قراءة في مفهوم السلطة في الفكر السياسي لدى محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني (1505-1425م): دراسة مقارنة مع فكر نيكولو ميكيافيلي (1469-1527م).
الدكتور يسين العمري
قراءة في مفهوم السلطة في الفكر السياسي
لدى محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني (1505-1425م):
دراسة مقارنة مع فكر نيكولو ميكيافيلي (1469-1527م).
A Reading of the concept of « Authority » in the political though
of Mohamed IBN Abdel karim Al Mughaili Tlemçeni (1425-1505 AD):
A comparative study with the political though of Niccolo Machiavelli (1469-1527 AD)
الدكتور يسين العمري
Yassine El Amiri
دكتوراه في علم اجتماع السياسة والدين
جامعة الحسن الثاني- كلية الآداب والعلوم الإنسانية بنمسيك – الدار البيضاء – المملكة المغربية.
yassine.elamiri@gmail.com
ملخص
إن موضوع السلطة السياسية التي تتولى الحكم في مختلف الحقب، ومختلف أنحاء العالم، ولاسيما فيما يتعلّق بشرعية الحاكم ومقوّماته، كان مثار اهتمام باحثين كثر، وعرفت العديد من الدراسات إجراء نوع من المقارنة بين الأفكار السياسية عبر التاريخ، وعبر الفضاء المكاني، ومن هنا نقترح إجراء دراسة مقارنة بين الفكر السياسي في موضوع السلطة السياسية لدى محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني وهو مؤلف كتاب “تاج الدين: فيما يجب على الملوك والسلاطين”، وبين الفكر السياسي لدى معاصره نيكولو ميكيافيلي مؤلف كتاب “الأمير”. حيث سنحاول استقراء واستنباط أهم الأفكار السياسية المتعلقة بالسلطة وبالحاكم لدى كلّ منهما، والهدف مقارنة الفكرين السياسيين الإسلامي والغربي في موضوع السلطة، حيث سنجد للدين مكانه في نظرية المغيلي، وللواقعية السياسية مكانها في نظرية ميكيافيلي.
الكلمات المفتاحية: السلطة، الشرعية، مقوّمات الحاكم، المغيلي، ميكيافيلي، الفكر السياسي، تاريخ الأفكار السياسية.
Abstract
The question of the political authority which governs at different times and in different parts of the world, in particular the point of the legitimacy of the sovereign and his characteristics has interested many researchers. Many studies have known a kind of comparison between political ideas throughout history and across geographic space, and from there we propose to conduct a comparative study between political thought in The Subject of Political Power, between Mohamed ibn Abd al Karim al Mughili Telmçeni, the author of the book “Throne of religion: what is obligatory for Kings and Sultans”, and the political thought of Niccolo Machiavelli, author of the book “The Prince. ”We are therefore going to dissect and analyze the concept of power and the governor in political thought among the two thinkers. The objective is to compare Islamic political thought with that of the West, concerning the question of power, where we will find a place of religion in the theory of Al Mughili, and a place of political realism in the theory of Machiavelli.
Keywords: Authority, legitimacy, characteristics of the governor, Mughali, Machiavelli, political thought, history of political ideas.
مقدمة:
شكّلت الأفكار السياسية وتاريخها في التعاطي مع مفهوم السلطة السياسية والتأصيل له، مجالاً خصباً في العلوم السياسية، وفي العلوم الشرعية على حدّ سواء، وكذا في علم الاجتماع السياسي، لأنّ السلطة لها علاقات عمودية وأفقية، فهي عبارة عن مؤسسات اجتماعية، عملها منظّم بنصوص دستورية، قانونية، وشرعية، هذه العلاقات معقّدة ومتشابكة، ولها أوجه متعدّدة وتميّزت الأفكار والنظريات المتعلقة بالسلطة بدينامية كبيرة من حيث الطرح والتأصيل لها كمفهوم، كمؤسسة، كأشخاص يزاولونها وكنصوص منظمة لها، وعرفت هذه الأفكار تدافعاً وجدلية في مختلف الثقافات، وأحياناً داخل نفس الثقافة والفكر والنسق، لدرجة خلق نوع من المفارقات أحيانا (paradoxe)، وقد عرف تاريخ الفكر السياسي فيما يخصّ مسألة السلطة مساراً طويلاً عبر محطّات تاريخية تميّزت بالتحدّي والمواجهة حيناً والتحالف والتناغم حيناً آخر.
ولم يخلُ الفكر السياسي الإسلامي بدوره من هذه التجاذبات والتناغمات والتنافرات فقد ظهرت مثلاً مسألة الحاكمية كمفترق طرق نتج عن أحداث سياسية خطيرة في التاريخ الإسلامي عرفت بالفتنة الكبرى، وما نتج عنها من صراع على السلطة، وانقسام المسلمين لسنة وشيعة وخوارج… الخ. وسنشتغل في هذا الدراسة المقارنة على مفكّرين سياسيين عاصرا بعضهما في فترة العصر الوسيط المتأخّر، أحدهما مسلم وينتمي تحديداً إلى منطقة الغرب الإسلامي وهو محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني، والآخر مفكّر غربي إيطالي هو نيكولو ميكيافيلي صاحب نظرية الواقعية السياسية. وسبب هذين الاختيارين هو عقد مقارنة بين الفكر السياسي الإسلامي والغربي في مسألة السلطة ومقوّمات الحاكم وطريقة الحكم والتعامل مع المحكومين، فالتلمساني ينطلق في نظريته من ثقافته الإسلامية التي لها قواعد في السياسة الشرعية ومسألة الحكم، أمّا ميكيافيلي فقد انطلق في نظريته من منطلقات تتجاوز الأمور الدينية، وقد كانت تلك الفترة معروفة في أوربا الغربية بعصر النهضة، حيث بدأت أوربا تنحو شيئاً فشيئاً باتجاه الانعتاق من سيطرة الكنيسة، وفي نفس الفترة كانت عصور الانحطاط في العالم الإسلامي.
يمكن القول كذلك أنّ الحاكم المسلم، باختلاف مسمياته، سواء كان خليفة أو أميرا أو سلطانا، وفي ظل غياب المؤسسية أو الإطار المؤسساتي، كان الرقيب الوحيد عليه هو ضميره، ولاسيما في فترة ما بعد عهد الخلفاء الراشدين، وبدء مرحلة الملك الوراثي. علماً أن ما ينبغي أن يكون وفق التراث الإسلامي، فهو أنّه على كل ذي عقل ورشد عليه أن يتفادى أن يكون في موقع السلطة، نظرا لحجم التكليف والمسؤولية. وفي رواية عن أبي ذر قال: قلت يا رسول الله، ألا تستعملني؟ فضرب بيده على منكبي ثم قال: « يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها، وأدى الذي عليه فيها»،[1] وقد أكد هذا المعنى كما سنرى أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني، في كتابه “تاج الدين: فيما يجب على الملوك والسلاطين” الذي ترجم إلى اللغة الإنجليزية.
ونرى أنّه ينبغي تعريف القارئ بالمغيلي، من باب شرح لماذا اخترنا الاشتغال عليه في هذا المقال، واخترنا مقارنة فكره السياسي مع ميكيافيلي، وما هي أوجه الشبه والاختلاف بين المفكّرين، فالمغيلي كما وصفه التنبكتي هو: «… مفسر وفقيه وأحد أعلام الفكر السياسي الإسلامي في زمانه، حيث عاش في القرن التاسع وأوائل العاشر الهجري، وقد عاصر المفكر الإسلامي جلال الدين السيوطي، وكانت بينهما مراسلات، وتنقل لعدة أقطار إسلامية مثل اليمن والسودان، كما عايش أحداثا كبرى مثل سقوط غرناطة في يد ملكي قشتالة وأراغون إيزابيلا وفرناندو، وبالتالي نهاية الحكم الإسلامي بالأندلس، وما تبع ذلك من ظهور سطوة الممالك النصرانية وخصوصا البرتغال، وبداية توسعها في شمال إفريقيا وغربها… وبالتالي جاء كتابه المذكور “تاج الدين” في سياق الدعوة إلى الإصلاح السياسي بوصفه “أداة إنقاذ” لدولة الإسلام من حالة الضعف والوهن التي حلت بها خصوصا في شمال إفريقيا».[2]
في حين أنّ نيكولو ميكيافيلي، وكما يمكن أن نستشف من خلال الاطّلاع على كتابه “الأمير” وسياق تأليفه المذكور في مقدّمة الكتاب، فإنّ الأقرب إلى الصواب هو أنّ الدافع والباعث وراء أفكاره عن السلطة جاء في سياق استرضاء حاكم فلورانسا الدولة-المدينة المستقلة، فالفكرة المحورية التي تسيطر على كتاب الأمير هي عرض وتقييم عدد من الطرق للسيطرة على الإقليم والحفاظ على تلك السيطرة. أما معيار المفاضلة بين تلك الطرق وبعضها، فهو تعظيم المجد الشخصي للأمير، وفي نفس الوقت خدمة الصالح العام، وقد كان تركيز ميكيافليي على النجاح العملي بأي وسيلة، حتى على حساب القيم الأخلاقية التقليدية، هو السبب في اكتساب ميكيافليي سمعة القسوة والخداع والتوحش.[3]
كما ظهر حرص ميكيافيلي على إرضاء الأمير من خلال الكتاب، خاصة في آخره حيث يشير إلى العهد الماضي للحاكم السابق كأنه حالة فشل، وأن كل المساوئ التي عاشتها إيطاليا كانت نِتاجاً طبيعياً لفقر رجاحة العقل التي عانى منها هذا الحاكم. وأكثر من ذلك، أن الأمير الجديد، في رأي ميكيافليي، هو هدية من الله لتخليص إيطاليا من كل تلك المشاكل والصعاب.[4]
وتجدر الإشارة إلى أنّ إجراء المقارنة في هذا المقال بين الفكر السياسي عند المغيلي وعند ميكيافيلي بالأساس في نظرتهما للسلطة والشرعية ومقوّمات الحاكم، لم يحل دون إجراء مقارنات أخرى صغرى، كلّ حسب سياقها في المقالة، من باب إثراء النقاش وطرح تساؤلات حول نظرية كلّ منهما.
