منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

لعبة المقارنة

لعبة المقارنة/ عادل زروق

0
لعبة المقارنة
بقلم: عادل زروق
خلال السفر والحمد لله، عشت أكثر من مرة انطباع الدهشة من أول نظرة، تلك التي يسمونها “دهشة الجمال”، والحق يقال، هذه الفجأة الجميلة قد تحدث في كل بيئة مغايرة لما اعتدنا عليه، فكيف بك وأنت في جمال جزر الفلبين.
ولا يكتمل فرح “جمال الصنعة” عند أولي الألباب إلا بذكر الصانع البديع، ولا يحلو لهم السير في مناكبها إلا بقول ربنا ما خلقت هذا باطلا، سبحانك.
اللهم اجعلنا منهم ومعهم. آمين..
يعجبني في السفر أن أزور معالم المدن، وأن أزور القرى وأحياء السكن، أن أمشي طويلا في الدروب القديمة، وأن أزاحم الباعة والمتجولين في الأسواق، والسوق عند عشاق السفر أكثر من مجرد محطة عابرة، وخصوصا في بلد مثل الفلبين، بلد قد لا نعرف عنه إلا صور الفنادق الفخمة والجزر الجميلة، والشواطئ الاستوائية الساحرة.
السوق الشعبي -بما فيه من حقيقة- يمحو تلك الصور الوردية الساذجة التي نحملها في أذهاننا، سواء حول الفلبين، أو أي مكان في العالم، وجولة بسيطة في السوق كفيلة بتصحيح النظرة السطحية التي تتداولها الجهات الرسمية، سواء من أجل تلميع الصورة، أو من أجل الدعاية السياسية والسياحية.
منذ سنوات كثيرة، لا يكتمل عندي جمال السفر إلا بجولة في المتاجر والأسواق الشعبية، وكأني بالذي لم يعرف هذه الأماكن لم يسافر. وله أقول: السوق أصدق أنباء من الصور، فيه ترى الحقيقة، وفيه تسمع أعجب العجب. الخبر ما تراه العين في الأسواق، لا ما جاء في الإعلام والكتب، اذهب هناك و زاحم و اكتشف، وجولة في السوق تمحو زخرف الكذب.
بعد جولة في السوق المركزي للخضر والفواكه في جزيرة كورون، جلست في زاوية ظل أستريح، وهناك دون قصد، وجدت نفسي أسبح في فضول النظر، أراقب الناس والباعة، وهنالك بدأت لعبة المقارنة.
عند سفرك إلى أي بلد جديد، شئت أم أبيت سوف تنطلق من البيئة التي عرفت، تجعلها مرجعا لأفكارك، ثم تبدأ في المقارنة.
والمقارنة لعبة ممتعة، مدهشة تثير العجب، وأحيانا أخرى تكون أسوأ ما تقوم به. لأن المقارنة شوكتها محزنة، تنقلب في لحظة من لعبة إلى لعنة، وقد تفسد عليك لحظات السفر، وإذا أردت نصيحتي خلال السفر: إياك ثم إياك والمقارنة.
إذا سألتني عن أجمل الذكريات في هذا البلد فلحظة إقلاع الطائرة من مانيلا كانت عندي واحدة، أضف إليها كل لحظات الدهشة أو الصدمة عند لقاء شيء مختلف. وفي هذا البلد كل شيء مختلف، حتى مذاق الموز والخبز عندهم مختلف.
ولا أنكر أن أمتع اللحظات عندي في السفر تكون عند سماع ضجيج الناس وهم يتحدثون لغة لا أفهمها، حتى السياح الأجانب هنا قلة، وكلما قل عدد السياح كلما اقتربت إلى حقيقة السكان، وهذه واحدة من مزايا الأسواق الشعبية.
خلال جولتي، أعترف أن كثيرا من أوقات السفر ضيعتها وأنا أقرأ صفحات من الماضي بمنظار المقارنة. وأحدث نفسي دائما خلال السفر، أنصحها بعدم المقارنة، ولكن لا حياة لمن تنادي.
أمام كل جديد وغريب نندهش، نضعف ونفتح سجل الذكريات، نقارن الأماكن بالأماكن، والأيام بالأيام، نفعل كل ذلك دون أن نشعر، وأسوأ أنواع المقارنة أن نقارن الأشخاص، وأن نقارن أنفسنا بالآخرين، وذلك هو العذاب الأليم.
