منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

بداية لا نهاية (خاطرة)

بداية لا نهاية (خاطرة)/عبد العزيز قريش

0

بداية لا نهاية (خاطرة)

بقلم: الأستاذ عبد العزيز قريش

هكذا هي بداية مشواري عن وعي؛ لقاء من غير ميعاد، ونظرة خاطفة كومضة البرق، وإشراقة عابرة كسحاب الصيف، في مقام ما اعتقدت يوما به، ولا أحببته، ولا أعجبت به، فطالما كنت أجافيه وأعاديه، وأتجنب لقياه؛ فرغم حقيقته ووجوده رغما عني، كنت أنكره وأكره التحدث فيه وإليه، وأتعالى عليه لاعتقادي بأنه يسبب الجروح والشروخ والآلام. كثيرا ما انزويت عنه وحدي في عالم الطبيعة، أرقد بين جمالياتها، أتغزل بقدرة الله في هذا الخلق البديع، أجلل روحي بمحاسنها وصنعها، ومفاتن مناظرها وغرائب مخلوقاتها وانسجام قوانينها، تؤانسني وأنا أقرأ القصص البوليسية، ومغامرات المستكشفين، وحروب القراصنة وقطاع الطرق، وبؤس الفقراء وبذخ الأغنياء، وبكائيات العاشقين وشعر المخبولين والمجانين، وتزلف المتملقين الطامعين، و أستكشف كتابات وأوراق المنفلوطي وجبران خليل جبران، وسلامة موسى، وعبد الكريم غلاب، وعلال الفاسي، ومحمد شكري، وعبد المجيد بن جلون، وفيكتور ماري هوغو Victor Marie Hugo، وألبير كامو Albert Camus، و موريس لوبلان Maurice Leblanc، أو شيوعية كارل ماركس Karl Marx … في عالم كتبي على قلة عددها، أو أنغمس في طموحاتي. تلك التي تكسرت صورها على صخور الظروف القاسية التي عشتها؛ العامل الأساس في فقدي كل الورود والأزهار التي غرستها على جنبات طريق مستقبلي، وفي تربة حدائق أوطاري وآمالي، وزينت بها سجاد أحلام حياتي. كما ذبلت ياسمين مزهريتي على سطح أقداري، تلك التي كان الشباب في عمري يهدونها لعالم الحب، وأهديتها أنا متجففة ضمرة لأحزاني ومتاعبي ومصاعبي في غياهب بلادي وذاتي. غير أن الأيام، كذلك، فتحت لي باب التراسل والتعرف على الآخر رديفي أو مخالفي جنسا، لطفا منها؛ عندما بدأت أولى خطواتي في الكتابة بعد ردح من زمن للقراءة والتكوين والدراسة والبحث الأكاديمي؛ حينها تعرفت على اثنتين كلاهما من غير بلدي وديانتي، عقدت العزم على زيارة إحداهما؛ الأولى تعارفا، في البلد القريب من بلدي عبر عبور أمواج بيض زبدها، رطب وبارد رذاذها، منعش هواؤها، مزهوة نوارسها. كنت أعرفها من صورتها التي أرسلتها لي وهي تعرفني من صورتي التي أرسلتها لها ملفوفة ببطاقة سياحية، رسمت آلة التصوير في زمنه كل ملامح مدينتي عليها، مدينة تشبه العديد من مدن بلدها لأن أجدادي استوطنوا يوما ما بقاعها الرائعة مناظرها ومساحاتها الشاسعة، والرقيقة الفاتنة شقرتها. وشيدوا حضارة عظيمة مازالت مآثرها قائمة تحكي للتاريخ، والساكنة والبحوث الجامعية حكاية الفردوس المفقود، الضائع بين الألواح والسطور المهمومة والقلوب المفجوعة. يوم أحرقوا سفنهم، واستلوا سيوفهم؛ ويا ليتهم لم يفعلوا، لأنهم احترقوا بنار رمادها أضعافا مضاعفة، حين وهنوا واستكانوا فانهاروا، فكان