حل الشيخ الدكتور عصام أحمد البشير نائب رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ضيفا على منصة بيان للتدريب والبحث العلمي يومه السبت 5 يونيو 2021 الموافق لـ 24 شوال 1442 على الساعة التاسعة مساء بتوقيت ماليزيا، الرابعة مساء بتوقيت مكة المكرمة، لإلقاء محاضرة بعنوان: ” دور العلماء في الحفاظ على ثوابت الأمة “ من خلال تقنية زووم، ونظرا لأهمية ما جاء في المحاضرة من درر و إشارات ومسائل قيمة تجلي دور ومكانة العلماء العاملين في حفظ هوية الأمة وثوابتها.
ارتأى موقع منار الإسلام تفريغ هذه المحاضرة وإعادة نشرها عبر حلقات متسلسلة، كل حلقة تتضمن ثلاث مسائل، وفي ما يلي الحلقة الأولى من هذه السلسلة.
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وحجة الله على الخلق أجمعين، نبي الرحمة وإمام الهدى عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ثم أحيي جمعكم الكريم، أحبة فضلاء وخيارا أجلاء وعلماء كرماء من شتى البلاد وتنوع التخصصات.
و أتقدم بالشكر والتحية والتقدير لأكاديمية البيان ومنصة البيان للتدريب والبحث العلمي على كريم هذه الدعوة، الدكتور عبد الوهاب الذي، جزاه الله خيرا، عبر عن هذه الرغبة الكريمة و تابعني بالاتصال، و تحمل طبيعة الظروف التي مررنا بها من ظروف صحية إلى ظروف الوباء و التنقل إلى أن هيأ الله هذه السانحة الكريمة التي أرجو الله تعالى أولا أن تكون خالصة لوجهه الكريم، و أن يتحقق بها النفع، و أن يعظم بها الأجر، أن تكون فرصة للتداول و البحث و التشاور في أمر ذي بال، هذا الأمر الذي يتعلق بدور العلماء في الحفاظ على ثوابت الأمة.
المسألة الأولى: العالِم من زاوج بين العلم والعمل وخشي الله.
نود أن نقف أولا عند تحديد المقصود بالعلماء، فالعلماء لا يقصد بهم فقط من انتسب لعلوم الشريعة تفسيرا وفقها وحديثا وأصولا وما تابعها كذلك واتصل بها من علوم الآلة، وإنما الأمر أعظم من ذلك. فالعلماء الربانيون هم الذين زاوجوا بين العلم والعمل وتحروا المقاصد لله رب العالمين، وسواء اتصل جهدهم بعلوم الدين أو بعلوم الدنيا. فكل عالم يعمل على بذل الجهد في تحصيل علمه ويجعله علما نافعا ويصله بالعمل الصالح. فهو العلم الذي يصب في هداية البشرية. والله تعالى حينما ذكر علم الجماد وعلم النبات وعلم الأحياء، ذكر بعد ذلك قوله تعالى: “إنما يخشى الله من عباده العلماء”، فالعلماء الذين يخشون الله هم الذين أدركوا أن طبيعة مصادر المعرفة هي تتمثل في الكتاب المسطور وفي الكون المنظور، وبهذا يتحقق معنى القراءتين: “اقرأ باسم ربك الذي خلق”، فهي قراءة في مجال الكتاب المسطور تدبرا وعظة وعبرة واستنطاقا للمعاني واستجلاء للمراشد ومواطن الهداية.
كذلك قراءة في الكون المنظور، فالكون المنظور والكتاب المسطور هما مصادر المعرفة، والوسائل لهذه المصادر كما قال تعالى: “والله أخرجكم من بطوم أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة” وعلماؤنا قديما لم يكونوا يعرفون هذا الفصل بين ما يسمى بعلوم الدين وعلوم الدنيا، كان ابن رشد هو الفيلسوف الذي رد على الفلاسفة وكان هو كذلك الذي ألف كتاب “الكليات في الطب”، واعتمدت عليه أوربا لعدة قرون، وهو الفقيه الذي ألف كتاب “بداية المجتهد ونهاية المقتصد” في الفقه المقارن. وبالتالي نحن نؤمن بقضية التخصص، والعلم يتنوع، فالأمة اعتمدت مبدأ التخصص كما قال الله تعالى: “لًعَلِمه الذين يستنبطونه منهم”، يشمل من تخصص في علوم الكتاب المسطور ومن تخصص في علوم الكون المنظور.