وإذا سألت عن سكان الفلبين، فالفوارق بيننا وبينهم كثيرة، في اللغة والدين ولون البشرة ونوع الطعام، ولكنني في هذا السوق على الأقل، كنت أشعر أن سكان الفلبين والمغرب شعب واحد، ولولا فارق اللغة، لظننت أنني اليوم في أحد أسواق الخضر في المغرب، وخصوصا “جوطية البويتات” أو “سوق المحاريك” بالرباط. نفس العشوائية الجميلة، نفس الصناديق الخشبية، نفس أنواع الميزان، ونفس اللحن في النداء، حتى خيل إلى سمعي كأن أحدهم يقول من بعيد “مابقاش.. مابقاش”.
هنالك تذكرت هتاف أسواقنا الشعبية، “زيد زيد”.. “الريكلام”.. “النعناع جوج قبطات بدرهم”..”ميكا شاكوش ستة دريال”.. ” بطاطا ماطيشة فلفلة كلشي ستين”.. “فابور فابور”..”لا غلى على مسكين”.
كان ذلك في ما مضى، أما اليوم فلا أظنك تسمع كثيرا من هذه العبارات.
في أسواق الفلبين يكثر عندهم بيع البيض المسلوق، يجعلون له لونا أحمرا حتى يميزونه عن البيض العادي، ولا أعرف كيف يحافظون عليه لأيام دون أن يفسد، أخبرتني التاجرة أنه جاهز للأكل، وقالت أنه لذيذ ومالح ومختلف المذاق، تملكني الفضول ولا أملك الشجاعة لشراء هذا البيض العجيب، ورغم وفرته وقلة سعره، لم أتناول منه قضمة واحدة، عملا بالقاعدة المغربية الشهيرة: “اللي خاف نجا”. وأنا أخاف أن أسقط في بيضة فاسدة، تفسد علي ما بقي من أيام السفر.
في أسواق الفلبين سوف تلاحظ وفرة الموز والفواكه الاستوائية، وكلها بسعر زهيد، وعندهم السمك المجفف، وما أدراك ما السمك المجفف، تجده في كل مكان، وهو طعام الفقراء والمساكين في الفلبين.
من وفرة السمك الذي يباع بثمن بخس، وخصوصا في الموانئ يجمع السكان كميات كبيرة من السمك، ينظفونه و يغسلونه بملح البحر، ثم يتركونه تحت الشمس لأيام، إما معلقا على سفافيد عمودية، أو على الصخر أو “ينشرونه” على الحبال، تماما كما نفعل نحن في تحضير القديد.
والعجيب أن رائحة السمك المجفف مقبولة، عكس ما تخيلته من قبل، وكنت أعتقدها قريبة من رائحة “الكرداس”، إلا أن الكرداس في الرائحة لا يعلى عليه.
ولن أقارن سعر السمك عندنا وعندهم، لأنه “لا مقارنة مع وجود الفارق”، وهنا قال الشاعر: المغرب جوج بحور، والمواطن عايش مقهور.
سبب وفرة الأسماك في أسواق الفلبين كثيرة، ومنها وفرة الموانئ الصغيرة، وتشجيع صناعة الزوارق. وجولة بسيطة في الميناء سوف تجعلك تلاحظ الزوارق وعددها الهائل.
ومن أهم أسباب وفرة السمك في هذه البلاد هو عدم احتكار الصيد من طرف البواخر العملاقة (تلك التي تملكها الكروش العملاقة)، وفي هذه الجزر الصغيرة من العادي أن تملك الأسرة المتوسطة زورقا، تستعمله للصيد أو التنقل.
تخيل معي لو أن سواحل المغرب مليئة بالموانئ الصغيرة، تخيل لو بدأنا في صناعة الزوارق على امتداد المدن الساحلية، تخيل لو تحرر قطاع الصيد من قيوده، تخيل معي، كم سيكون سعر السردين حينها ؟ وهل سنحتاج إلى استيراد البقرة البرازيلية ؟
تخيل لو أن، وأن، وأن…
ألم أخبرك من البداية أن لعبة المقارنة ليست جيدة، وأنها سرعان ما تنقلب من لعبة إلى لعنة.
-يتبع إن شاء الله-
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.