أحفادهم حطبا ووقودا لنيران محاكم التفتيش، الكثير منهم أُحرقوا أحياء، وآخرون تعذبوا بمسامير وسكاكين ومقاصل الحاقدين المتعصبين، وآخرون غيروا كل الأسماء والصفات والدفاتر والمعتقدات خوفا من الحرق ولهيب النيران والدفن أحياء، ومنهم من أدخلوا مرغمين عنوة إلى مسالخ الأولياء والتقاة لسماع ترنيمة الآهات … لم أكن يومها حاضرا، إذ؛ لكنت نصحتهم بالعدول عن ذلك والإحجام عنه، لأن الإيمان الديني بالواحد الديان، بالحب أقوى من الإيمان بالسيف والخوف، وأبقى في القلب، وأطول في العمر، وأدوم في الأجيال، وألذ في المذاق، وأطيب في الممارسة. هكذا تعلمت عن ألسنة أكبر شيوخ وأيمة وفقهاء وعلماء مدينتي، حاضرة العلم والمعرفة في بلادي، التي ما عادت تشبه نفسها، ولا فضاءاتها تفصح عن علمها، ولا عن علمائها ولا أدبها، وإنما تشكو فضاءات تسممت بروائح المخدرات ودخان السجائر الكريهة وأخبار الجرائم المتنقلة والمتسلسلة، وروائح المأكولات السريعة المختلفة، المنبعثة من عربات الباعة المتجولين، وسفاهة خطابات السكان الجدد السخيفة، المبتذلة الهجينة في الشوارع والأسواق، في المقاهي والدور والأزقة الضيقة، في الأفراح والأحزان. تعج بالأيادي الممدودة المبسوطة والكثيرة تستجدي الصدقة والشفقة، تشكو الحرمان، وكأن الحياة في مدينتي توقفت عجلتها الاقتصادية، وكأنما لم يعد أحد يجد شغلا ولو بسيطا، كأن السياسة قد أنشأت فيها مواجع الفقر والقهر، وسرادقات اليتم والموت، بدل مواطن الشغل. مآسي تعيشها مدينتي الغالية التي ما عادت جميلة اليوم ولا فاتنة؛ أبكي على الدوام حسرة عليها، وأتألم وأتوجع مثلما يتوجع يتيم عن أمه، كلما تذكرت أزقتها وسواقيها وجنانها وبساتينها وخيراتها، ومكتباتها ومدارسها العتيقة وكتاتيبها القديمة وحدائقها الغناء الآخذة بالألباب، ونهر جواهرها المكنونة في تربتها، وقد جف وأضحى مصبا للمياه العادمة، منبتا للأعشاب الضارة والطفيليات القاتلة، ومستنقعا للفضلات، وموطنا للحشرات على مختلف أجناسها.

مدينتي التي تحاول أن تنتعش بأكسجين الدعاية السياحية، لتستجلب سياحا وباحثين في تراثها، ذاك المعرض للاختفاء والضياع والنسيان. الذي عجزنا عن الاستفادة منه، ولا أن ننعتق من سطوة التبجح بماضيه، والماضي قد مضى، وهو فعل ناقص، غير مكتمل الاستمرار في الحاضر ولا المستقبل. مدينة أفقدتها البدْونة كل قيمها الجميلة، وتقاليدها الرائعة العريقة، ولغتها الشفيفة الرقيقة والمتميزة بوقع رنتها الخاصة التي يعرفها الوطن كله، بدونة أفقدتها كل جمالها، وألبستها زيا بألوان متنافرة متضاربة باهتة وحزينة، ينفر منها الذوق الجميل والإحساس الرهيف… ذلك باسم هجرة التراثيات الشعبية وروافد الثقافات المتعددة التي تتصارع فيما بينها إثنيات، على السبق السياسي والاقتصادي لا العلمي والثقافي والحضاري والقيمي والإنساني. لا تعرف للانصهار مفهوما، ولا للتعايش السلمي طريقا!؟ هي عبارة عن غابة متوحشة يفترس القوي فيها الضعيف.