الإشكالية:
اخترنا الإشكالية التالية لتناول الموضوع: كيف تناول كلّ من المغيلي وميكيافيلي في أفكارهما السياسية مفهوم السلطة، وبالأخص مسألة الشرعية ومقوّمات الحاكم؟
سنراهن في هذا المقال إذن على إشكالية ذات طابع تفكيكي لمفهوم السلطة السياسية بين نظرية مستمدّة ومستوحاة من أصول دينية، ونظرية مقابلة هي نتاج لاجتهاد بشري،[5] ومن خلال هذه المقارنة سنحاول استقراء التناقضات بين النظرتين في خاتمة المقال، حيث سنحاول استيضاح واستبيان التباس الأخلاقي والديني بالسياسي، وسنحاول الإجابة على إشكاليات صغرى تتفرع عن الإشكالية الرئيسية من قبيل: أين تتموقع الواقعية السياسية بين الحقلين؟ وهل يسوغ للحاكم تحت مسمى الواقعية أن يضرب بعرض الحائط الأخلاق فيستند حكمه على الخداع والمكر والبطش وكل ما هو دنيء؟ وإلى أيّ حدّ تتعارض الأخلاق مع السياسة؟ وهل النظرية السياسية المستمدّة من الأخلاق مثالية لا تصلح للعمل السياسي؟ وهل من الضروري أن نحكم لأحدهما بالصواب والآخر بعدم الصواب؟ أم أنّ لكلا الأمرين معقوليته وصوابه في بعض الجوانب؟ كل هذه أسئلة سنحاول أن نلامسها في مقالنا هذا.
أهداف البحث وأسبابه:
محاولة توضيح أنّ السلطة السياسية كما هو متعارف عليها اليوم، كمفهوم وكممارسة وكوقائع ومؤسسات اجتماعية وكنصوص لها حمولة تاريخية، لا مناص من أن تستند على سلطة المفكّر (سلطة العقل) الذي ينظّر لها، ويمدّها بالأفكار التي تشتغل بها ومن خلالها لتكريس حكمها وشرعيتها، إذ لا يكفي أن تحتكر السلطة وسائل العنف وتتحالف مع مؤسسات عديدة تبرّر لها توجّهاتها مثل المؤسسة الدينية. وفي الغالب يكون المفكّر الموالي للسلطة السياسية هو من يمدّ هذه الأخيرة بأفكار واستراتيجيات لها معقوليتها السياسية ووجاهتها من ناحية الطرح الفكري، لذلك يستعين الحاكم في كلّ العصور بالعلماء والمفكّرين والمنظّرين ليضمن وجود خطط عمل يشتغل بها ليقنع العامّة، وبالتالي يضمن عدم تمرّدهم على السلطة القائمة، فتارة تكون تلك الأفكار مغلّفة بغلاف ديني وتارة أخرى بغلاف عَلماني أو لا ديني، وهذا الأمر ما زال إلى اليوم، حيث يستعين الحاكم بالمثقفين الموالين له وبرجال الدين والإعلام والفنّ والمناهج الدراسية ليكرّس شرعيته ومشروعه. وبالعودة لموضوع المقال سنجد أنّ كلا المفكرين يطرحان أفكارهما عن السلطة والحكم والحاكم والعلاقة مع المحكوم في كتاب، على شكل نصيحة سياسية للسلطان أو الأمير.
- وضع الأصبع على الاختلاف بين الفكر السياسي والغربي في نظرتهما للسلطة، الحاكم، طبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين.
- الانخراط في سياق الدراسات والأبحاث التي تمّ القيام بها حول الموضوع.
- وضع الأصبع على الاختلاف في مفهوم “السلطة السياسية” بين الفكرة الدينية والدنيوية.
- إجراء مقارنة بين الفكر السياسي الإسلامي والغربي في بعض الأفكار المتعلقة بالسلطة السياسية وشرعيتها في شخص الحاكم أو الأمير.
- مساءلة مدرسة الواقعية أو البراغماتية السياسية من جهة، والأخلاق السياسية من جهة أخرى.
- البحث في بعض مقومات الحاكم وحاشيته ورعيته من ناحية علم الاجتماع السياسي وعلم الاجتماع الثقافي ومن الناحية السيكولوجية.
- إبراز بعض الاختلافات بين الفكر السياسي الذي يستند على خلفية دينية، والفكر السياسي الذي يستند على خلفية عَلمانية.
أهمية الموضوع:
تكمن أهمية البحث في كون أنّ ما عرفته المنطقة العربية من حراك جماهيري أُطلق عليه “الرّبيع العربي”، أعاد طرح العديد من الأسئلة والنّقاشات ولا زال، حول السياسة، السلطة والحاكم ومحيطه ومؤسسات السلطة والدساتير كنصوص تنظم علاقة الحكّام بالمحكومين، وهو ما استدعى – في تقديري- العودة إلى النّبش في مسألة السلطة السياسية ومقوّمات الحاكم وضوابط علاقته بالمحكومين.
من هذا المنطلق، نرى أنّ أهمية البحث مُستمَدّة من عنصر الجِدّة والرّاهنية، إضافة إلى رغبتنا في المساهمة الأكاديمية في موضوع السلطة السياسية في الفكر السياسي والعلوم السياسية والاجتماعية سواء في المرجعية الغربية أو العربية، مع اختلاف زوايا معالجة الموضوع، ومن خلال اطّلاعي على المصادر والمراجع التي تسنّى لي الاطّلاع عليها أثناء إنجاز هذه المقال.
مصطلحات البحث
تقتضي الضرورة المنهجية للبحث العملي أن نقوم ببسط مفهوم السلطة، لأنّها عماد المقال وصلب أهمّ أفكاره، ونقترح التعريف الاصطلاحي للسلطة الذي جاء به ناصيف نصّار، حيث يرى أنّ: »… السلطة بمعناها العامّ هي الحقّ في الأمر، فهي تستلزم آمِراً ومأموراً وأَمْراً، آمِراً له الحقّ في إصدار أمر إلى المأمور، ومأموراً عليه واجب الطاعة للآمر وتنفيذ الأمْر الموجّه له. إنها إذاً، علاقة بين طرفين متراضيين، يعترف الأوّل منهما بأنّ ما يُصدره من أمر إلى الطرف الثاني ليس واجباً عليه إلا لأنّه صادر عن حقّ له فيه، ويعترف الثاني منهما بأن تنفيذه للأمر مبني على وجوب الطّاعة عليه وحقّ الطّرف الأول في إصدار الأمر إليه، فالمشكلة الأساسية الأولى في علاقة السلطة هي مشكلة الاعتراف بما تتقوّم به من حق وواجب عند طرفيها. فإذا كان الاعتراف تامّاً ومتبادلاً، استقامت السلطة كعلاقة أَمْرِيَّة مشروعة، ولكن إذا تطرّق الخلل إليه، من جهة الأمر أو من جهة المأمور أو من جهة الآمر نفسه، فإنّها تتعرّض للارتباك والتّصدّع والوهن، وقد تنتهي إلى انهيار».[6]
منهجية البحث:
اعتمدنا في هذا البحث على المنهجين الوصفي والتاريخي، إضافة لجوانب من المقارنة والنقد والتحليل، انطلاقاً من زاوية المعالجة التي اخترتها للموضوع وهي بالأساس التاريخ، دون إغفال بعض الأنساق ومجالات البحث الأخرى الثانوية مثل الفكر السياسي والعلوم السياسية والسياسة الشرعية.
وقد اقترحنا هذه المنهجية، عملاً بالقاعدة البحثية القائلة بأنّ طبيعة الموضوع هي التي تحدّد طبيعة المنهجية، حيث لم أعتمد في هذا البحث على منهج واحد، بل قمت بتوظيف المنهج المناسب في الظّرف المناسب، ولهذا قمت مثلاً بتوظيف المنهج الوصفي للمساهمة في التّعرّف على المفاهيم موضوع المقالة (السلطة السياسية، الحاكم، الشرعية)، والوصول إلى تفسيرات تحاول الإجابة على الإشكالية، وبالتّالي تحديد نتائج البحث، كما قمت بتوظيف المنهج التّاريخي لتتبّع ورصد محطّة من محطّات التنظير للسلطة السياسية في العصر الوسيط المتأخر في السياقين الغربي والإسلامي.
وبعد أن حاولنا تقديم المقال، ووضعه في سياقه التاريخي والمفاهيمي، وطرح الإشكالية، نطرح التصميم المقترح للإجابة عن إشكالية المقال، ثمّ ننتقل إلى تناول المبحث الأول.
خطة البحث
للجواب عن إشكالية المقال نقترح التقسيم التالي:
المبحث الأول: مفهوم السلطة ومقومات الحاكم لدى المغيلي التلمساني.
المبحث الثاني: مفهوم السلطة ومقومات الحاكم لدى ميكيافيلي.
خاتمة: نقط الاتفاق والاختلاف بين المغيلي ومكيافيلي.
المبحث الأول: مفهوم السلطة ومقومات الحاكم لدى المغيلي.
طرح المغيلي مفهومين شديدي الأهمية والاتساق في مطلع كتابه عند حديثه عن أبعاد مفهوم السلطة، وهما مفهوما التقوى وهوى النفس. حيث ربط المغيلي في بداية حديثه بين تقوى الله والاعتصام بالله من هوى النفس،[7] وهو أمر – في تقديري- منطقي وأساسي عند الكلام عن السلطة، خاصة في تلك الفترة الزمنية التي كانت الممارسة تشير إلى أن سلطة الدولة كلها في يد الأمير أو الخليفة ويفوّض بعضها لولاته على الأقاليم والأمصار، وأن وليّ الأمر كان يفعل بالمحكومين كيف يشاء متى يشاء، وكان غياب المؤسسية وما تفرضه من ضوابط على الحكام والمسؤولين، يجعل الاهتمام بالتحذير من هوى النفس أمراً في محله.