قديما قالوا: “المحدثون صيادلة والفقهاء أطباء”. صحيح أن كل إنسان يطلب منه ما لا يطلب من غيره بحسب ما هيأ الله تعالى له من أسباب النبوغ العلمي. هذه المسألة الأولى التي أردت أن أبسط فيها القول لأن القرآن الكريم حينما تناول مفهوم العلم والعالم لم يجعل ذلك قصرا على من تخصص في علوم الشريعة فقط وإنما كل علم يتقرب به إلى الله تعالى ويحقق نفعا للأمة. هذا كله يدخل في مفهوم العلم النافع إذا ترجم كذلك من بعد ذلك إلى عمل صالح، هذه واحدة.
المسألة الثانية: وظيفة العالم تقتضي الدفاع عن ثوابت الأمة.
الأمر الثاني، لا بد أيضا أن نشير إلى ما نقصد بالحفاظ على ثوابت الأمة، المطلوب من العالم أن يحافظ عليها، هذه الثوابت متعددة: هنالك ثوابت تتصل بثوابت العقيدة، هنالك ثوابت الشريعة، هنالك ثوابت القيم، هنالك ثوابت المصير المشترك، هنالك ثوابت متعلقة بالأحكام، هنالك ثوابت تتعلق بالمقاصد، هنالك ثوابت تتعلق بالأمة ذاتها، الحفاظ على الأمة حفاظا عضويا، الحفاظ على الأمة معاني، والحفاظ على الأمة مباني. سنعرض لنماذج مما يراد من العلماء أن يقوموا بواجبهم تجاه نهضة الأمة أو الحفاظ على ثوابتها.
المسألة الثالثة: تحرير مفهوم الأمة وسياقاته القرآنية.
الأمر الثالث أيضا مفهوم الأمة، ينبغي أن يتحرر أيضا. الأمة مفهوم يمكن أن يتسع وأن يضيق. الأمة من أمَّ الشيءَ إذا قَصَده، وأُمُّ الشيءِ أصله، والقرآن الكريم استعمل الأمة في أربع سياقات: جاءت الأمة بمعنى الإمام الذي يقتدى به: “إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا”، وتأتي الأمة بمعنى الجنس من الأجناس: “وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم”، يعني جنس من الأجناس مثلكم، “لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها”، والأمة بمعنى القوم الذين يجتمعون على ملة ودين. ولذلك المسلم اليوم المعاصر له انتماءات متعددة، فأنا مثلا باعتبار الجغرافيا، أنا أنتمي إلى أمة السودان، وباعتبار الجوار أنتمي إلى أمة إفريقيا، وباعتبار اللسان اللغة أنتمي إلى الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، وباعتبار العقيدة أنتمي إلى الأمة الإسلامية من طنجة إلى جاكرتا، وباعتبار الإنسانية أنا أنتمي إلى الأمة الإنسانية كلها، وباعتبار العبودية لله رب العالمين وإلى البنوة لآدم عليه السلام. فإذن درجات الانتماء تتعدد، وبالتالي الإنسان لا يجد ثمة تعارض بين أن يكون له انتماء بحكم الجغرافيا أو المعنى القطري أو المعنى الضيق، هذا المعنى الجغرافي ثم الجوار ثم اللغة ثم العقيدة ثم البعد الإنساني، ويجد أن في عنقه واجبا تجاه كل أمة من هذه الأمم. ويتسع الواجب ويتأكد وجوبه وفرضية عينه أو كفايته بحسب طبيعة الأهمية لهذا الواجب. فهذه مسألة أيضا في محاولة تفتيت العنوان ورده إلى أصوله في سياقات المعرفة القرآنية يشير إلى هذا المعنى في قضية الأمة، وبالتالي هنالك حتى في مفهوم الأمة ثوابت ينبغي أن نحافظ عليها، سنأتي إليها حتى لا تتعرض الأمة إلى حالة من التمزيق، إما باعتبار لغوي أو عنصري أو جهوي أو قبلي أو طائفي أو نحو ذلك.
يتبع في الحلقة الثانية إن شاء الله تعالى