تلك هي مدينتي في الحاضر والتي مازلت أعشقها رغم تلك المآسي والأحزان، فمهما بعدت عنها إلا ورجعت إليها، فيها إقامتي وسكني وسكوني. هي التي قادتني ذات يوم إلى الالتحاق بإحدى جمعياتها المدنية للتنشيط الثقافي والفني صحبة مجموعة من الشباب والشابات، يومها كنت في مقتبل العمر، عشريني العمر ونيف، في بدايات عقدي الثالث. الحيوية والنشاط وحتى الحماس والاندفاع يسيطر علي، وعلى نظرتي للأمور، وتطلعاتي كبيرة جدا وكثيرة، وآمالي مفتوحة على آفاق الزمن المقبل تستشرفه؛ تطمح لخلق حياة ملؤها العطاء الفكري والثقافي والاجتماعي وخدمة البلاد والعباد، وتنمية الوعي بالذات والمجتمع. فكنت أحد المحاضرين في المجال الثقافي المتنوع، اكتسبت من أنشطتها قيما متعددة وبخاصة قيمة الثقة بالنفس وكفاية وكفاءة في الفعل الحر المسؤول، ومضيت مع الجمعية في ممارسة واجباتها وخدماتها بحماس. وعلى هذه الوتيرة، مرت سنتان؛ ثم، فجأة انقلبت، من كراهية ما لم أكن أعتقد به إلى الاعتقاد به ومحبته، نتيجة ظهور طيف حبيبتي من غير عادتها في ظلال قلبي وشغاف روحي من الضباب والغيوم والسحاب الذي كان يحجبها عن رؤيتي، وهي معي في الجمعية. رغم أني اعتدت حضورها بجانبي وآمنت بصداقتها زميلة لي أشاطرها مهامها وأتقبل ملاحظاتها وآراءها في المسرح والثقافة والأعمال الاجتماعية. فطيفها ليومه ذكرني برؤيتها لأول مرة، ساقتها الصدفة لي، في فضاء قرب إعداديتها التي تدرس بها، وكأن قدرا ما خفيا يقود خطاي إليها ببطء وتؤدة. فهي كانت في نقاش ولجاج مع صديقتها ترفع صوتها شيئا ما حول مغادرة المكان، وكنت أحمل كتبي عائدا من فضاء قراءتها إلى منزلي. شاهدتها وقتها بتمعن وتوصيف دقيق، حيث كانت تميل في شكلها ولباسها وهيأتها إلى الصبي منه إلى الصبية نتيجة شعرها القصير جدا والمجعد، وشكلها المغري الجذاب بلباسها ” للتجين ” والقميص والحذاء الرياضي. في الواقع كانت جد نحيفة، رشيقة القوام. نظرت إليها وأنا أمر بجانبها نظرة إعجاب وتقدير، بل وجدتها في عيني جميلة رائعة، لوحة فنية لا تشبه اللوحات، رسمتها ريشة ملاك السماء بوحي الأمر: كن فيكون، لتلامس أوتار وجداني الإنساني وتطرب أعماق فؤادي وعقلي، لغيت بها لأول نظرة. أمعنت النظر ثم انصرفت وفي نفسي اهتزاز عاطفي لم أشعر به قط رغم أن وسط عائلتي كان مليئا بمن تهواني وتتمناني عشيقا لها، حبا لقلبها؛ لم أكن أشعر قط بأي إحساس على الإطلاق نحوهن. ومر اللقاء الأول هكذا دون ردة فعل، ولو ببنت شفة ولا همسة أو حركة أو لمحة. لكن الأيام والصدف والأقدار وسيرورة الحياة ذات يوم جمعت نظرتي بنظرتها مرة ثانية خلال خطفة من الزمن كالبرق، كنت مستقلا الحافلة قاصدا المدرسة العليا للأساتذة حيث كنت أتابع دراستي وتكويني أستاذا للسلك الثاني الثانوي تخصص الرياضيات. نظرت؛ فإذا بي أشاهدها وهي تعبر الطريق إلى محطة الحافلات، بعدما خرجت من الثانوية التي كانت تدرس بها، وقد غادرت أنا رديفتها المتربعة بجانبها، فرفعت رأسها إلى الحافلة فإذا هي ترمقني مرة أخرى أنظر إليها، فأمعنت