهي قصيدة لا علاقة لها بالموضوع. لم أعترض، ولم أستفسر الطالبة عن السبب الذي جعلها تُدرج هذه القصيدة في بحثها.  أعدتُ نشر القصيدة في مجلة تصدر بسلطنة عُمان، وهي المنتدى التي كان يشرف عليها المرحوم إبراهيم سعفان. الغريب أن أسرة التحرير نشرت القصيدة مضيقة تحت العنوان إهداءً  هو  التالي “إلى أطفال الحجارة”. فتأكد لي أن الصورة التي صاحبت هذه القصيدةَ في العَلَمِ الثقافي كانت تجسيدا لما فهمه المحررُ من القصيدة .

استغربت من هذا؛ لأن الانتفاضة  الأولى كانت في دجنبر 1987 والقصيدة كتبيت في 1983. فقررتُ أن أعيد قراءة القصيدة؛ لأكتشف أن بها معجما مستوحى من زمن قادم، هو زمن الانتفاضة. ولعل هذا المعجم هو ما شجع على هذه القراءة. وأرى أن هذة القراءة المتعددة للنص الواحد تعود إلى أن الشاعر نقل في نصه ظلالا من تجربته التي عَبَّر عنها بصدق.  وقد يحدث أن يجد القارئ نفسه أمام نصين غامضين.  أحدهما غامض غموضا بلاغيا ، والثاني غامض غموضا خارج البلاغة. فالأول يقرأه بحب، وشغف.  هذا الحب قد يقوده إلى اكتشاف دلالاته، وإذا تعذر عليه، أحس مع ذلك بلذة وهو يقرأه. أما الثاني، فلا يتحقق التواصل معه. وهذا هو الأكثر حضور ا في أغلب الممارسات الشعرية الحديثة.

6- لكل شاعر مرجعياته التخيلية والجمالية لبناء عالمه الإبداعي، من أين يغرف شاعرنا؟ وإلى أي حد يمكن أن يفيد الاطلاع على التجارب الشعرية الغربية في إغناء تجربة الشاعر العربي عامة من خلال النوافذ التخييلية التي تفتحها لغة الآخر؟

مرجعياتي التخييلية، والجمالية لبناء عالمي الشعري  متعددة  أذكر منها ما يلي:

– أعتبر الموسيقى المرجعَ الأول الذي غرفتُ منه، منذ فتحت عينيَّ لأرى هذه الحياة. في صباي كنتُ في قصر أسرير ، أُدمن حضور المآتم؛ لأستمتع بسحر البكاء الذي يصحب الميتَ وتؤديه عادة امرأةٌ بلباس أسود، وهو اللباس الرسمي للمرأة في القصر. هذه المرأة تتوسط النسوةَ، وتبكي الميتَ مع تعداد محاسنه، والنسوةُ، كالكورس، يرددن خلفها، أو معها العبارات “الشعرية” المؤسسة للمرثية. كانت نغمات الإنشاد تهز كياني، وتُدخلني في نوبة من النشوة، والبكاء. هذا الفضاءُ الساحر سأُحرم منه حين أرحل إلى مدينة سيدي قاسم. ولكن سأكتشف فضاءً جديدا هو امتدادٌ للفضاء السابق ، أعني به فضاء الراديو، والسينما حيث الموسيقى المصحوبة بالغناء. وكان يشدني الغناء التعبيري، ثم الموسيقى  التصورية.

– التشكيل: بدأ اهتمامي بالفنون التشكيلية حين كنتُ بالرباط تلميذا، فمعلما، كانت مادة اللغة الفرنسية تقدم لنا شيئا اسمه الحضارة الفرنسية. نطلع منها على فن المعمار ، وعلى الفنون التشكلية، فكانت لوحات عصر النهضة تزين بعضَ صفحات كتبنا المقررة علينا. كنت مندهشا أمام الأشكال، والألوان. وحين اكتشفت بيكاسو زلزلتني لوحته ;Guernica  ومع 1969 أصبحتُ مدمنا حضورَ المعارض الفنية التي تقام بأروقة عديدة بالرباط. وكانت بعض لوحات الرسامين المغربين الشرقاوي، والغرباوي  السببَ الحقيقي وراء هذا الإدمان

– كان للسينما تأثير قوي على تجربتي. وكنت مأخودا بالممثلين الفرنسيين  Louis de Funésو Bourvil حين يلتقيان في فلم واحد. كنت لا أمل من مشاهدة أفلامهما مجتمعين، كان  يشدني في أدوارهما ليس الضحك، فقط ولكن درامية هذه الأدوار ، فالأول يمثل الرجل العاقل، الحكيم، العارف. لكن كل هذا يؤدي به إلى عكس ما تشي به حاله. والثاني تبدو عليه ملامح السداجة، لكن هذا ينتهي به إلى أن ينال ما كان ينبغي أن يناله صاحبه.  هذا التباين بين الدورين كان محملا  بطاقة متوهجة من الشعر.