المطلب الأول: مسؤولية السلطة عند المغيلي التلمساني:
تعلّق ابتسام علي حسين على ما ذكره المغيلي في الفقرات الأولى من كتابه “تاج الدين” في معرض حديثه عن مسؤولية السلطة، حين أشار إلى أنّ »… الإمارة بلوى بين الهوى والتقوى»، حيث وصفت هذه العبارة بما يلي: »… يتّضح أنه على دراية بعمق النفس البشرية وخباياها في تلك العبارة المشار إليها، فقد قدّم الهوى على التقوى، برغم من أن التقوى هي الأعلى والأسمى والأفضل كما أنها هي ما يريد “المغيلي” من الحاكم أن يحققه. بيد أن التراتبية التي قدمها تعكس فهم الإنسان وسرائره، حيث الهوى هو الأسهل والأقرب إلى النفس، وهو جزء أساسي ليس فقط من ممارسة “السلطة” وإنما أيضاً من أي عمل إنساني…أما التقوى، فهي على العكس من ذلك، تحتاج إلى الاجتهاد والجهاد والخروج عن الهوى ومقاومته، وكأنما يقدم “المغيلي” خطّاً متدرجاً من الأسهل إلى الأصعب، من الأقرب إلى النفس البشرية إلى الأبعد منها، حينما يقول إن “الإمارة بلوى بين الهوى والتقوى».[8]
وقد رأى المغيلي في السلطة مسؤولية، حيث ذهب إلى أن كل من يملك العقل “سمّاه الرشادة”، فعليه أن ينأى بنفسه عن السلطة. ولا يدخل أبواب الحكم إلا مضطراً، أو كارهاً. أما إذا ما اضطر الإنسان إلى ممارسة السلطة والدخول إلى عالمها، وفقا للمغيلي، فأول ما يجب أن يتذكره هو أنه ما زال بشراً، مثل كل البشر من حوله، ويكرر المغيلي أهمية الخوف من الله والسهر على خدمة الناس الذين ولاه الله عليهم، حيث أن الحكم ليس ميزة وإنما عبء ومسؤولية. مع تأكيده على أهمية التواصل مع الرعية والعلم بقضاياهم، وعدم اتكال الحاكم على مجموعة من القضاة أو غيرهم من العاملين في الدول، والاهتمام بفئتين من الرعية، ألا وهما النساء والأطفال، وربما يعكس ذلك الاهتمام بتلك الفئتين تحديداً بصيرة المغيلي، فهم الضعفاء من الناس والمستضعفين منهم، وبالتالي، فهم أكثر الناس حاجة إلى العدالة.[9]
المطلب الثاني: مفهوم الشرعية عند المغيلي التلمساني:
سنتطرق في هذا الجزء من المقال إلى مفهوم الشرعية التي يتوجب على السلطة في شخص الحاكم أن تتوفر عليه، حيث تطرق أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم المغيلي التلمساني لمسألة شرعية السلطة، فقد كرر على مدار كتاب “تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين”، عبارة لا تعبر إلا عن اهتمامه الشديد بمسألة الشرعية. تلك العبارة هي »… رأس كل بلية، احتجاب السلطان عن الرعية».[10] فالحاكم لينال مشروعيته لا مناص له من الاهتمام والانغماس في هموم رعيته، وعدم الانزواء في قصره مع حاشيته، والتفرغ لأموره الشخصية، وملذّاته الفردية، إذ يفقد في هذه الحالة شرعيته، ويعرض حكمه لخطر الثورة عليه.
إن هذه العبارة جوهرية بالنسبة لفهم المغيلي وطرحه لمفهوم السلطة. ويظهر ذلك بتكرار هذه العبارة في أكثر من موقع بالكتاب. ومن أجل بناء شرعية السلطة، تطرق المغيلي إلى عدد من القضايا الفرعية المهمة، مثل مظهر السلطة. فقد حضّ الحاكم على حسن المظهر والتطيب والتزين…الخ، فإن هيبة الحاكم لابد أن ترتبط بمظهر لائق، لكن مع ترك الإسراف والتطرف والمغالاة. بل إن الضوابط التي أوردها المغيلي تكاد تقضي على فرص الحاكم في الخيلاء بنفسه أو الزهو بها. فعليه أن يراعي عدم التشبه بالنساء أو إفساد بيت المال أو التحلي بالذهب أو الفضة أو الحرير، وكل ما حرم الإسلام على الرجل.[11] وهنا أحد ملامح التشابه مع ميكيافيلي، فالأخير كذلك حرص على توجيه نصائح أو توجيهات للأمير، بغضّ النظر عن محتوى هذه النصائح بين المفكّرين والتي تراعي خصوصية المرجعية الفكرية والثقافية لكلّ واحد منهما.
ولكن المظهر ليس فقط ملبسا، فهو أيضاً سلوك. ومن ثمّ، دعا المغيلي الحاكم إلى الجلوس بشكل معين “أطلق عليه التربيع” وهو فيه دليل على التواضع، وترك كثرة الحركة، لما في ذلك من ضياع الهيبة والوقار اللازم للحاكم، مع التأكيد على مراعاة حتى النظر إلى الآخرين وعدم التحديق في الآخرين “هامش العين”، والتفكر مع الإقبال على المحكومين لأداء حقوقهم وليس رياء. هذا وقد راعى “المغيلي” أدق التفاصيل، حتى فتح فيَّه للتثاؤب، فهو غير وارد إلا في أضيق الحدود[12]. وإذا ما أردنا التعبير عن تلك الفكرة بشكل مختصر، فإن أفضل تعبير هو ملاءمة مظهر الحاكم لمنصبه المهم، ملبساً وسلوكاً. وممّا يُحسب – في تقديري- للمغيلي أنّه كان صاحب نظرة استشرافية، حيث أكد على مسألة المظهر دون أن يعيش في العصر الحديث، حيث يحظى تعليم الحكام كيفية ارتداء الملابس والقيام بالسلوكيات (طريقة المشي، الأكل، الوقوف…الخ)، والتصرفات اليومية باهتمام كبير مبني على دراسات علمية متنوعة، ويُنْفق مال كثير لتعليم الأمراء هذه الأمور، ويمكن مقارنتها بما يصطلح عليه حاليا بالإيتيكيت والبروتوكول كفنّ للتعامل مع الآخر بذوق وتهذيب.
ونزعم أنّه في عالم اليوم، بدا شكل ومظهر الحكام جزءاً لا يتجزأ مما يسمى بالصورة العامة « public image » الخاصة بكبار المسؤولين. وهو ما انعكس في الاهتمام ليس فقط بتاريخ الحكام السياسي والاجتماعي وإنما أيضاً شكلهم الفيزيائي، أصلهم العرقي، أسلوبهم في الحديث والخطاب وتناولهم للقضايا العامة المهمة. وتمّ إنفاق ملايين الدولارات على تحسين قدرة الحاكم، بل والمرشحين للمناصب العامة الكبرى، على أداء تلك المهام بشكل جذّاب ولائق يعظّم من احترامه، ويعزز من ثقة المواطنين فيه. إن تلك الأشياء التي قد تبدو بسيطة أو غير ضرورية هي في الحقيقة شديدة التأثير في نفوس المحكومين، وتعزّز بشكل أو بآخر شرعيتهم لدى الحاكم. وممّا يتماهي مع هذا الطرح نجد ابتسام علي حسين، التي تشير إلى أنّ: »… المحكوم ينظر إلى الحاكم سيء الملبس والسلوك غير جدير بالطاعة، وبالتالي إذا كانت السلطة تفتقر إلى الطاعة، فإنها تنتهي وتزول».[13]
المطلب الثالث: صحبة الأمير في حالتي السلم والحرب عند المغيلي التلمساني:
ننتقل من نقطة المظهر، إلى قضية فرعية أخرى هامّة طرحها المغيلي وهي الصحبة أيْ صحبة الأمير. والمقصود هم معاونو الحاكم وخدمه. وقد عرفهم باستخدام معياريين: الوظيفة والصفات الشخصية التي تصبّ جميعها في قيمي الورع وتقوى الله. فمرة يشير إلى المعاون من حيث وظيفته، وتارة يشير إليه من حيث وظيفته وورعه. وعلى سبيل المقارنة، فميكيافيلي كما سنرى تطرّق بدوره لهذه النقطة، وسمّى محيط الحاكم بأمناء الأمير، وهم إمّا صالحون أو غير صالحين، وترك تقدير ذلك لذكاء الأمير،[14] كما دعا ميكيافيلي الأمير إلى تجنّب المتملّقين الذين يمتلئ بهم كلّ بلاط، ودعاه ألا ينخدع بهم، لأنّهم طاعون يصعب على من أصيب به أن يتخلّص منه، وتكون عاقبته مكلفة على الأمير، حيث يغامر باحترامه ويُصبح مُزْدَرىً.[15]
وقد فصَّل المغيلي في مسألة تلك الصحبة، فأصحاب الحاكم ينبغي أن يكونوا: »… خدام بالحضرة يتصرفون، وعقلاء يُشيرون، وأمناء يقبضون ويصرفون، وكتّاب وحساب يحفظون، ورسل وجُسّاس، وحفظة وعسس، وعلماء ثِقاتٌ يرشدون، وأئمة فضل يجمعون، وعدول يشهدون، ومحتسبون يكشفون ويصلحون، وأرباب شرطة يزجرون، وشفعاء يشفعون، وقضاة ثِقاتٌ يفصلون، ورجال معظمون لوجه الله، وعمّال يحبون حقّ الله، ووزراء لا يخشون إلا الله… ».[16]
هذا إلى جانب تخصيصه حالة الحرب بعدد آخر من المستشارين والمتخصّصين الذي يجب أن يتّخذهم الحاكم كأصحاب، وهي نقطة مهمّة أخرى يتناولها المغيلي في بناء شرعية السلطة، حيث تنبني على تحذير الأمير من الجبن والجبناء. فالجبناء ينتجون حالة من الجبن العام ويدفعون الحاكم إلى التخاذل والخنوع، فيما يحفزه الشجعان على الإقدام والمواجهة. وتكون هذه الفكرة استكمالا لما قدمه المغيلي عن صحبة الأمير أو السلطة.
وقد ذكر المغيلي عن أصحاب الأمير في حالة الحرب أنّهم يجب أن يكونوا: »… وزراء يجمعون الرجال ويخففون الأثقال، ويحملون على الحرب وحمل السلاح….وجناحين من سائر الخيل والرجال، وبلغاء ينشطون القلوب ويقبحون الهروب، وعرفاء بالحروب برأيهم تنكشف الكروب».[17]
المطلب الرابع: بعض المقوّمات اللازمة في الحاكم عند المغيلي التلمساني:
يعتبر العدل نقطة هامّة جدّاً لنيل الحاكم لشرعية سلطته، وقد تبدو لأول وهلة، مسألة الدعوة إلى العدل نمطية إلى حد كبير. خاصة، إذا ما أدركنا أن أغلب منظري السياسة، والسلطة تحديدا، لم يتوانوا عن التأكيد على ضرورة الحرص على العدل في الحكم. وهو ما يرتبط بدءاً بوظيفة القضاء أو الحاكم بوصفه قاضيا. بيد أن المغيلي له تصور دقيق عن مفهوم العدل، حيث تنبع دقة مفهوم العدل لديه من استعارته التعريف النبوي للعدل، حيث ينبغي أن يؤتى كل ذي حق حقه من نفسه وغيره. وبالتالي فالعدل هنا مفهوم متعدٍّ، أي أنه ملزم للنفس وللغير، فيما الإحسان مفهوم لازم، يلزم به الإنسان نفسه دون غيره.[18] فالحاكم عند المغيلي يجب أن يحسن إلى نفسه، وأن يعدل مع غيره ونفسه.