النظر وعيونها تتعقب الحافلة، ثم اختفيت في نقطة التلاشي واختفت معي، إلى أن دعاني أخي الأكبر إلى حضور أحد أنشطة جمعيته بإحدى دور الشباب، وكان النشاط عبارة عن محاضرة له في اختصاص التكنولوجيات… والآن هو المهندس التكنولوجي والمقاول الصناعي. فإذا بي أصادفها هناك مرة ثالثة من بين أعضاء الجمعية المنظمين والساهرين على ترتيب القاعة، رشيقة تمشي، حاسمة في الحفاظ على النظام بالقاعة، خاصة وأن المكان هو للشباب على مختلف الأعمار والعقليات والسلوكات والعواطف. لا يدري الواحد منا أي منقلب قد تنقلب إليه قاعة المحاضرات من طيش وتهور. نظرت إليها، ونظرت إلي، دون أي تواصل ولا عبارات ولا كلمات. ثم مضت الأيام وأنا في مشروع السفر مفكر؛ إلى أن دعاني أخي إلى الالتحاق بالجمعية عضوا فيها وكانت فرعا لإحدى الجمعيات الوطنية، التي طلقناها من بعد، وقد أسسنا جمعيتنا الخاصة بمعيتها ومعية شباب آخرين، واستمر الأمر عاديا بيننا، توطد بالصداقة والزمالة والعمل المشترك في الجمعية وأنشطتها. ودون البوح بمشاعرنا القائمة بيننا وكأنها تختمر وتغتمر لتفيض يوما ما! إلى أن قررت تقديم استقالتها من الجمعية نتيجة فيضان مشاعرها اتجاهي وحبها لي دون استطاعتها تجاوز حاجز الصمت والبوح لي بذلك، ودون علمي ومعرفتي بذلك، فصرحت لزميل لنا بذلك؛ فنصحها أن تؤجل استقالتها إلى أن يعلمها بمشاعري الحقيقية اتجاهها؛ حينها أخبرته بأنني أتبادلها نفس المشاعر وإني أحبها ومغرم بها، فهي في قلبي فاتنتي ومعذبتي في ذات الزمن المشترك بين موجودين كل منهما في قطب الكرة الأرضية المقابل، ولا يبوح بما في القلب والروح إلغاء للمسافات وتقريبا لقلبين محبين عاشقين ولهين! فكان لقاؤنا الأول عند عائلتها، ثم توطد الحب بيننا وتطور، ونما وترعرع كطفل ؛ بعد أن تزوجنا، وصرنا نتابع معا الدراسة الجامعية بنفس الجامعة ثم بعدها التحقت بي في المجال التربوي أستاذة للغة العربية؛ فألحقت بمنطقة نائية، طبيعتها فياف وقفار وبها أفقر العباد وأكرم الأجواد والعطاء… أولئك المنسيين في الصحاري وأعالي الجبال وسفوح الوديان والأنهار، من صنفوا بالهامشيين المهمشين بوسمهم بالمداد الأحمر بـأنهم ” غير نافع بالنسل والبر “، واستغلتهم السياسة كعادتها أرقاما في صناديق الانتخاب في رفع مقامات ثعالب الإنس وبيادق الصناديق والارتزاق واهتبال الفرص مع بقاء الحال على الحال؛ من وجوديتهم تبعث على الغثيان في كل الأزمان، ومن هم مبتوري الأصل، وفاقدي الحرية والاستقلال، ومتأصلي التلبية والطاعة لمولى العبادة. وجوديتهم ردة فعل النداء لا امتلاء القيادة والسيادة … من دسوا ” غير النافع ” من بلادي حجرا وبشرا في التراب خرائط بلا عنوان ولا طرقات ولا مؤسسات، ودون صلاة ولا أسماء ولا عناوين ولا شهادات وفاة، من سماهم بعضهم ” بدون “، وسماهم آخرون ” رحال ” … من شهدت لهم بنون التوكيد والشدة وتكرار الحرف بالذكاء والاجتهاد وأنا أدرسهم مقام الاعتقاد والارتقاء لعلهم تطفو سفنهم وأشرعتهم فوق الماء … أولئك من احتضنونا بالزغاريد والترحاب.