– الشعر : كان شعر أبي نواس هو أو ل ما شدني، وأنا تلميذ بالمدرسة الإبتداية، من خلال نسخة من كتاب عثرتُ عليه يضم أغلبَ أشعاره،  ومعها نوادرُ جحا. كنت  أجد لذة في قراءة  هذا الشعر، رغم أن أكثر معانيه لا تصلني؛ لحداثة سني، ولكن  للغة وللإيقاع  سحرا ما بعده سحر.

7- كيف تولد القصيدة عند الشاعر الرباوي ؟ هل من طقوس خاصة: عزلة.. وقت معين ؟ مكان معين؟…؟ وكيف تختار اسم(عنوان) مولودك الجديد؟

كانت القصيدة  في بدايات سفري الإبداعي تستجيب لندائي متى أريد، وأين أريد. كانت الخلوةُ طقسا أساسيا؛ لإشعال فتيلة القصيدة ، وجعلِ لهيبها ينتشر في جسدي. لكن مع مطلع سنوات السبعين تغير هذا، وأصبحت القصيدةُ تتربع على عرشها؛ فتزورني متي أرادت، ولا يهمها المكانُ الذي أكون فيه حين تستبد بي. لكن كانت تبعث إلي، عن بعد، بدبدبات  من جسدها الكهربائي، فأشعر بالنار تلتهمني، وفي هذا دليل على قرب وصولها ووصلها. فقد أكون في مكان يملأه الصخبُ، ويبقى هذا الصخب شديدا إلى أن أشعر أني رُفعت إلى الأعلى لا أبالي بالصخب، ولا أسمعه. فأنطلق في تدوين ما تمليه علي هذه الملِكة الجنية . وحين أعود إلى الأرض، أستفيق، لأكتشف أن القصيدة قد ملأت بياض الورقة، أو الأوراق. وتبقى القصيدةُ حبيسة بياضها، أقرأها كل مرة، معدلا  بعض ما يبدو لي قلقا. وقد تستمر هذه العملية أياما  إلى أن أشعر بالملل. فأعلم أن القصيدة قد استوت. فأطلع المقربين من أصدقائي عليها قبل أن أدفع بها إلى النشر

8- ما حد الرسالية في الشعر و ما رحابها في نظركم شاعرنا؟وكيف تقيمون الآن تجربة :”مجموعة وجدة”؟ وما أثرها في الشعر الرسالي خاصة والشعر المغربي والعربي عامة؟

مفهوم الرسالة ملتبس في النقد العربي. حيث اقتصر  على المضمون، مما جعل النقاد يتصورون القصيدة  خطبة، وعلى الشاعر ،من خلالها  أن يعظ الإنسان، وأن يرشده. وهذا تجلى، في عصرنا الحديث، مع الواقعية الإشتراكية، ثم مع أدبيات الحركات الإسلامية. وهذاجعل الشعر ضامرا في جسد القصيدة. ولهذا ترى أن أغلب القصائد العربية التي كُتبت في الزمنين الاشتراكي، والإسلامي قد ماتت بموت، أو ضعفِ هذين الزمنين. فهذا عبد الوهاب  البياتي، بعد أباريقه المهشمة، جاءت بَعْدَهُ دواوين المجد للأطفال والزيتون / رسالة إلى ناظم حكمت/ أشعار في المنفى / عشرون قصيدة  من برلين/ …/ وكلها عبارة عن كلام موزون، لكن ليس به شعر يهزك  كما هزتك أشعارُأباريق مهشمة . ولكن دواوينه اللاحقة بدءا من الموت في الحياة/  بستان عائشة/… استرد شعر البياتي وهج الشعر

فرسالة الشعر ليست في أن تُغَيِّر الإنسان، بل رسالته في أن تدخل هذا الإنسان إلى جمرة الشعر، فلا يشعر بالنار  وهي تلتهم أكمامه، لأن لذة النص تجعل تلك النار بردا وسلاما. وهذا ما أدركتْه مبكرا في عز الأيديولوجيات مجموعةُ وجدة

9- الرمز والأسطورة من المقومات التعبيرية والتصويرية في القصيدة المعاصرة.كيف تتفاعل هذه المقومات في الشعر الرسالي من خلال تجربتكم وتجربة الرساليين عامة؟