ويذهب المغيلي إلى أنّه على الحاكم حين يفصل في خلاف بين خصمين أن يسوي بينهما في الدخول والجلوس وحتى النظر إليهما والكلام معهما، وغير ذلك من الأمور المتصلة بهذين الخصمين، مع التأكيد على ضرورة عدم إظهار الحاكم الميل لأحدهما أو غيرهما. ويكون ذلك من خلال ترك التباسط والتعجرف في أبسط الأمور مثل السلام، فلا يردّ السلام إلا على من سلم عليه وبما سلم ليس أكثر ولا أقل، حتى يتبين له أن الشخص غير ذي صلة أو صفة في الخلاف محل الفصل. وقد تطرق المغيلي إلى أدقّ تفاصيل العملية القضائية، فإلى جانب الأبعاد الإجرائية الذي سبق تناولها في كيفية التعامل مع المتخاصمين، فإنه تناول قضية الأدلة وتحديداً الشهود. ما يقبَل منهم وما لا يقبَل منهم. فعلى سبيل المثال، لا يقبل من الشهود التنكيل أو اتهام المشهود عليهم. ومراعاة السيرة الحسنة للشهود، لتجنب شهود الزور.[19]
ولم ينته المغيلي عند هذا الحدّ، بل أصرّ على أن الحاكم، رغم سلطانه، يصدر حكمه على أساس مرجعية فقهية، تتمثل في إمامه الذي يتبعه هذا الحاكم، وإلا كان حكمه جورا وطغيانا. وهذه مساهمة قدمها المغيلي، ولها أهميتها من المنظور المعاصر، ممّا يستوجب معه التنويه بهذا المفكّر، ذلك لأن كل الأنظمة القانونية والقضائية المعاصرة تصر على وجود مرجعية قانونية للحكم القضائي، وهذا ما يسمّى بالركن الشرعي أو القانوني في القانون الجنائي، “فلا حكم إلا بقانون” و” القاضي يطبق القانون ولا يصنعه”. بل أكثر من ذلك، أتى بمفهوم النقض، إذا ما تم الحكم على غير مرجعية فقهية. ولم يتوقف المغيلي في طرح فكرة العدل كجزء من القضاء عند هذا الحد. بل أيضاً ضمن أساليب التحري، وبالأحرى التحقيق. فعلى سبيل المثال، ميز بين ثلاثة أنواع من المتهمين: من عُلِم عنه النزاهة والصدق، ومن عُرِف عنه الفساد وارتكاب الجرائم، ومن لا يُعرَف عنه لا هذا ولا ذاك.[20]
فالنوع الأول، لا يُعاقَب، بل يُعاقَب من ادّعى عليه، إكراما له. والنوع الثاني، فهو مستحق للعقاب، فيُحبَس ويُهدَّد ويُجلَد ولكن مع مراعاة نوع الجريمة وجسامتها. كما يمكن أن يُغرَّم في بعض الدعاوى مثل دعاوى اليمين الكاذب وغيرها. أما النوع الثالث وهو الذي لا يذاع عنه خير أو شرّ، فيتم التقصي والتمحيص في حالته، فإذا تبين أنه من أهل الخير، حكم له بالبراءة وإن كان من أهل الشر، عوقب. أما إذا لم ينتج عن التحري عنه شيء، فيطلق سراحه لكن بعد سياسة وتهديد وكشف ووعيد بحسب كل حالة. بيد أن كل ما سبق يقتصر وينحصر في نوع معين من الجرائم كالسرقة واليمين الكاذب. لكن في حال النظر في دعوى جرائم أخرى مثل القتل، فإن العقاب يختلف وإجراءات التحري والتحقيق تختلف. فبادئ ذي بدء، لابد أن يُحبَس ويُكبَل بالحديد ويهدد، فإن ظهر أمر مستجَدّ، كاعترافه مثلاً أو ظهور الفاعل الحقيقي، اتُّخِذ الإجراء المناسب، أو يتم الأخذ بالأدلة المتاحة، فينظر في قربه أو بعده عن الجرم المنسوب إليه، فإن ظهر قربه، طُوِّل عقابه وإن بعد عنه، عُجِّل بإطلاق سراحه.. ويعود مرة أخرى ليؤكد على أن كل واحد له حكم بحسب حاله.[21]
وتأكيدا على أهمية بناء شرعية الحاكم، يطالب المغيلي الأمير ليس فقط بالتواصل مع المستضعفين من الناس، مثل النساء والأطفال الأيتام وسماع شكواهم، ولكن أيضاً فإن الحاكم يمكن أن يعزل القضاة والعاملين (المسؤولين) في الدولة، ليس بسبب مفاسد ارتكبوها وإنما تأليفاً لقلوب الرعية وكسباً لودهم.[22]
ونكتفي بهذا القدر في تقديم الأفكار السياسية لدى المغيلي التلمساني المتعلقة بالسلطة السياسية، من حيث شرعية الحاكم ومقوّماته للحكم، ونقارنها ببعض الأفكار السياسية العربية والغربية التي تناولت مفهوم الشرعية، نظراً لأهمية هذه النقطة في العلوم السياسية والفكر السياسي.
المطلب الخامس: مقارنة تصوّر المغيلي التلمساني للشرعية مع مفكّرين آخرين:
نشرع هذه المقارنة بأحد أهمّ فلاسفة الغرب، وهو ماكس فيبر، حيث يرى أنه: »… بدون الشرعية، فإن أيّ حكم أو نظام، يصعب عليه أن يملك القدرة الضرورية على إدارة الصراع بالدرجة اللازمة لأي حكم مستقر لفترة طويلة».[23]
ويذهب في نفس الاتّجاه أحمد بهاء الدين وهو أحد المفكّرين العرب المعاصرين، حيث يؤكد على أنّ شرعية الحاكم وأحقية السلطة في الحكم تكمن في اقتناع الناس بها ورضاهم عنها، ويذكر الكاتب في هذا الصّدد أنّ: »… الحاكم في محاولته امتلاكه عنان الأمور، والقدرة على مواجهة المشاكل والتحديات، تختلف قدرته وكفاءته اختلافا كبيرا. بين حالة يكون فيها الناس معه، وحالة يكون فيها الناس ضده. أو ليسوا معه. سواء كانوا ضده بالاعتراض والرفض والمقاومة. أو بالسلبية، والإهمال وعدم التفاعل معه. فأيّ حاكم قد يتمكن من تحقيق استمرار وضع ما عن طريق القوة، أو العادة. ولكن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تظل قلقة، مصدر ضعف للسلطة وللوطن معاً، إلى أن يقتنع المحكوم بجدارة الحاكم، وأحقيته في أن يحكم ويدير له أموره عنه، فاقتناع الشعب بأحقية السلطة وجدارتها، هذا هو جوهر الشرعية ومغزاها. لا تغني عنه كل أشكال السطوة والرهبة والنفوذ. حتى ولو أحاطت نفسها بعشرات الدساتير والقوانين».[24]
ويؤكّد دافيد ايترن المعنى ذاته، حيث يذكر أنّ: »… قد يقبل المواطن بسلطة الحكم عليه لألف سبب وسبب، ولكن الشرعية هي أن يجد المحكوم أن من المقبول عنده، والمناسب له، أن يطيع متطلبات النظام السياسي القائم، إذ يجد أنها تتسق مع قيمه ومبادئه وأخلاقياته وأمانيه. ذلك ليس لمنفعة شخصية مباشرة له، و لكن بمعنى المنفعة العامة وعلى المدى الطويل».[25]
ويرى أحمد بهاء الدين أنه وفقا للمعنى الذي أعطاه دافيد ايترن للشرعية، فهي أوسع من التأييد أو المعارضة. فقد يكون هناك من يعارض السلطة، وقد يتذمر الناس من بعض قراراتها وسياساتها. ولكن هذه أمور طبيعية بل وحتمية. لا تنفي الشرعية، طالما شعر المواطنون أن السلطة في توجهها العام، سلطة وطنية، منطقية مع التاريخ الوطني، ومخلصة في المجموع لإرادة الشعب، وللقيم العامة التي تربط أبناء الوطن الواحد بعضهم ببعض.[26]
ويمكن الاستنتاج أن قبول الشعب أو المحكومين بالسلطة، قد لا يعني بالضرورة أن هذه الأخيرة تتوفر على الشرعية، فربما يكون قبولا مرده إلى شروط معينة متحققة كتوفير الأمن والاستقرار الاجتماعي والسلم المجتمعي، أو الرفاه الاقتصادي مثلا، وهكذا حالما تنتفي تلك الشروط، وحالما يظهر ويتغوّل الفساد بمختلف تمظهراته والقمع والفقر وانسداد الأفق السياسي…الخ، فقد ينقلب رضا المحكوم “المؤقّت” إلى سخط قد يصل ذروته إلى انتفاضات أو ثورات كما حدث فيما يسمى ب “الربيع العربي”.
وعلى الرغم من هذا، فإن هذه “الثورات” في العالم العربي، فشلت جميعها – في تقديري- فشلا ذريعا تقريبا في تغيير المجتمعات التي حدثت فيها، ولم تفلح في إحلال السلم والاستقرار، عبر الإتيان بشرعيات جديدة، بل أتت بانقلابات عسكرية وانقسامات مجتمعية خطيرة وعدم استقرار (حالتا مصر والسودان)، وعرفت عودة النظام القديم من النافذة بعد خروجه من الباب (حالة مصر)، أو جلبت توافقات مشوهة سرعان ما انقسم شركائها وتحاربوا (حالتا اليمن و ليبيا)، أو أدخلت البلاد في أتون حروب طاحنة مزقت البلاد والمجتمع ( حالة سوريا) أو أدخلت البلاد في حالة الحكم الفردي غير الدستوري من جديد (حالة تونس).
