منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الحريات الفردية في السياق المغربي مفهوما وحكما

0

بسم الله الرحمن الرحيم

            مشاركة بالقول فيما يجري من نقاش عمومي في القنوات الرسمية ومواقع التواصل الاجتماعي في موضوع “الحريات الفردية” أتناول الموضوع من وجهة نظر شرعية، مستهلا حديثي برصد المفهوم التداولي للقضية في السياق المغربي ثم أتبعه بالحكم، فأقول وبالله التوفيق.

أولا: مفهوم الحريات الفردية في السياق المغربي

يقصد “التيار الحداثي بالمغرب” بالحريات الفردية حرية كل شخص في اختياراته وجسده وسلوكه وعلاقاته الجنسية…، دون أي وصاية دينية أو قانونية أو تقاليد مجتمعية، وذلك استنادا لمفهوم توماس هوبز البريطاني للحرية الذي هيمن على أدبيات الحداثة الغربية.

فإذا كان هيكل يربط مفهوم الحرية بالالتزام بالواجب والقيم، فيقول: ” فالواجب يحرر الإنسان أولاً من التبعية للنزوات الطبيعية ومن الاكتئاب الناجم عن عجز الإنسان عن تحقيق الأمثل؛ وثانياً يحرره من البقاء في حالة عدم تعين نتيجة استغراقه في معاني بعيدة كل البعد عن الحياة العملية”[1]، فإن توماس هوبز يذهب إلى تأسيس مفهوم الحرية على إطلاق إرادة الفرد حيث يقول: “الحرية بمفهومها الصحيح هي غياب القيود الخارجية التي تحول بين الإنسان وفعل ما يمليه عليه عقله وحكمته”[2]، وهو التعريف الذي يتناقض مع ما ذهب إليه هو نفسه من مفهومي العقد الاجتماعي والقانون الطبيعي.

غير أن الغلبة والتمكين كان لمفهوم هوبز لما تبنته السياسية البريطانية الأمريكية وسوقته في العالم كقيمة إنسانية، وتولى معها إلى الظل المفهوم الهيكلي الألماني، وكانت النتيجة الميدانية لتبني السياسات الغربية لمفهوم الهوبزي للحرية، الحركة الاستعمارية للشعوب غير الغربية، والحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة، والعولمة المتوحشة واللائحة مفتوحة.

أما في السياق المغربي فقد نشأ القول عمليا بالحريات الفردية منذ ظهور الحديث عن المطالبة بإلغاء الفصول 489 و490 و491 و492 من القانون الجنائي التي تتعلق بتجريم المثلية الجنسية والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج والخيانة الزوجية، وكذا تجريم الإجهاض وهو ما تمخض عنه مشروع تعديل القانون الجنائي في شأن تلك الموضوعات، مع المطالبة بمراجعة مفهوم الإخلال بالحياء العام.

ثانيا:  حكم نازلة الحريات الفردية في السياق المغربي

فهذه المضامين المطلوب رفع الحظر القانوني عنها منافية لمفهوم الحرية، سواء في سياقها الغربي أو في سياقها الشرعي، ففي سياق الحداثة الغربية وما عرفته من تحولات حضارية ضمن خصوصياتها الثقافية والتاريخية، نشأت مفاهيم الديمقراطية، والدولة، وحقوق الإنسان، والمساواة، واحترام القانون، والحرية بجميع فروعها: الفردية والجماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، فاجتزاء مفهوم الحريات الفردية من سياقه الغربي، وتجاهل باقي مكونات النسق الثقافي لمفهوم الحريات الفردية، ومنها ثقافة الالتزام بالقانون المؤطرة لمفهوم الحريات الفردية، وتجاهل التعددية المذهبية لمفهوم الحرية في السياق الغربي نفسه، وتجاوز لخصوصيات المفهوم في منشئه ونسقه الحضاري، بداعي كونية المفهوم تعسف بلا موجب وتحريف للكلم عن موضعه ولحن في القول.