هكذا خطفني العشق والحب من تطلعات بنيتها عندما كنت وحيدا، وكفاني عشقها وحبها من أن أتطلع لحب غيرها، لأني كنت أعشقها حد الجنون وهي كذلك، فغضضت النظر عن السفر إلى بلاد الغجر، إلى من ظننت أن لقياها ربما يفيد. لكن … في بلاد العُرْب سرعان ما يموت قيس وليلى، ويبقى القبر شاهدا على رفات العشق والحب، وعظامه النخرة، ويظل غزل أغنيات الحب والعشق الجميلة أصداء بلا معنى، تلوكها الأشرطة المسجلة والأسطوانات لتأثيث التاريخ والذكرى، هكذا معلقة في السماء، رنينها يتردد في سمع العشاق والمحبين، ويبقى شعر الحب ساكنا فقط حبر الدواوين، وأبيات الناظمين، يبكيه العاشقين. أما فروح الحب الحقيقي في عالم العرب رفات ورميم، لا يخرجون تابوتها للنعي، في جنائزية الكنائس وقباب المساجد، والصلاة عليها صلاة الغائب، وقراءة آي الذكر الحكيم على روحها أو الصلاة عليها صلاة الراحة الأبدية. فربما شعر الحب والعشق والهيام يطرب العشاق والمحبين الجدد، الفتية الذين مازالوا في ريعان شبابهم وبداية مشوار حياتهم البهية الزهية، الغضة الطرية، التي مازالت لم ترزح بعد تحت الضربات والنكبات ومصائب العرب التي لا تنقضي، والتي قد تميت الحب والعشق قبل أن يولد في رحم الشباب والإنسانية. فالحب في بلاد العرب خطيئة، واستغلال ومصيدة أحزان وآلام، وإشباع شبقية إنسان! هم العرب عالم غامض موحش مكفهر يقتل كل شيء جميل في هذه الحياة مجانا وبحجج واهية، متلونة بألوان مسميات قيل عنها تارة التقاليد، ومرة الدين، ومرة أخرى اقتصادية، ورابعة اجتماعية، وخامسة ثقافية، وسادسة إثنية، وسابعة بالمقدس المحرم لكل تفاصيل القول في العشق والحب بعد الأربعين، المعطل للعقل والفكر الإنساني فينا؛ وهلم جرا … بل؛ عالم يقتل الحياة نفسها بسكين الأنانية وحب الذات، وبالإحساس المفرط بتضخمها، والغواية والزيف والكذب والخداع، والنفاق بكل أشكاله وألوانه ووجوهه! عجبا لحب وعشق يموت ويذبل تحت وطأة الحياة الصعبة ولا يستمر تدفقه في القلب بكلماته وعباراته الشاعرية الرقيقة، وتصويره المبدع المبتكر. حب وعشق يبقى محجوزا في شرنقة الألفة والاعتياد، والعادة والأنس والتعود على الآخر والعشرة، دون أن يدري أن ذاك هو حب وعشق في ذاته يغتمر مشاعر وأحاسيس إنسانية متدفقة اندفاق الماء في الأنهر والشلالات والعيون، قد يفنى العالم لكن هو لا يفنى، تموت الأشياء والأجساد والموجودات دون أن يموت؛ فالحب والعشق أرواح لا تموت بل تنتقل إلى عالم السماء في صمت دونما ضجيج ولا حرب، سابحة في جنات الخلد على أجنحة ملائكة رائعة تترنم بأغنيات مرهفة