الرمز والأسطورة، أفضل استعمال المكونات الثقافية، وهي من المقومات التعبيرية والتصويرية في القصيدة المعاصرة، هذه المقومات، حين تتفاعل مع النص الشعري عامة،  تعطيه حياة متجددة مع كل قراءة.  سأوضح هذا بالأمثلة . قصيدة “سجل أنا عربي” لمحمود درويش رحمه الله، هي من أشهر قصائده، بل هي التي حطت قطارَه في السكة، وجاءت استجابة لما كان سائدا في زمانه. لكن حين تَدْخل إلى حرمها لن تجد بها الشعر  مزهوا بذاته كما زها في نصوصه الشعرية اللاحقة.  حين تقرأه القراءة الأولى تجد نفسك غير مدعو لإعادة القراءة؛ أي إن النص يموت مع القراءة الأولى ،لماذا؟ لأن النص فقير في لغته الثقافية، بالمقابل هناك قصيدة للشاعر حسن الأمراني بعنوان “أوراق مهربة في زمن الحصار”. هذه القصيدة كتبها صاحبها أيام حصار بيروت ، صيف 1982. فقد كان ياسر عرفات بطلا خلال ذلك الحصار، وكان على الشاعر أن يمجد هذا البطل مدحا.  ولكنه لو فعل لَماتت قصيدتُه؛ إذ بعد هذا الحصار، ستدخل القضية  الفلسطينية في المفاوضات . فلهذا لم يستسلم الشاعر الأمراني لانفعالاته وحدها كما فعل درويش في قصيدته السابقة، بل هيأ لها رموزا، ومكوناتٍ ثقافية عميقة. فاستعار قناعَ سيف الدولة للحديث عن البطل الفلسطيني (قد يكون هو ياسر عرفات، أو غيره من القادة أو من أفراد الشعب الفلسطيني المحاصر)، واستحضر لامية المتنبي ( التي تقول فيها: “أنتَ طول الحياة  للروم غازٍ/ فمتى الوعدُ أن يكون القفولُ/  وسوى الروم خلف ظهرك رومٌ/ فعلى أي جانبيك تميل.ُ..)  واستحضر نصوصا شعرية أخرى لشعراء من العصور القديمة،  معززةً قناع المتنبي. واتكأ على  التاريخ مستحضرا القرامطة ..الخ.

هذا الموروث الثقافي  الذي نجح الشاعر في استعارته جعل قصيدته تقبل أن تُقرأ زمانَ ذلك الحصار الغاشم،  وأن نعيد قراءتها  متى شئنا. صحيح لابد للقارئ أن يمتلك  أسرار هذه المكونات الثقافية، وإلا صَعُب عليه فهمُ الرسالة التي تحملها القصيدة. وبما أن هذا الموروث القافي الحاضرَ في النص هو من تراثنا العربي الإسلامي؛ ولهذا لا يحق للقارئ أن يعترض على غموض هذه القصيدة ؛ لأن ثقافته من المفروض أن تكون من المشترك بينه وبين الشاعر. أنهي هذا الإيضاح  بإحدى قصائدي التي كتبتُ في المرحلة نفسها وهي عام الحزن ( عامُك هذا عام الحزن فلا تحزن….)، فالبيت واضح معناه من حيث تركيبُه اللغوي وغامضٌ إن اقتصرت القراءةُ على ما يبدو  من سطح البيت.  فكيف يقول الشاعر للمخاطب: هذا عام حزنك، ثم يطلب منه ألا يحزن؟ !.. هذا غير منطقي . ولكن إذا تجاوز القارئ سطح البيت، وغاص في عمقه اكتشف أن البيت استعار  من السيرة النبةية لحظةُ من لحظات رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم  حين فقد زوجه خديجة رضي الله عنه، وعمه أبا طالب. فكان العامُ عامَ حزن . ولكنه كان أيضا عام خير على الأمة؛ إذ سيهجر إلى المدينة بحثا عن الحماية، ومن نتائج هذه الهجرة تأسيس الدولة الإسلامية. هذا التأسيس هو ما عبر عنه البيت بقوله: لا تحزن