وأؤيد في هذا الصدد ما ذهب إليه أحمد بهاء الدين الذي ذهب إلى أن الثورة إن كانت ثورة حقا. فإن هدفها النهائي يفترض أن يكون إقامة شرعية جديدة. بل إن ما يفرق بين الثورة والانقلاب هو هذا المعيار الهام. فالثورة والانقلاب حسب الكاتب: »… كلاهما يغتصب السلطة، ولكن الثورة تغير المجتمع وتقيم شرعية جديدة يعيش بها مرحلة استقرار جديدة، أما الانقلاب فهو يغتصب السلطة فحسب. وإذا بقي فيبقى باغتصاب السلطة المستمر، وليس بمنطق شرعي جديد مستقر. فقد يحيط مغتصب السلطة نفسه بكل أشكال الشرعية. فأي حكم قد يتمكن عن طريق القوة من إقامة برلمان مثلا وإجراء انتخابات، وإصدار قوانين وتشريعات. ولكنها تبقى كلها ستائر تخفي عدم الشرعية ولا تحل محل الشرعية. فالقانون ليس أي ورقة عليها توقيع الحاكم. إن القوانين أحكام خارجة من ضمير الناس معبرة عنهم في الأساس. وما عدا ذلك فهي قوانين لا تساوي في ميزان الشرعية أكثر من ثمن الحبر الذي كتبت به. وترى الناس في مثل هذا الوضع تتلقى هذه القوانين بالإذعان. وقد تنفذها عن خوف. أو قد لا تقاومها عن سلبية وعدم اقتناع. ولكنها ليست بالنسبة لهم مشروعة. وليست لها في ضمائرهم أية مرتكزات».[27]
ويخلص أحمد بهاء الدين في هذا الصدد إلى أن الشرعية إذن: »… ليست هي القانونية الشكلية، وليست مجرد القدرة على البقاء في السلطة. كما أنها تختلف عن التأييد والمعارضة لقرارات السلطة، وليست الوصف السياسي لنظام الحكم: ملكيا أو جمهوريا، موروثا أو جديدا، فالملكية والجمهورية وغيرهما من نظم الحكم، لا ترتبط بالضرورة بالشرعية. إنّ الشرعية هي معيار مستمدّ من نظرة الرعية إلى السلطة وليست مستمدة من طريقة وجود السلطة أو الأسلوب الذي سلكته للوصول إلى الحكم. إنما هذه أشكال للسلطة وليست هي التي تحدد ما إذا كان موقع السلطة من الناس هو موقع القوة أو موقع النفوذ. والسلطة في كل زمان ومكان، تحتاج إلى القوة لضبط حياة المجتمع. ولكنها لا تكون شرعية إذا كانت تعتمد على القوة فقط. إنما تكون شرعية إذا كان لها لدى الناس قوة النفوذ وليس نفوذ القوة. فمن غير هذه الرابطة المعنوية بين السلطة والرعية، لا تكون هناك شرعية».[28]
ونستخلص ممّا تقدم أن الشرعية هي رابطة معنوية تربط الرعية بالحاكم أو السلطة، بحيث تختارها، وتنظر إليها نظرة القبول والرضا عن اقتناع وليس باستعمال القوة. ومتى انتفت تلك الرابطة المعنوية انتفت الشرعية بالنسبة للحاكم.
وننتقل إلى مفكّر غربي آخر هو تزفيتان تودوروف، حيث نجده يتحدث عن الشرعية السياسية مُستفسِراً عن مكمنها وكنهها، فقد ذكر متسائلا: »… ما الذي يجعل سلطة سياسية ما مشروعة؟ لقد ناقش المفكرون، في الماضي، هذا الموضوع طويلا، وفكروا في المبادئ التي يقوم عليها الحق السياسي. لا يعني هذا الحق مجرد امتلاك السلطة، فهذه غالبا ما يتم الاستيلاء عليها، أصلا، عن طريق العنف، لقد سبقت حرب الاستقلال قيام الديمقراطية الأمريكية، كما سبقت ثورة 1789 الديمقراطية الفرنسية. وحتى عندما تكون السلطة تعبيرا شرعيا عن الإرادة الشعبية، فإنها تضل الطريق، فليس رأي الأغلبية بالرأي المستنير بالضرورة، فهو قد يذهب في اتجاه يتناقض مع روح العدالة. كما أن الشرعية السياسية لا تتأتى من الغايات الأكثر نبلا التي نحددها لأنفسنا، فهناك دوما استخدام القوي هذه الغايات لإخفاء أطماعه الحقيقية. أين تكمن الشرعية إذن؟».[29]
يحاول تودوروف أن يجد إجابة لسؤاله الاستشكالي من خلال العودة إلى مونتسكيو، أحد فلاسفة القرن الثامن عشر، حيث يقتبس منه عبارته الموجزة: » كل سلطة لا حدود لها، لا يمكن أن تكون شرعية». ويعلّق تودوروف على هذه العبارة قائلاً: »… ليس أصل السلطة ولا غايتها من يمنحها الشرعية، لكنها الكيفية التي تمارس بها، أي بفرض حدود عليها، وذلك بتقاسمها مع الآخرين. هنا يوجد تصوّران، يندرج أحدهما في باب الوحدة، والآخر في باب التعددية. يعتقد الأول أنه يمتلك الخير، و يرى، نتيجة لذلك، أن لديه الحق في فرضه على الجميع. أما الثاني فيرى هو الآخر أنه الأفضل، لكنه لا يركن إلى ذلك، و يرى أن تقاسم السلطات و الفصل بينها خير من اجتماعها و وحدتها، فأطراف عدة خير من طرف واحد، حتى لو كان هذا الطرف هو أفضلها».[30]
بعد أن حاولنا عرض أهم أفكار المغيلي السياسية بخصوص السلطة ومقوّمات الحاكم المتعلّقة خصوصاً بمسألة الشرعية، وحاولنا مقارنتها بمفكّرين آخرين عرب وغربيين من أزمنة مختلفة، ننتقل لنقوم بنفس العملية لدى ميكيافيلي.
المبحث الثاني: مفهوم السلطة ومقومات الحاكم لدى ميكيافيلي.
المطلب الأول: مبدأ الغاية تبرر الوسيلة وسؤال الحسّ الأخلاقي في السياسة:
قبل الشروع في تفكيك بعض المفاهيم السياسية التي قام على أساسها الفكر الميكيافيلي، أرى أن أقدّم ترجمة مختصرة لميكيافيلي، الذي يعتبر المفكر والسياسي والفيلسوف الأكثر نفوذاً في عصر النهضة، بعد نشر كتابه الأمير سنة 1532م الذي أصبح فيما بعد الدستور والوثيقة الأساسية للمدرسة السياسية الواقعية. إذن هو كاتب إيطالي، ورجل دولة، يعتبره الكثيرون أبا علم السياسة الحديث، وهو أحد المفكرين السياسيين في عصر النهضة التي اشتهرت بأنّها فترة النشاط السياسي والفكري بين القرنين 14 و17 الميلاديين. ولد ميكيافيلي في فرنسا سنة 1469م في جمهورية فلورنسيا المستقلّة، قبل أن يصبح أوّل مُنَظِّر سياسي حديث، كما عمل ميكيافيلي كدبلوماسي في خدمة حكومة فلورنتين في عام 1498م، وكان سنّه 29 فقط.[31]
إنّ مفهوم ميكيافليي عن السلطة كان -كما أسلفنا في المقدّمة- انعكاساً لطموحه الشخصي السياسي الدبلوماسي، وهو ما ظهر في كتابه “الأمير” بشكل بدا واضحاً. كما كان هذا الطموح الشخصي هو السبب في الذرائعية الشديدة التي اتسمت بها أفكار ميكيافليي التي أوردها في كتابه، مع تركيز واضح على مسألة الفتوحات التي ربما رأى فيها ميكيافليي ما يغري أمير فلورنس الاستماع لنصائحه. ومن ثم، ضمّه كعضو جديد إلى حاشيته. وقد رأى ميكيافليي في السلطة مسؤولية كما سنرى.
وارتباطاً بذات السياق، تبيّن ابتسام علي حسين أنّ المفكّر المقرّب من الحاكم – على شاكلة ميكيافيلي- لعب دوراً بارزاً في الحياة السياسية، فكان إمّا صالحاً يدفع الأمير لخدمة البلد والناس، أو سيئاً يؤثر في الأمير بشكل يجعله مؤذيا للناس، وأنّ بعض الحكّام حقّقوا منجزات جيدة لكن باقتناع ضعيف، حيث تصف الكاتبة هذه الإشكالية أو المفارقة كما يلي: »… المشكلة تنبع من كون التاريخ يُظهر أنّ هؤلاء الذين فعلوا الكثير من الأشياء العظيمة، كان لديهم القليل من الإيمان أو المعتقد، وأن هناك طريقتين للمنافسة: الأولى هي بالقانون والأخرى بالقوة، فالأسلوب الأول مناسب للإنسان، ولكن الثاني مناسب للوحوش. ولكن لأن الأول عادة لا يكفي، فإن اللجوء إلى الثاني محتمل جداً. وعليه، فإن الأمير عليه تحقيق التوازن بين الإنسان والوحش. وبما أن الشر هو جزء من التركيب الإنساني، فإن استخدامه من قبل الآخرين ضد الأمير يبرر لجوء الأمير له أيضاً. ولكن على الأمير أن يخفي صفات الشر والوحوش التي يملكها ويظهر عكسها أمام الناس. وهنا، يتبادر إلى الأذهان واقع العديد من دول الغرب اليوم التي تسيطر عليها النزعة الشكلية في الدفاع عن القيم والمبادئ العليا فيما تمارس السياسة وفقاً لقواعد الواقعية الكلاسيكية معلية المصالح على ما عداها من قيم وأخلاقيات أخرى».[32]
ويستمرّ ميكافيلي في التأسيس لمبدأ الغاية تبرّر الوسيلة لحكم الناس، ولو ضرب بعرض الحائط كلّ معيار أخلاقي، حيث يرى أنه إذا قضت الحاجة فإن الحاكم أحيانا يجب أن يساند دينا بعينه وإن كان يعتقد بفساده، لأن الدين من وجهة نظر ميكافيلي ضروري للحكومة، لا لخدمة الفضيلة، ولكن لتمكين الحكومة من السيطرة على الناس. فالحاكم لكي يعمل على اكتساب الشهرة يجب أن يقوم بمشاريع عظيمة تحت ستار الدفاع عن الدين. وبرهن على صحة قوله بما فعله ملك أراجون فرديناندو الذي اتخذ من الدين شعارا لكافة أعماله، واستطاع عن طريق الاضطهاد الديني للمسلمين، وطردهم من الأندلس، وسلب أموالهم، أن يحصل على تأييد الكنيسة، ومن ثم الشعب. وبالتالي فالحاكم يجب أن يظهر بمظهر المتدين الفضيل -وإن كان عكس ذلك- لأن الناس بنظر ميكافيلي: » يحكمون بعيونهم، فالكل يرى، لكن الكل لا يشعر».[33]