العبارات على أوتار قيثارة الحنان والوجد. نحن العرب نقتل فينا الحب والعشق لنبقي أجسادنا وذواتنا الترابية حية، فنكرس البيولوجي فينا على حساب الروحي والوجداني. لا نعرف كيف نعيش الحب والعشق وممارسة طقوسهما. من البداية ندخل الصراع ” ليموت القط/المش من اليوم/النهار الأول ” تطبيقا للمثل الدارج بيننا! بعد شهر العسل بل الكسل، نخطط كيف تكون حرب الاستيلاء على الآخر والسيطرة عليه، والعمل على إخراجه من محيطه العائلي ووسطه الاجتماعي بأي ثمن، نصطاده سحبا كسمكة من الماء، ولا نقدر أنه سيموت حتما في القلوب موت الأسماك في الهواء. نقوم بذلك عن سبق إصرار وترصد، ولو امتد تخطيطنا إلى الحرب على الوالدين، فهما غرباء بالنسبة لي، لا قيمة لهما في وجود حبي وعشقي. فلا أومن بأنهما سر وجود حبي وعشقي، بل هما أجنبيان غريبان عني، يظلان في قناعاتي وقراراتي كذلك، يجب أن يبقيا بعيدين، اعتقادا مني أنهما يكرهاني وقد يبعداني عمن عشقت وأحببت. لا يعرف العرب التمييز بين المواقع والأقارب والأمكنة والصلات العائلية والأنساب الدموية، ولا الصداقة والزمالة والقربى. فعجبا لعقلية تخير حبها وعشقها بينها وبين أمه أو أمها؟!! فهل موقع الأم هو موقع الزوجة والحبيبة أو الزوج والحبيب؟ وعجبا لعقليات تقبل هذا الاختيار وتعمل على انتشاره وإشاعته في شعبوية قاتلة؟ … العجب الكثير والكبير والمستغرب، حينما تكتشف أن نسب الطلاق مرتفعة في عالم العرب رغم زعمهم قيما وأخلاقا غير قيمهم وأخلاقهم المسلوكة، هي مسطورة في الدفاتر والرفوف لا في المعاملات والسلوك والصلات؟! … العرب، خرب أغلبهم كل شيء بسوء التصرف وتغييب الحكمة والعقل، والغباء. أطفالنا في الشوارع مشردون، وفي المدارس تائهون، وعن مستقبلهم غافلون، وبالعقد النفسية والاجتماعية ممتلئون. يشكوننا لرب العالمين ونحن من حولهم لا عشاق ولا محبون، نعيش عيش الدواب، من باب، الدابة كل من يدب على وجه البسيطة في مختلف الاتجاهات مشيا على أربع أو اثنتين أو زحفا أو تحليقا. أعرف مسبقا أني مفرط في الانتقاد من شداد الألسن، أفجر المشاعر وأستثير الغيرة، وقد أكون منبوذا؛ لأني قد وضعت وجهي أمام المرآة، عربيا؟ قتل الحياة ومازال يقتلها في اليوم مرات ومرات، ولا يدري ما يفعل، وإن درى يتلذذ بذلك، سادي العقلية والتصرفات والسلوك، أعوج الخطى والدروب. فالحب والعشق في عالم العرب عذاب وآلام وهجر وحقد وغضب لأنه إعجاب بالآخر وليس حبا، فالإعجاب ينطفئ وينتهي ويموت خلاف الحب والعشق، إذ كلما خفت شدته كلما زادت لوعته ودرجته وحرقته، وزاد اشتياقه لنصفه المفارق له. فهو لا يموت أبدا لأنه ذوبان في المحبوب اتحادا وانصهارا وحلولا سريانيا. فكم من حب دام، وكم من إعجاب انقطع وانتهى؛ فالعرب لا يعرفون كيف يحبون ولا كيف يعشقون؟ لأن مفهوم الحب والعشق غامض وملتبس بمفاهيم إنسانية أخرى عندهم، مشاعرهم مختلطة ومضطربة في نفس الوقت، وعمية الدلالة عليهم، فهم قد يخلطون في علاقاتهم الاجتماعية بين الكثير من الدروب والأزقة والشوارع، ولا يفكرون بقلوبهم وعقولهم في ذات الوقت وإنما يسيطر عليهم التفكير العاطفي السلبي، فيرتكبون الأخطاء، ويركبون الأوهام باسم الأقدار، وما هي إلا أحداث من صنيع أفعالهم وأعمالهم وتفكيرهم، وعمى قلوبهم …

هي حكاية نفسي لنفسي ما حكيتها لنفسي، لأن صديقي الحكواتي حكاها لي، ولم يأذن لي بحكيها إلا لذاتي، فلا تلمني إن كانت تشبه حكاية من يشبه صديقي أو يشبهني، فلا انتقاد لي إلا باللطف إن كنت غير عرب، تكتب للعربي. أما إن كنت عربا فأقول لك لطفا بي، ومهلا، وتريث حتى تستجمع قواك لكيلا تقتلني، فأنا وأنت في كفة ميزان القتل والانتحار والانحدار سيان. فلطفا هذه المرة، أحييني ولا تقتلني، فتلك رحمة منك إن قتلتني وحبي وعشقي، فذاتي تناديني أنا العربي وحيد ميت منذ حكيت عني. سلمت لنفسك ولأهلك وذويك ولحبك وعشقك؛ ما أذيتك. فأحييهم بإحيائي، ثم، استقم، ونم على راحة الحب والعشق، تدم حيا مثلي. فلا العشق يهواني، ولا الحب يغمرني ويضمني بين أضلعي، وإنما يهجرني ويجافيني لأنه لا يعرفني، فأنا صورة بلا معالم ولا ملامح ولا ألوان، وقصيدة بلا عنوان ولا أبيات …

رويت لي في سياق حديثي مع الراوي عن الحب والعشق عند العرب الغرب، في مقهى من مقاهي مدينتي العتيقة الهائمة في البحث عن ذاتها بين دروب التاريخ؛ ماضيه وحاضره ومستقبله، يوم السبت 29/04/2023 مساء، من دفتر كُتب على غلافه أحمر اللون بخط اليد الغليظ “أسرار من أعماق القلب” وبين قوسين (ليست للراوي وإنما للرواية). وأنا أحتسي بمعيته البهية فنجان شاي أخضر بنعناع وزعتر، مشددا علي بأنها للحكي فقط دون تشهير ولا عتاب ولا عقاب … فالكل سواء! جازما أن بها شيئا من الحقيقة، وباقيها إنشاء سوسيولوجي في طريق التفسير لما استعصى عن الفهم والاستيعاب، من حدثية الزمان والمكان والإنسان في زمن العرب الغرب … فإن راقتك فانتقد حبي وعشقي في زمن القهر. قالها لي وتأبط دفتره مغادرا طاولة المقهى إلى الأبد … بالسلامة، أردفت قولي إلى قوله. ونظرت إليه متفحصا؛ فإذا به أنا. لكن؛ لست أنا، فمن أنا؟ عربي أم قاتل سفاح …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.