10- موجة الحداثة اكتسحت الساحة الشعرية العربية .كيف تفاعل شاعرنا معها؟

صحيح اكتسحت الساحةَ الشعريةَ العربيةَ موجةُ الحداثة. فكيف تفاعلت معها. هذه الموجة وُلدت بالغرب بناء على تطور  المجتمع الغربي الذي كبلت حريتَه العقلانيةُ المتوحشةُ، فظهرت فلسفةٌ رافضة للفلسفات التي تأسست طلائعُها مع النهضة الغربية، فنبعت تياراتٌ شعرية من كلاسية، إلى رومانسية، إلى واقعية، إلى رمزية، إلى سريالية. … وتراجعت الفلسفةُ لتفسح المجال للعلم الذي صار يؤطر المجتمعات. وهكذا صار الإنسان يرفض النموذج. وتولدت لديه الرغبة في التحرر من كل السلط، فكانت الحداثة وضعا حتميا لامست الشعرَ وكلَّ الفنون. ولهذا كانت ممارستُها من قبل الإنسان الغربي أمرا طبيعيا .  ولكن الإنسان الغربي لا يقبل الاستقرار في المدينة الفاضلة، فكلما شيد مدينةً اكتشف أنها لا تتسع لأحلامه، فيهجرها إلى أخرى. وهكذا انطلق إلى ما بعد الحداثة، مما يدل على ضياعه. الأمر مختلف في حضارتنا .  فقد أخذنا ما أنجزه الغرب، وشوهنا روحَه؛ لأن حضارتنا مختلفة.  لهذا فالحداثة  المنجزةُ في أكثر كتاباتنا شوهت ملامحَ شعرنا، وأدخلته في أزمة عميقة، مما جعل القارئ العربي لا يُقبل على هذا الشعر خاصة ، لأنه لا يجد نفسه في أكثره.

ستقول لي كيف تقول هذا وفي شعرك شيء من هذه الحداثة؟ أقول ما يلي:

أنا لست كلاسيكيا، ولا رومانسيا، ولا سورياليا، ولا رمزيا، ولا حداثيا. لكني استفدت من كل هذا التراكم الذي غذته الفلسفات الغربية . وقيدتْ  حرية المبدع الغربي من خلال هذا التيار أو ذاك. أنا أرى أن الإبداع يتحقق حين يكون المبدع حرا  وصادقا مع ذاته، وأحلامه.  إن ارتباط المبدعين بالحداثة مثلا  يؤدي حتما إلى خلق إبداع يسير في نمط واحد. وهذا ما حدث في التجربة العربية خاصة. فالنصوص المنجز ة تتشابه، ولا تحمل ملامح صاحبها؛ وهذا واضح أكثر حين ربط أكثر المبدعين العرب الحداثة بقصيدة النثر.  في حين أن الشعر أشكال  ولا فضل لشكل على آخر إلا باشتعال الشعر.

مع ذلك أعترف أني تفاعلتُ مع هذا الجو انطلاقا من المنجز الشعري الغربي في ديوانه الكبير الذي ابتدأ مع النهضة، واستمر إلى يومنا هذا. لكني تحررت من سلطة المذاهب، وتركت الفرصة لتجربتي في الحياة أن  تختار  بحرية لغتها، وإيقاعها، وأسلوبها.  فقد تتسرب إلى النص الواحد أحيانا لغة “حداثية”  استجابة لمتطلبات التجربة، وأحيانا لغة تراثية، وهكذا دواليك

11– هل يؤكد شاعرنا ما ذهب إليه بعض النقاد من أن شعر التفعيلة أقدر على  احتواء الدفقة الشعورية من قصيدة البحر؟ أم أن الشاعر “الفحل” -كما يرى آخرون -فوق هذه الأشكال؟

يجب أن نعلم أن الشعر في كل اللغات يتجسد في أشكال عديدة.  في العربية توجد الأشكال التالية: سجع الكهان( أعتبره شعرا)، والأرجوزة، والقصيدة (ما يطلق عليها الشعر العمودي)، والمزدوج، والمسمط، والمخمس، والموشح، والقصيدة الحرة ( ما يطلق عليه شعر التفعيلة)، وقصيدة النثر. واعتبر النقدُ القديم القصيدةَ أفضل الأشكال؛ لاعتبارات ليس هذا مجال شرحها. في هذا العصر  رآى النقد القصيدة شكلا فنيا متجاوزا فبشر بالقصيدة الحرة في سنوات الخمسين، واعتبر هذا الشكل الوجه المعبر عن التحرر من التقاليد، ثم برزت قصيدة النثر باعتبارها الشكل المجسد للحداثة  الشعرية . والحق أن هذه الأشكال الشعرية  أشكال محايدة. إنما الحداثة أو غيرها تتجسد في الشاعر ، وفي رؤاه .

12 هلا حدثتمونا قليلا عن علاقة تجربتكم الشعرية بالتيمات التالية: فلسطين.. الغناء..الغربة في المدينة المعاصرة..النفَس الصوفي…؟

هذا السؤال يتولى النقد الإجابة عنه

-13- هل تؤمنون أستاذنا بأن القصيدة الورقية والرقمية أفسدت حميمية اللحظة الشعرية المشافهة للجمهور ؟ أليس من حقنا –جمهورَ الشعر- المطالبة بشعر القُرب؟