ومما يعاب على ميكافيلي أنه أسّس لممارسات سياسية تفتقر إلى الحِسّ الأخلاقي، ونستدلّ على ذلك مثلاً بقوله: »… لا ينفع المرء أن يكون شريفا دائما، وعلى الأمير ألّا يكون شريفاً على طول الخط، لأنّ من شأن ذلك أن يجرّ عليه الكثير من الكراهية، فالكراهية التي تنجم عن الأفعال الشريرة، قد تنجم أيضا نتيجة للأفعال الطيبة. أي أن الحاكم يجب أن يهادن الفساد أحيانا ولا يقترب منه، إذا كان بإمكان هذا الفساد أن يزلزل أسس حكمه، وتأليب شعبه ومقرّبيه عليه».[34]
المطلب الثاني: بعض مقوّمات “الأمير” لدى ميكيافيلي:
نستدلّ في هذا الصدد بمحمود خاطر الذي له كتابات عديدة عن فكر ميكيافيلي، حيث يذهب إلى أنّ: »… ميكافيلي تحدث عن الصفات التي تمكن الحاكم من تثبيت أقدام عرشه. ولهذا نجد ميكافيلي ينصح الحاكم بأن يتجنب الكراهية والاحتقار، لأنه إذا فعل ذلك فسيمهد الطريق لنفسه ليقوم بالرذائل الأخرى. كما أن الحاكم إذا استطاع الحصول على حب الناس فإنه بذلك يكون قد أمن نفسه من المؤامرات، لأن المتآمر يفكر كثيرا في القيام بمؤامرة على حاكم محبوب. لكن إذا ما خير الحاكم بين أن يحبه الناس أو أن يخافوه، فالحاكم وبلا شك يجب أن يكون مهابا من الناس بدلا من أن يكون محبوبا، فالناس لا يترددون في الإساءة إلى من يجعل نفسه محبوبا بقدر ترددهم في الإساءة إلى من يخافونه».[35]
واستكمالا للمبدأ السابق (افتقاد الحسّ الأخلاقي)، فقد نصح ميكافيلي الحاكم بألا يحافظ على عهوده دائما، حيث ذكر محمود خاطر في هذا الصدد أنّ »… ميكيافيلي يرى أنّ الحاكم يجب أن يكون كالثعلب، ويتعلم كيف يتنصل لعهوده دون أن يشعر الشعب بأنه مخادع عن طريق إيجاد الحجج اللازمة لتنصله من العهود. ويفتي ميكافيلي بأن الحاكم الذي يستطيع القيام بأعمال جليلة وعظيمة هو الحاكم الذي يستطيع التنكر لعهوده ومواثيقه، فمن يتقن فن الخداع يجد دائما من هم على استعاد لأن تنطلي عليهم خديعته. ويؤكد رؤيته تلك بما فعله البابا ألكسندر السادس الذي لم يوجد مثله مهارة في تقديم الوعود، وإغداق التأكيدات، وفي الوقت نفسه لم يكن يلتزم بأي من وعوده، ومع ذلك حقق نجاحات كبيرة ووجد دائما من تنطلي عليهم خدعته».[36]
كما يعرض ميكيافليي لمسألة مظهر السلطة حيث يدعو الأمير إلى السعي من أجل التحلي بكل ما هو جيد ومحمود. ولكن عليه أن يفند قدراته الحميدة، بوصفه إنسانا يعيش في مجتمع إنساني، فإن عليه أن يتأكد من عدم تحليه بأي من السمات التي تفقده دولته. وربما يحاول الاستزادة من السمات الحميدة، بيد أن الأولى للأمير هو الحفاظ على ملكه. ومن ثم، فإن بعض السمات غير الحميدة قد تكون ذات فائدة في الإبقاء على الحكم. وعليه، يتم الإبقاء على تلك السمات الذميمة. فالأفضل أن يوصف كل أمير بأنه طيب وليس قاسيا. ولكن عليه ألا يسئ استخدام تلك الطيبة، لأن الطيبة يمكن أن تؤدي إلى زوال الملك بينما القوة تحافظ عليها. وعادةً، يكون من الصعب على الأمير الجديد أن يتجنب وصفه بالقسوة، لأن الدول الجديدة تكون مليئة بالمخاطر. وعلى الأمير أن يتسم بالتمهل في الفعل والاعتقاد ولا يظهر الخوف، بل يتقدم بصورة هادئة تتسم بالإنسانية حيث لا تؤدي به الثقة المبالغة في الآخرين إلى سوء التصرف من ناحية ولا المبالغة في عدم الثقة التي تجعله غير محتمل. فعلى الأمير أن يجمع بين حب الناس له وخوفهم منه، فإن كان ولابد من الاختيار، فالأصلح، كما يرى ميكيافليي، أن يخاف الناس من الأمير، دون أن يوقع نفسه في دائرة الكره.[37]
وقد يبرّر البعض الواقعية والذرائعية الميكيافيلية بكون السياسة لا تعترف بالأخلاق مثلما ذهب إلى ذلك مثلا محمد عبده الذي قال في جيد المعالي: »أعوذ بالله من السياسة، ومن لفظ السياسة، ومن معنى السياسة، ومن سَاسَ ويَسُوسُ، وسَائِسٍ مَسُوسٍ»، وكمقولات أخرى من قبيل: » السياسة بحر من النجاسة»، و» السياسة في فنّ السفالة الأنيق»، مع كامل تحفّظنا على هذا التبرير، فالأساس الأخلاقي –في تقديري- يبقى مهمّاً في كلّ الأحوال.
إنّ رأي محمد عبده قد لا يكون في بعض جوانبه منصفا، فالسياسة رغم كلّ سلبياتها مارسها الرسول صلى الله عليه وسلّم، وبها أسّس وحكم الدولة الإسلامية مع الدين طبعاً، ووفقهما أبرم عليه الصلاة والسلام المعاهدات والصلح، ومن خلالهما أصدر الوثيقة المعروفة ب”دستور المدينة”، وصار على نهجه الخلفاء الراشدون رضي اللهم عنهم، وبعض الحكّام ممّن تبعوهم، فجمعوا بين واقع السياسة والأساس الأخلاقي المستمدّ من الدين الإسلامي، لكن كما هو متعارف عليه فالاستثناء لا يخلق قاعدة، فالرسول عليه السلام وخلفائه الراشدون (يمكن استثناء مرحلة الفتنة الكبرى)، وبعض من حكم بعدهم بالعدل وبالشورى، لكن مع ذلك فقد جاء بعدهم العديد من الحكّام المسلمون عبر مختلف الحقب التاريخية إلى يومنا هذا، ممّن جعلوا من قواعد الحكم في الإسلام مجرّد نوع من الفلكلور أو وسيلة ليبرر بها غايته في الحكم كما قال ميكيافيلي، لذلك يبقى التعميم غير وارد من هذه الناحية، إنما نسوق الأطروحة والأطروحة المضادّة، لتكتمل الصورة لدى قارئ هذا المقال، ويشكّل قناعته في هذه المقارنة بين النظريتين المغيلية والميكيافيلية.
المطلب الثالث: مفهوم الشرعية لدى ميكيافيلي:
إجمالاً، يمكن القول أن رؤية ميكيافيلي للشرعية، تتّسم بقدر عال من الذرائعية، التي تتحول فيها الشرعية إلى أداة قهرية من أجل السيطرة على الأقاليم واحتلالها وقهر سكّانها، ليس أكثر ولا أقل. فعلى سبيل المثال، لا الحصر، يقول ميكيافيلي: »… عندما ينتمي أهل الإقليم الجديد إلى نفس بلد الأمير ولغته، يكون من الأسهل عليه السيطرة عليهم، خاصة إذا لم يكونوا قد اعتادوا على الحكم الذاتي. ويكفي للسيطرة عليهم القضاء على عائلة الأمير الذي كان يحكمهم. ويمكن ضرب الأمثلة ب”نورماندي” و”بورغوندي” و”جاسكوني” التي تبعت فرنسا لفترة زمنية طويلة. أما إذا كانوا مختلفين في اللغة والبلد، فهناك دائماً حاجة إلى بذل الجهد والثروة من أجل السيطرة عليهم للتغلب على الصعاب. وأول التحديات هي ضرورة أن يذهب الأمير الجديد ويقيم هناك. وذلك لتأمين حكمه واستمراره. كما كان الحال مع الأتراك في اليونان الذين لولا تلك الإقامة، ما تمكنوا من الحفاظ على سيطرتهم هناك، لأن الأمير المقيم في الأقاليم المسيطر عليها جديداً يتمكن من الإحساس بالاضطرابات أول ما تبزغ ويستطيع بسهولة التعامل معها. ومن ضمن النصائح في هذا المقام، عدم إيفاد العديد من موظفي الأمير الجديد إلى الإقليم حيث شعور الرعايا بالقرب من الأمير وعدم الخوف منه. أما إذا ما فكر الأمير الجديد في الهجوم على الإقليم من الخارج، فإن عليه توخي شديد الحذر، لأن الحاكم القديم مقيم في الداخل. أما الحل الآخر والأفضل فهو إرسال مستعمرات إلى مكان أو أكثر قد تكون أساسية لدخول تلك الأقاليم. فإما ذلك أو الإبقاء على عدد كبير من الخيل والجنود هناك. ولكن على الأمير ألا ينفق الكثير من الأموال على تلك المستعمرات، لأنه يمكن أن يرسلها ويبقيها هناك بتكلفة قليلة أو لا تكلفة على الإطلاق…. لأن الأمير لا يحتاج إلى إيذاء عدد كبير من الناس، فقط هؤلاء الذين يأخذ أرضهم وبيوتهم لإعطائها للسكان الجدد. ويبقى هؤلاء المسلوبون من أملاكهم فقراء ومتناثرين غير قادرين على إيذاء الأمير. أما باقي السكان، فإنهم لا يكرهون الأمير لأنهم لم يتعرضوا للأذى من ناحية، كما أنهم يخافون أن يلقوا مصير أقرانهم من المنهوبين من ناحية أخرى».[38]
وبالتالي، فإن ميكيافليي يفضل السيطرة على مثل تلك الأقاليم لأنها لا تكلف الكثير، وأن من يضارون لا يستطيعون إلحاق الضرر بالأمير. كما يبرّر ميكيافيلي لسفك دماء أهل الأمصار المغلوبة، فنجده يذكر: »… أمّا الرجال إما أن يحسن إليهم أو يسحقهم لأن إلحاق ضرر طفيف بهم يمكنهم من الانتقام من الأمير فيما بعد. أيضاً، عند حديثه عن إقامة الحكم في الأقاليم التي اعتادت العيش في ظل قانونها الخاص، ميز ميكيافليي بين ثلاث طرق للتعامل معها. الأول هو إفسادها، الثاني هو الإقامة فيها بشكل شخصي، والثالث هو السماح لهم بالعيش في ظل قوانينهم الخاصة مع سحب نخبة من كبار السن تحافظ على الود والألفة بين الأمير وذلك الإقليم أو تلك المدينة. لأن تلك النخبة من كبار السن تعرف أنها أتت بدعم من الأمير وأنها لن تتمكن من الاستمرار إلا بهذا الدعم».[39]