إذا نحن تحدثنا عن القصيدة العربية، فإن نشرها ورقيا يساهم في انتشارها، وتكبر هذه المساهمةُ حين تتحول إلى الرقمي خاصة إذا عُزز بإنشاد الشاعر، ذلك بأن الإنشاد يضفي على القصيدة جماليةً خاصة لا تتحقق بالكتابة.  لكن يبقى أن إلقاء القصيدة أمام جمهور حي يكون أكثر إنسانية،  لأن المتلقي يؤثر حضورُه، وتفاعله في الشاعر  فيزداد انفعالا  في إنشاده

14- هل تفتل المهرجانات الشعرية في عضد الشعر أم مجرد فرص للتنفيس عن أزمة القصيد؟

في إجابتي السابقة  بعضٌ مما يريده هذا السؤال. المهرجانات حين يحضر فيها الشعرُ الحق إنعاشٌ للقصيدة، لكن حين يحضر  أشباه الشعراء، فإن ما ينشدونه يبعد الجمهور عن الشعر، وربما يهجرونه. وهذا ما نلاحظه في زماننا هذا إذ قل الإقبال على الشعر .

15- هل لنا أن نزعم أن قصيدتكم  بنفس عمركم الشعري ؟ بمعنى آخر هل تسبقك أم تسبقها أم تكاتفك نعلا بنعل؟ !

القصيدة ليست مرتبطة بالعمر، إنها تسبقني، فكثيرا ما أراجع رياحين الألم مخطوطا، فمطبوعا فأجد أن عملا  كتبته مثلا في بداية سنوات السبعين، أقف عنده، وأكتشف أنه يعبر عني وأنا أتجاوز سنواتي السبعين.  ذلك بأني حين أكتب عن تجربتي في مرحلة من مراحل عمري لا أقوم بسرد هذه التجربة، إذ لو فعلتُ لكانت القصيدة تمشي مع حياتي نعلا بنعل، ولكني بدلا من هذا السرد، أقدم في النص ظلالا لتلك التجربة، هذه الظلال هي ما يجعل القصيدة  تسبقني  دائما.

16 – كيف تنظر بعد هذا العمر، إلى ذكرياتك القديمة الأولى مع أول قصيدة كتبتها أو نشرتها؟

في هذا العمر  أكتشف أن كثيرا من قصائدي تحمل همومي، وانشغالاتي الفنية ،وهذا راجع إلى الصدق في الكتابة. لكني حين أعود بذهني إلى الكتابات الأولى، وهي لم تضمها رياحين الألم، أشعر أن خلفها صانعا يمارس من خلالها تمارين على هذه الصنعة، وهذه الممارسة هي التي شكلت ملامح وجهي في مرحلة النضج.

17 – ختاما يحب قراء موقع منار الإسلام أن تمَسِّك هذا اللقاء بإتحافهم بجميلة من جميلات قصائدك..

الـفـرَحُ المُـشتعـل

 