وفي إطار الحرص على بناء الشرعية أيضاً، يدعو ميكيافليي الأمير لتجنب عدد من الأعمال التي تنتج عنها كراهية الرعايا له، منها انتهاك أموالهم ونسائهم. وعليه أن يظهر في سلوكه الشجاعة والعظمة والقوة. وفي علاقته الخاصة برعاياه، يظهر أن حكمه لا يمكن الالتفاف حوله أو رده. وهناك مصدران للتهديد: مصدر من الداخل، ومصدر من القوى الخارجية. ولكن عليه أن يكون مستعداً ومسلحاً، لكي يتجنب تهديد القوى الخارجية. لكن عليه أن يخاف ويخشى مواطنيه، إذا ما تأكد أنهم وقت ظهور اضطرابات خارجية، قد يتآمرون ضده. ويؤمنه من ذلك ألا يكون مكروها أو محتقرا.[40]
المطلب الرابع: صحبة الأمير لدى ميكيافيلي:
تعرض ميكيافيلي لمسألة صحبة الأمير كما فعل المغيلي التلمساني، مثلما عرضنا سابقاً. وتتطرّق ابتسام علي حسين إلى هذه المسألة، حيث تذكر أنّ: »… مكيافيلي يقول إن اختيار الخدم ليس بالأمر الهين أو البسيط. فأول ما يتم أخذه في الاعتبار عند تقييم الأمير من قبل الآخرين هو من حوله ومن يختارهم لخدمته… ويقرب الأمْهَر، فالأقل مهارة، فالأقل فالأقل وهكذا دواليك. ويقوِّم المخطئ ويمدح المصيب منهم. أما الاختبار الوحيد الذي يوضح ما إذا كان الخادم كفؤا أم لا، فهو تركيزه على أموره الشخصية وحاجاته هو وليست تلك الخاصة بالمملكة وبالأمير. وللحفاظ على الخدم الجيد، لابد أن يظهر الأمير لهم عطفه عليهم ومشاركتهم إياه ومديحه لهم. ولكن في الوقت نفسه، عليه أن يشعرهم بأنهم غير قادرين على الاستمرار من دونه وأن حياتهم تستحيل إن غاب عنهم. وتتكرر هذه الفكرة لدى أكثر من مفكر ومنظر غربي، ألا وهي التغلغل المعنوي لمفهوم الدولة في الوعي الفردي والجماعي إلى الحد الذي يصبح الاجتماع السياسي بدونها أمراً غير ممكن تصوره. ويتسق ما يقدمه ميكيافليي مع إسهامات العديد من مفكري الغرب أمثال توماس هوبس، وبيير بورديو».[41]
وتضيف ابتسام علي حسين أنّ ميكيافليي قد اهتم بمسألة حرية الرأي لكنه حصره في نطاق ضيّق يوجد في محيط الملك بمعنى الأشخاص الحكماء المحيطين به، من باب النصيحة والرأي. حيث تذكر الكاتبة أنّ: »… ميكيافيلي يرى أنّ الأمير الحكيم هو الذي يختار الحكماء من الرجال ويعطيهم حرية الكلمة. دون تعميم الحق في حرية الكلمة. بعبارة أخرى، تُقصَر حرية الرأي على من يرجح عقله ويُوثَق في رأيه. ومن هنا، يكون مفهوم ميكيافليي عن الحرية غير مرتبط بالديمقراطية أو الديمقراطية الليبرالية على وجه الخصوص. فحرية الرأي ليست حقاً للجميع، و إنما للحكماء المقربين إلى الأمير فقط. و هنا تتبادر إلى الأذهان فكرة القلّة الحكيـــــــــمة « the few wise » التي دافعت عنها الليبرالية في مرحلتها أو مذهبها الكلاسيكي، حيث يحكم هؤلاء بسبب حكمتهم وتفوقهم المهاري والمعرفي مقارنة بالعامة من الناس. كما يستدعي هذا الفهم فكرة أخرى مهمة تعاني منها اليوم العديد من دول العالم النامي، هي إسكات المعارضة والمعارضين. فإن ميكيافليي دعا إلى حرية الرأي ليس بوصفها قيمة عليا تُعمَم، وإنما لقلة من الحكماء اللذين يقربهم الأمير. ومن هنا، تقع أي آراء تحمل النقد للأمير في إطار ضيق وتأخذ شكل النصح أكثر منه الهجاء، وهو ما يحول دون إشعال فتيل المعارضة التي ربما تأخذ منحى العنف، إذا ما زادت وطأة قمع واستبداد الأمير. فيتحول العامة إلى قوالب أو كيانات صامتة محرومة من النقد والمعارضة للأمير، وهو ما يهيئ لهذا الأخير حرية أكبر في التصرف دون محاسبة شعبية تُذكَر. فالاستقرار أهم عند ميكافيلي من ليبرالية الحكم، شأنه شأن أيّ مستبدّ لا يعنيه إلا الظاهر من أمر محكوميه».[42]
ونتفّق مع ما ذهبت إليه ابتسام علي حسين، فميكيافيلي مثال حيّ لكون الغاية تبرر الوسيلة ولو بأبشع الوسائل، وبعد أن حاولنا عرض رؤية ميكيافيلي للسلطة والشرعية ومقوّمات الحاكم، ننتقل لنحاول أن نختم بعقد مقارنة بين نظرية كلّ من المغيلي وميكيافيلي في السلطة والشرعية ومقوّمات الحاكم.
الخاتمة:
إنّ المقارنة التي حاولنا أن نعقدها بين مفهوم السلطة ومقوّمات الحاكم في الفكر السياسي لدى كلّ من المغيلي من جهة وميكيافيلي من جهة ثانية، لم تكن سهلة المنال من الناحية الابستيمولوجية، فميكيافيلي معروف بكونه رائد مدرسة تحليلية ونظرية سياسية “واقعية” “براغماتية – نفعية” قائمة على فكرة “الغاية تبرّر الوسيلة”، ولو تطلّب الوصول لتلك الغاية وهي حكم الناس، أن ينهج الأمير أساليب خسيسة وماكرة كالثعلب، وأساليب القوة والعنف لفرض الهيمنة كالأسد… الخ كما عرضنا، وهي صفات استقاها من واقع المجتمع من جهة، ومن دعوته لفصل الدين عن الدولة من جهة، ممّا أفقد نظريته للحسّ الأخلاقي، لكن بالمقابل فإنّ نظريته “الواقعية السياسية” أقرب ما تكون من ناحية بنائها النظري إلى علم الاجتماع السياسي وعلم النفس الاجتماعي، في حين أنّ المغيلي على العكس من ذلك قامت نظريته السياسية بالأساس على أنّ حكم الناس وسياسة الخلق تتطلّب في الأمير صفات حسنة وسلوكات قويمة، استقى مجملّها من وصايا ومبادئ التراث الإسلامي كالعدل والتشاور والورع وتقوى الله وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم ونجدة المنكوب… الخ، ممّا يجعل نظريته السياسية قريبة جدّا من نظرية الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية، وهي نظرية لا تحيد من حيث بنائها النظري والتصوري عن النظرية الإسلامية في الحكم أو السياسة الشرعية، التي تنبني على حسّ أخلاقي لا تخطئه العين.
وتأسيساً على ما سبق، تكون النتائج التي توصّلنا لها في ختام المقال كالتالي:
نظرية ميكيافيلي مفتقرة للحسّ الأخلاقي، لكنها من الناحية العملية أقرب للواقع المعاش لأنّها استندت على طبائع البشر (حكّام ومحكومين) كما هي في الحقيقة، لكن هذا لا ينفي في تقديري نوعاً من الواقعية أيضاً عن نظرية المغيلي التي وإن غلبت عليها المثالية الحالمة والطوباوية الرومانسية (ما ينبغي أن يكون)، لكنها لامست أشياءً من واقع الناس، على سبيل المثال لا الحصر يمكن أن نضرب مثلاً بمسألة كون مظهر الحاكم جزءًا من شرعيته لدى الناس.
النصوص الدينية المتعلقة بالسياسة الشرعية في الإسلام تضع قواعدَ لممارسة الحكم، وتضع شروطاً ينبغي التقيّد بها، ومحاذيرَ لا يجوز الوقوع فيها، ولكن مدى التزام الحاكم المسلم بهذه القواعد يطرح تساؤلات شتى، حسب الحيّز الزماني والفضاء المكاني، فليس كلّ الحكّام المسلمون يمارسون الشورى، وليس كلّهم يصلون إلى كرسي الحكم ببيعة تضمن لهم الشرعية ورضا الناس، وليس كلّهم يحيطون أنفسهم بالبِطانة الصالحة والمستشارين الأمناء، وليس كلّهم يعدلون في حكم رعاياهم… الخ، ممّا يطرح تساؤل تطبيق قواعد أخلاقية في واقع لا أخلاقي في الكثير من وقائعه.
تبقى نظرية المغيلي في الحكم شبه تجريدية، من ناحية كونها قائمة على شكل ونموذج معيّن مقنّن بنصوص وأحكام، لا تشابه في كثير من الحالات المشخصات والمرئيات في صورتها الطبيعية والواقعية، أي أنّ واقع الحال فيما يخصّ سياسة الحكّام المسلمين لمحكوميهم لا يطابق أحكام السياسة الشرعية الإسلامية في هذا الباب، والعيب قطعاً ليس في النصوص، ولا يمكن أن نقدح فيها أو نردّ لها الخلل والزلل، بل اللوم كلّه على من لا يطبّقونها، أو يطبقونها بشكل خاطئ قد يكون بسبب سوء تفسير النصوص وعدم الرغبة في قراءتها قراءة تتلاءم مع روح العصر ومتغيراته، أو قد يكون فهمهم للنصوص سليما، لكن يتحايلون في تطبيقها بما يخدم مصالحهم، ويلوون عنق النصوص ليّاً عبر فقهاء البلاط ووعّاظ السلاطين ليثبتوا للناس أنهم ولاة الأمر كما يحبّ الله ويرضى، لذلك نرى أنّ نظرية المغيلي قائمة على نوع أساس أخلاقي مثالي، لكنها أيضاً لا تخلو من مرتكزات واقعية.
الأرجح أنّ نظرية الواقعية السياسية لميكيافيلي تبقى الأكثر تجسيداً – في تقديري- لواقع وحقيقة ممارسة السياسة وتولي الحكم، لأنّه انطلق من قراءة اجتماعية ونفسية للحاكم والمحكوم معاً. مع ذلك نعيب على هذه النظرية أنّها -وإن كانت واقعية- لكنها على عكس نظرية المغيلي تفتقر إلى الأساس الأخلاقي، من حيث ركونها إلى بعض الأساليب الخسيسة والماكرة التي ينصح بها ميكيافيلي الأمير للحفاظ على حكمه،هذه أمور الأرجح أنها تتنافى مع مكارم الأخلاق.
يمكن القول أنّ النظريتين معاً مكمّلتان لبعضهما البعض، فحيث تفقد إحداهما التوازن والاتّساق، يمكن أن تقوم الأخرى بدور إعادة التوازن المفقود، فالأخلاق مطلوبة، لكن الواقعية أيضاً مطلوبة بشدّة، هكذا تكون نظرية المغيلي التلمساني أخلاقية بالأساس وفيها بعض مظاهر الواقعية، في حين أنّ نظرية ميكيافيلي واقعية وتفتقر للحسّ الأخلاقي في مجملها باستثناء مقاطع قليلة جدّاً حيث دعا ميكيافيلي الأمير ليكون محمود الصفات، لكن بما لا يُطمع الآخرين في طيبوبته ودماثة أخلاقه.