ذَاتِيﭐشْتَقْتُ إِلَيْكِ. ٱشْتَقْتُ إِلَى أَنْ أَلْتَفَّ صَغِيراً بَيْنَ غَلَائِلِكِ الرَّطْبَةِ. أَنْ أَسْمَعَ عُصْفُورَكِ يَتْلُو جَهْراً مَا يَتَيَسَّرُ مِنْ أَشْعَارِ ﭐلْعِشْقِ اللَّافِحِ. إِنَّ الْأَحْجَارَ الْفَوَّارَةَ قَدْ فَصَلَتْنِي عَنْكِ هِيَ الْآنَ تُطَوِّحُ بِي بَيْنَ أَقَالِيمِ ﭐلْحُزْنِ  تُكَبِّلُنِي بِبِحَارِ الْهَمِّ القَاتِلِ يَا ذَاتِي مَا عُدْتُ كَمَا بِالْأَمْسِ أَرَاكِ: مَلَامِحُكِ الْمَأْلُوفَةُ تَـهْـرُبُ مِنِّي كَيْفَ أُعِيدُ إِلَى عَيْنَيَّ جَدَاوِلَهَا ﭐلرَّقْرَاقَةَ كَيْفَ أُعِيدُ إِليَّ القُوَّةَ حَتَّى أَجْمَعَ بَيْنَ ﭐلصَّخْرِ وَبَيْنَكِ فِي مَأْدُبَةٍ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّانَا أَتَمَرَّدْتُ عَلَيْكِ أَنَا أَمْ أَنْتِ تَمَرَّدْتِ عَلَيَّ فَهَلْ لِي أَنْ أَعْرِفَ مَنْ مِنَّا الْمَسْؤُولُ وَمَنْ مِنَّا الْقَاتِلُ مَنْ مِنَّا الْمَقْتُولُ هِيَ السَّاعَةُ قَامَتْ وَكِلَانَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ يَا ذَاتِي زَلْزَلَةُ السَّاعَةِ شَيْءٌ أَرْعَبَ هَذَا الْبَلَدَ الْمَقْهُورَ وَأَرْعَبَنَا مَعَهُ فَالنَّاسُ سُكَارَى فِي الطُّرُقَاتِ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى لَكِنَّ عَذَابَ الْقَهْرِ شَدِيدٌ وَعَذَابَ الْجُوعِ مَرِيرٌ وَعَذَابَ الْوَحْدَةِ قَهَّارٌ. أَوَلَمْ يُنْفَخْ فِي الصُّورِ فَكَيْفَ تُدَاهِمُنَا الْيَوْمَ قِيَامَتُنَا هَلْ أَمْوَاتاً كُنَّا فِي مَنْطَقَةٍ مَنْ يُدْفَنُ فِيهَا لَا يَسْمَعُ غَيْرَ دَبِيبِ الْأُفِّ وَغَيْرَ حَفِيفِ الْخَوْفِ وَهَذَا ﭐلصُّــورُ ﭐلْمَأْمُورُ لَهُ فِي الْأَرْضِ هَدِيرٌ كَيْفَ قِيَامَتُنَا حَلَّتْ فَتَشَتَّتْنَا كَالْأَصْدَاءِ تَكَسَّرْنَا كَالْأَصْدَافِ تَهَدَّمْنَا كَالْأَسْوَارِ تَبَدَّدْنَا كَالْغَيْمَةِ هَذَا حَبْلُ الشَّوْقِ إِلَيْكِ الْيَوْمَ يَشُدُّ خَمَائِلَ قَلْبِي ﭐلْمُتَهَالِكِ إِنِّي الْآنَ أَحِنُّ إِلَيْكِ أَحِنُّ إِلَى أَنْ أُسْجَنَ فِي أَدْغَالِكِ أَنْ أَلْتَفَّ كَبِيراً بَيْنَ غَلَائِلِكِ الرَّطْبَةِ عَلَّ ٱمْرَأَةً خَضْرَاءَ الْبَشْرَةِ زَرْقَاءَ الشَّعْرِ تَحُطُّ عَلَى صَدْرِي الْمُتْعَبِ تُخْرِجُنِي مِنْ هَوْلِ ﭐلْأَحْلَامِ وَمِنْ رُعْبِ الْأَوْهَامِ. لِمَاذَا أَصْبَحْنَا مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ هَا إِنِّي نَحْوَكِ آتٍ يَسْبِقُنِي خَوْفِي الدَّامِسُ آتٍ يَسْبِقُنِي هَمِّي الْقَارِسُ يَسْبِقُنِي ظِلِّي ﭐلْيَائِسُ آتٍ حِينَ أَعودُ إِلَيْكِ وَحِينَ تَعُودِينَ إِلَيَّ يَعُودُ إِلَيْنَا ٱلسَّمْعُ يَعودُ إِلَيْنَا الْبَصَرُ الثَّاقِبُ/فَإِذَا يُنْفَخُ في الصُّورِ نُحِسُّ مَعاً أَنَّا نَرْتَجُّ فَنَسْتَسْلِمُ لِلْفَرَحِ الْمُشْتَعِلِ

نَسْتَسْلِمُ يَا ذاتِي لِلْفَرَحِ الْمُشْتَعِلِ

عــامُ الحُــزن

 

عَامُكَ هَذَا عَامُ الْحُزْنِ فَلَا تَحْزَنْ

هَذَا الْأَرْقَمُ يَخْتَرِقُ الْأَسْوَارَ

وَيَكْتَسِحُ الْأَنْهَارَ

وَيَرْسُمُ وَجْهاً فِي شَكْلِ الْقَوْسِ الغَاضِبِ

يَدْعُوكَ أَن ٱرْكَبْ مَتْنَ حِصَانِكَ

جَرِّدْ إِيمانَكَ

فِي وَجْهِ الْأَدْغَالِ الْحَمْرَاءِ

ٱلصَّفْرَاءِ

ٱلسَّوْدَاءِ

ٱلبَيْضَاءِ

وَلَا تَحْزَنْ

****

خُذْ رُمْحَكَ وَﭐتْلُ عَلَيْنَا سِفْراً

مِنْ آيَاتِ القَصْوَاءِ

عَلَى الصَّحْراءِ

هِيَ الْآنَ تَجُوبُ الْبَحْرَ مُحِيطاً وَخَلِيجاً

خُذْ رُمْحَكَ

هَدِّئْ أَعْصَابَكَ

تَشْتَعِلُ الْأَرْضُ أَمَامَكَ

فَـﭑشْتَعِلِ الْآنَ لِتَحْيَا

اِشْتَعِلِ الْآنَ وَلَا تَسْكُنْ

إِنَّ الْمَاءَ الثَّجَّاجَ رَهِيبٌ لَا يَتَعَفَّنْ

****

لَا تُلْقِ دِثَارَ الْخَوْفِ عَلَى وَجْهِكَ

وَجْهُكَ يَعْرِفُهُ الْحَاضِرُ وَالْآتِي

وَجْهُكَ يَعْرِفُهُ الْحَمَأُ الْمَسْنُونُ

وَيَعْرِفُهُ الْمَارِجُ

تَعْرِفُهُ الْجُدْرَانُ الصُّلْبَةُ

يَعْرِفُهُ الطَّبْشُورُ الْأَبْيَضُ

وَجْهُكَ أَمْسَى مَرْسُوماً

فِي كُلِّ مِلَفَّاتِهِمُو بِالْأَحْمَرِ

وَجْهُكَ.. آهِ يَمُرُّ الْآنَ أَمامَهُمُو

يُسْحَبُ دَاخِلَ حُجْرَاتِ التَّدْجِينِ

وَلَكِنَّ الْوَجْهَ تَوَحَّشَ

كَشَّرَ عَنْ غَضَبٍ لَا يُقْهَرْ

****

لَا تُلْقِ بِعَيْنَيْكَ إِلَى طِفْلَتِكَ الْمَحْبُوبَةِ

لَا تُلْقِ بِعَيْنَيْكَ إِلَيْهَا

هِيَ تَضْحَكُ ..

تَلْعَبُ..

تَجْرِي ..

تَتْبَعُ صَوْتَكَ خُطْوَاتِكَ فِي أَنْحَاءِ البَيْتِ

تُدَاعِبُ أَوْرَاقَكَ

لَا تُلْقِ بِعَيْنَيْكَ إِلَيْهَا

أَخْشَى أَنْ يَهْزِمَكَ الْحُبُّ

فَيَنْقَلِبَ الْبَصَرُ الْأَبَوِيُّ إِلَيْكَ حَسِيرَا

لَا تُلْقِ بِعَيْنَيْكَ إِلَيْهَا

بَشِّرْهَا بِالْحُزْنِ وَلَا تَحْزَنْ

هَذَا عَامُ الْحُزْنِ فَلَا تَحْزَنْ

هَذَا عَامُ الْحُزْنِ فَلَا تَحْزَنْ

هــذا الـجَــسَـد

 

جَسَدِي قَطْرَةً قَطْرَةً يَتَسَاقَطُ.. آهْ. أيُّ عَاتِيَةٍ قَدْ رَمَتْهُ عَلَى بُعْدِ شِبْرَيْنِ مِنْ مِخْلَبِ ٱلشَّمْسِ كَيْفَ ٱسْتَطَعْتَ عُبُورَ ٱلْفَيَافِي وَلَمْ تَتَوَقَّفْ أَمَامَ الْمَحَطَّاتِ بِضْعَ دَقَائِقَ كَيْفَ ٱسْتَطَعْتَ التَّوَغُّلَ فِي جَوْفِ ذَاتِي الَّتِي نَسَجَتْ كَفَنَيْنِ. لِحُلْمِكَ يَا جَسَدِي كَفَنٌ وَلِصَحْوِكَ يَا جَسَدِي كَفَنٌ وَالْفَضَاءُ أَمَامَكَ يَرْسُمُ نَافِذَتَيْنِ ٱثْنَتَيْنِ فَوَاحِدَةٌ قَدْ تُسَافِرُ مِنْهَا إِلَيْكَ وَوَاحِدَةٌ أَغْلَقَتْهَا الشَّوَارِعُ وَٱشْتَبَكَتْ مَعَ كُلِّ خُيُوطِ ٱلْعَنَاكِبِ. كُلُّ الْغُصُونِ الَّتِي رَافَقَتْنِي تُنَازِلُ قَافِلَةَ الْأَهْلِ هَذَا ﭐلنِّزَالُ ٱلْمُكَثَّفُ يَجْرِي عَلَى جَسَدِي فَتَوَالَدَ فِيَّ حَنِينُ ٱلْوُقُوفِ عَلَى طَلَلِ الرَّاحِلِينَ وَهَلْ فِي شَوَارِعِ وَجْدَةَ يَا جَسَدِي طَلَلٌ دَارِسُ الْوَجْهِ إِلَّايَ هُمْ رَحَلُوا مَوْهِناً وَبَقَايَا ٱلْأَثَافِي عَلَى كَتِفِي وَسُطُورُ السُّيُولِ عَلى شَفَتِيْ قِصَّةٌ هَدَّمَتْنِي قِراءَتُهَا