يتفق فكر المغيلي وميكيافيلي في كون الحاكم في سعيه لنيل شرعيته وتكريس حكمه، لا بدّ أن يكون قويا، مقنعاً، مُهاباً، لئلّا يطمع فيه الناس، لكن المهابة ليست العنف والبطش غير المبرّر، كما يتفقان كما أسلفت في كون فكرهما قائما على نوع من النصيحة السياسية التي يبذلها المفكر للحاكم لتحسين أدائه وتجويد سياساته وتقويمها، بما يعود عليه بالمنفعة كحاكم.
لا نقول أن نظرية أحدهما أفضل من الأخرى، فكلّ نظرية لها مميزاتها ومثالبها، وطبيعي أن تختلف النظريات السياسية، باختلاف المجتمعات والثقافات والأديان والإيديولوجيات والمذهبيات، فالسياسة تختلف حتى في تعريفها، فالمدرسة الواقعية تعرّفها بكونها فنّ الممكن أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعيا، وفق حسابات القوّة والمصلحة وتوزيع النفوذ ضمن مجتمع ما أو في نظام معيّن، في حين يعرّفها الشيوعيون بأنّها دراسة العلاقات بين الطبقات، ويمكن تعريفها من منظور إسلامي قياساً على تعريف الخليفة أي كما عرّفها المغيلي سياسة في ثوب رئاسة،[43] بمعنى رعاية شؤون الأمّة وتدبير شؤونها الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية وإدارة الدولة والإشراف على القضاء والجيوش والسياسة الخارجية والدفاع عن الوطن وحماية العقيدة وتحقيق الأمن الداخلي، بإشراف الحاكم الذي يرتضيه الناس، وبمساعدة الأمناء ممّن يسدون النصح ويبدون المشورة ويحاسبون الحاكم إن زاغ عن تأدية دوره وخرج أو انحرف عن مبادئ الأمّة المحدّدة في الدين الإسلامي، وذلك كلّه لتحقيق أمن ورفاهية الأمّة من خلال العدل والمساواة والحزم وغيرها من الأهداف التي يفترض في الحاكم العمل على تحقيقها، والتي على أساسها بايعه عموم المسلمين وأهل الحلّ والعقد فيهم.
ونختم ببعض التوصيات، حيث نقترح إنشاء خلية للتفكير في العالم العربي، تضمّ مثقفين وأكاديميين وباحثين وأساتذة جامعات من تخصصات: السياسة الشرعية، العلوم السياسية، الفكر السياسي، علم الاجتماع السياسي، علم الاجتماع الديني، لتفكيك جزئيات الأفكار السياسية المتعلقة بالسلطة من مختلف زوايا النظر، للفصل في الاشتباك القائم بين السياسة كواقع فيه ما فيه من جوانب مدنّسة ومظلمة، والدين المفترض أنّه مقدّس، وتحديد نقط الالتقاء بين السياسة والأخلاق السياسية، ولم لا إنشاء تكوينات جامعية في الماستر ومختبرات بحث في الدكتوراه حول هذه النقطة.
لائحة المراجع والمصادر:
1- أطلس المعرفة، مقال منشور بتاريخ 2020-01-14 تحت عنوان: “من هو ميكيافيلي وما هي الميكيافيلية؟ اطّلع عليه بتاريخ 2021-12-21، الرابط التالي: https://atlas-know.com/%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%86-%D9%85%D9%83%D9%8A%D8%A7%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%8A/
2- البخاري محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، الجزء الرابع، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة رقم (7148)، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، جدّة، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى، 2001.
3- بريتانيكا موقع الموسوعة الإلكترونية: http://www.philosophypages.com/ph/macv.htm
4- بهاء الدين أحمد، شرعية السلطة في العالم العربي، دار الشروق، القاهرة – بيروت، 1984.
5- تودوروف تزفيتان، اللانظام العالمي الجديد تأملات مواطن أوربي، ترجمة وليد السويركي، أزمنة، عمان، الطبعة الأولى 2006.
6- التنبكتي أحمد بابا، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، إشراف وتقديم عبد الحميد عبد الله الهرامة، كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، 1988.
7- خاطر محمود، الفكر السياسي لمكيافيلي، مقالة منشورة بتاريخ 27 غشت 2015، الموقع الالكتروني لمجلة مصر المدنية، الرابط: http://www.civicegypt.org/?p=59633
8- عطية أحمد عبد الحليم، جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي، بيروت، الطبعة الأولى، 2010.
9- علي حسين ابتسام، أصول السلطة السياسية ووظائفها الاجتماعية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 130، عدد الصفحات من 207 إلى 256، 2008، لبنان. الدراسة منشورة على الموقع الالكتروني للمجلة على الرابط التالي: http://almuslimalmuaser.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=654:2osoul
10- المغيلي التلمساني محمد بن عبد الكريم، تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين، تحقيق محمد خير رمضان، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى، 1994.
11- ميكيافيلي نيكولو، الأمير، ترجمة أكرم مؤمن، مكتبة ابن سينا للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، دون تاريخ.
12- نصار ناصيف، منطق السلطة مدخل إلى فلسفة الأمر، دار أمواج للنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية، 2001.
[1] – أخرجه محمد بن إسماعيل البخاري في صحيح البخاري، ج. 4، كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة رقم (7148)، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، جدّة، المملكة العربية السعودية، ط.1، 2001، ص 2611.
[2] – أحمد بابا التنبكتي، نيل الابتهاج بتطريز الديباج، إشراف وتقديم عبد الحميد عبد الله الهرامة، كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس، 1988، ص 576-579.
[3] – موقع بريتانيكا الموسوعة الإلكترونية، نيكولو ميكيافيللي، على الرابط التالي:
http://www.philosophypages.com/ph/macv.htm، تاريخ الاقتباس 2021-11-10.
[4] – نيكولو ميكيافيلي، الأمير، ترجمة أكرم مؤمن، مكتبة ابن سينا للطبع والنشر والتوزيع، القاهرة، دون تاريخ، ص 117 وما بعدها.
[5] – عندما أذكر مصطلح “تفكيكية”، فإنني أشير إلى استخدامه الفلسفي لدى “جاك دريدا” الذي يفرّق بين التفكيك (Déconstruction) والهدم (Destruction)، حيث يقصد بالتفكيك نوعا من إعادة النظر في أشكال التأسيس أو الحفريات من باب الاختلاف. أحمد عبد الحليم عطية، جاك دريدا والتفكيك، دار الفارابي، بيروت، ط.1، 2010، ص 187 – 188.
[6] – ناصيف نصار، منطق السلطة مدخل إلى فلسفة الأمر، دار أمواج للنشر والتوزيع، بيروت، ط 2، سنة 2001، ص 7.
[7] – المغيلي التلمساني محمد بن عبد الكريم، تاج الدين فيما يجب على الملوك والسلاطين، تحقيق محمد خير رمضان، دار ابن حزم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 1، 1994، ص 17 و 18.
[8] – ابتسام علي حسين، أصول السلطة السياسية ووظائفها الاجتماعية، مجلة المسلم المعاصر، العدد 130، عدد الصفحات من 207 إلى 256، 2008، لبنان. الدراسة منشورة على الموقع الالكتروني للمجلة على الرابط التالي: http://almuslimalmuaser.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=654:2osoul، تاريخ الاقتباس 2021-11-10.
[9] – المغيلي، تاج الدين، ص 6 و 7.
[10] – المغيلي، المرجع نفسه، ص 24-28-33-40 –47-53 وما بعدها.
[11] – المغيلي، المرجع نفسه، ص 19.
[12] – المغيلي، تاج الدين، ص 21 و 22.
[13] – ابتسام علي حسين، أصول السلطة السياسية ووظائفها الاجتماعية، مصدر سابق.
[14] – نيكولو ميكيافيلي، الأمير، ص 112.
[15] – ميكيافيلي، الأمير، ص 114.
[16] – المغيلي، تاج الدين، ص 25 و 26.
[17] – المغيلي، المرجع نفسه، ص 126- 127.
[18] – المغيلي، المرجع نفسه، ص 41-42.
[19] – المغيلي، تاج الدين، ص 43-44-45.
[20] – المغيلي، المرجع نفسه، ص 47.
[21] – المغيلي، تاج الدين، ص 51-52.
[22] – المغيلي، المرجع نفسه، ص 53.
[23] – أحمد بهاء الدين، شرعية السلطة في العالم العربي، دار الشروق، القاهرة – بيروت، 1984، ص 9.
[24] – أحمد بهاء الدين، المرجع نفسه، ص 10.
[25] – أحمد بهاء الدين، شرعية السلطة في العالم العربي، ص 10.
[26] – أحمد بهاء الدين، المرجع نفسه، ص 10 و 11.
[27] – أحمد بهاء الدين، شرعية السلطة في العالم العربي، ص 12 و 13.
[28] – أحمد بهاء الدين، المرجع نفسه، ص 13.
[29] – تزفيتان تودوروف، اللانظام العالمي الجديد تأملات مواطن أوربي، ترجمة وليد السويركي، أزمنة، عمان، ط. 1، 2006، ص 52.
[30] – تزفيتان تودوروف، المرجع نفسه، ص 53.
[31] – المعلومات مستقاة من مقال منشور بتاريخ 2020-01-14 تحت عنوان: “من هو ميكيافيلي وما هي الميكيافيلية؟ موقع أطلس المعرفة، اطّلع عليه بتاريخ 2021-12-21، الرابط التالي: https://atlas-know.com/%D9%85%D8%B9%D9%84%D9%88%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%86-%D9%85%D9%83%D9%8A%D8%A7%D9%81%D9%8A%D9%84%D9%8A/
[32] – ابتسام علي حسين، أصول السلطة السياسية ووظائفها الاجتماعية، مصدر سابق.
[33] – ميكيافيلي، الأمير، ص 108-109.
[34] – ميكيافيلي، المرجع نفسه، ص 97.
[35] – محمود خاطر، الفكر السياسي لمكيافيلي، مقالة منشورة بتاريخ 27 غشت 2015، الموقع الالكتروني لمجلة مصر المدنية، الرابط:
http://www.civicegypt.org/?p=59633، تاريخ الاقتباس 2021-11-10.
[36] – محمود خاطر، المصدر نفسه.
[37] – ميكيافيلي، الأمير، ص 80-81 و85-86.
[38] – ميكيافيلي، المرجع نفسه، ص 99-100-101.
[39] – ميكيافيلي، الأمير، ص 104-105-106.
[40] – ميكيافيلي، المرجع نفسه، ص 107.
[41] – ابتسام علي حسين، أصول السلطة السياسية ووظائفها الاجتماعية، مصدر سابق.
[42] – ابتسام علي حسين، أصول السلطة السياسية ووظائفها الاجتماعية.
[43] – المغيلي، تاج الدين، ص 25.