جَسَدِي مَرْتَعٌ لِصَهِيلِ الصَّدَى هَجَرَتْ رَبْعَهُ الْقَطَوَاتُ وَأَعْطَتْ لِهَذِي الطَّحَالِبِ حَقَّ ٱلتَّسَكُّعِ فِي كَهْفِ ذَاتِي لَقَدْ بَشَّرَتْنِي اللَّيَالِي بِهذَا الْعَذَابِ الْعَظِيمِ فَخُضْتُ مَتَالِفَهُ زَمَناً ذُقْتُ فَيهِ لَذِيذَ التَّغرُّبِ. يَا صَاحِبِي كَمْ تَغَرَّبْتُ بَيْنَ دَوَائِرِ دُنْيَايَ دَهْراً بَطِيءَ ٱلْفُصُولِ وَتِهْتُ حَيَاتِـيَ حَتَّى ٱسْتَضَأْتُ بِنَارِ ٱلتَّتَارِ وَذاتِيَ مِنْها ٱنْسَحَبْتُ وَأَخْرَجْتُ أَثْقَالَهَا لِلتَّنَائِفِ. يَا صَاحِبِي أَنَا رَافَقَنِي الْيُتْمُ رَافَقْتُهُ زَمَناً.. لَيْتَ نَاقتَكَ الْيَوْمَ تَبْرَكُ فِي مِرْبَدِي هِيَ قَدْ خَرَجَتْ مِنْ ضِفَافِ الْخَلِيجِ مُحَمَّلَةً بِسِلَالِ الصَّبَاحِ هِيَ الْآنَ مَأْمُورَةٌ أَنْ تَدُكَّ جِبَاهَ ﭐلطَّوَاغِيتِ.. هَذِي الْجِبَاهُ الَّتِي غَرَّبَتْنِي عَنِ الْأَهْلِ سَوْفَ تَزُولُ تَزُولُ تَزُولُ وَيُزْهِرُ هَذَا الْجَسَدْ.

صاحِـب الغــار

 

إِنَّا فِي الْغَارِ ٱثْنَانِ وَثالِثُنَا لَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ وَصَوْتُ اللهِ يَشُقُّ صُخُورَ الْغَارِ لِيُوحِي لِلصَّاحِبِ أن الْغصْنَ الْأَخْضَرَ لِلسِّدْرَةِ يَجْمَعُ كُلَّ ٱثْنَيْنِ وَأَنَّ الله بِجَانِبِ كُلِّ ٱثْنَيْنِ إِذَا كَانَا مِنْ أَصْحَابِ الْحُبِّ الْأَبْيَضْ.

رَبِّي آمَنْتُ بِآيَاتِكَ إِمَّا جَاءَ الزَّمَنُ ٱلْأَخْضَرُ أَوْ جَاءَ ﭐلزَّمَنُ الْعَاقِرُ فَالْحَبْلُ ٱلْيَرْبِطُنِي اللَّحْظَةَ، بِغُلَالَةِ عَرْشِكَ يَقْوَى فِي ٱلزَّمَنَيْنْ

****

يَا أَنْتَ الْواقِفُ[1] عِنْدَ شِفَاهِ النَّهْرِ ٱلصَّامِتِ هَلْ تَقْوَى أَنْ تَتْبَعَهُ أَوْ تَعْبُرَهُ حَتَّى تَبْلُغَ سُنْبُلَةَ الشَّفَقِ التَّائِهِ أَمْ يَكْفِي أَنَّكَ مُنْذُ وِلَادَتِكَ الْكُبْرَى تَتَأَمَّلُ وَجْهَ الْآتِي فِي مِرْآةِ ٱلنَّهْرِ وَتَحْلُمُ يَقْظاناً أَنَّكَ تَمْشِي فِي مَوْكِبِ عُرْسِهْ.

تُـهْدِي لِعَروسِكَ جَدْوَلَ حُبٍّ لَا يَشْرَبُهُ رَمْلُ ﭐلصَّحْرَاءِ تَقُولُ لِرَبِّكَ: رَبِّ ﭐجْعَلْهَا تَحْمِلْ وَجْهِي فِي كَفَّيْهَا تَنْثُرْهُ شَجَراً خَلْفَ ٱلشَّفَقِ ﭐلْيَجْذِبُهُ عَرْشُ اللهِ إِلَيْهْ

رَبِّ يُطَوِّقُنِي حُلْمِي فَابْعَثْ لِي مِنْ عِنْدِكَ إيـمَاناً يُنْقِذُنِي مِنْ هَذَا الْأَسْرِ لِأَنَّ الْأَحْلَامَ تَقُودُ إِلَى الْكُفْرِ وَأَنْتَ تُعَذِّبُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْكَافِرَ شَرَّ عَذَابٍ فَقِنِي شَرَّ الْكُفْرِ وَشَرَّ الْأَسْرِ وَشَرَّ الْحُلْمْ


[1]– يجوز: الوَقْفَ بفتح الفاء

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.