كما أن هذا الاستيراد الحرفي الميكانيكي لمفهوم الحريات الفردية دون النظر إلى مآلات تطبيقاته الغربية المعاصرة الكارثية على الإنسانية من إثارة الحروب العسكرية والاقتصادية والالكترونية وصناعة بؤر التوتر في العالم بمنطق القوة ومصلحة الأمن القومي اللذين أصبحا مرتبطين بمفهوم الحرية الفردية على مذهب هوبز، مقامرة ساذجة غير محسوبة العواقب.

أما علاقة المفهوم المجتزأ بالهوية الثقافية الجامعة للمجتمع المغربي التي تنتظم في سلك الدين الإسلامي،  فهي علاقة تناف وتضاد على نحو واضح وصريح، ذلك أن المضامين التي حشي بها مصطلح الحريات الفردية، (من قبيل إباحة العلاقة الجنسية خارج مؤسسة الزواج، والخيانة الزوجية، والشذوذ الجنسي، وإطلاق إباحة الإجهاض والإفطار العلني في رمضان)، هي فساد خلقي تجب مقاومته في سياق مقاومة الفساد وقرينه الاستبداد، وهي مفاسد مقطوع بها في قانون الشريعة بنصوص صريحة غير قابلة للتأويل، وبمعان شرعية مبثوثة في مختلف أبواب الشريعة أفادت بمجموعها القطع استقراء، كما أنها مضامين مصادمة لهوية الشعب المغربي الثقافية ولنظامه العام.

فلا غرو أن نجد المنادين بالحريات الفردية يصنفون الدين والأخلاق قيودا للحريات الفردية يجب أن تزال، ورحم الله الإمام ياسين الذي قال: ” هم يقولون عكس ما نقول: فتحرير الإنسان عندهم لا يصح إلا عبر تحريره من الدين، والثقل الذي يعوق عن التفكير هو الدين، والقيد الذي يمسك طاقات المجتمع ويمنعها من الانطلاق والإنتاج هو الدين، فإزالة الدين من طريق الإنسانية وتنحيته والقضاء عليه ضرورة سياسية علمية”[3].

          خلاصة الموضوع:

بعد هذا العرض الموجز في مفهوم الحريات الفردية وحكمها الشرعي، نخلص إلى تقرير الآتي:

  • الحرية المأصولة بتعبير طه عبد الرحمن اختيار مسؤول، ونفي الإجبار والإضرار، والتزام بالقانون، وتحرير الإنسان من قيود الفتنة المثلثة: فتنة الإنسان وفتنة الشيطان وفتنة السلطان.
  • أما الحرية المنقولة غير المأمونة ففتنة في الأرض وفساد عريض.
  • أما من حيث الإطلاق والتقييد فالحرية أصل وتقييدها استثناء، والتقييد لا يكون إلا بالنصوص التشريعية المنظمة لممارسة حق الحرية.
  • ونستطيع أن نميز وظيفيا بين الحرية المأصولة والحرية المنقولة من خلال الآتي:
  • الحرية المأصولة تبني والحرية المنقولة تهدم،
  • الحرية المأصولة تجمع والحرية المنقولة تفرق
  • الحرية المأصولة تصلح والحرية المنقولة تفسد
  • الحرية المأصولة تنشئ تنمية والحرية المنقولة تحدث تخلفا.
  • الحرية المأصولة سلوك إنساني حضاري والحرية المنقولة سلوك بهيمي متخلف.
  • من هنا ندرك أن الاستبداد حين يطول في الناس فإنه يفسد أخلاقهم وتصوراتهم للحياة، وذلك هو التضليل الذي هو من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون.

ولا ننسى في النهاية أن الاستبداد حين يمسك بتلابيب المجتمع، فإنه لا يفسد فقط تصرفات الناس في حياتهم وإنما يفسد كذلك تصوراتهم للحياة، فيعجزون عن معرفة أولويات حاجياتهم الزمنية، فتراهم يتخبطون في فكرهم وتصرفاتهم كأنهم سكارى وما هم بسكارى، ولكن آثار الاستبداد والإفساد شديد.

والحمد لله رب العالمين


[1]– p107 ، Hegel, Philosophy of Right, Franz. TM. Knox (Oxford University Press, 1967

[2] – 375 Thomas Hobbes, Leviathan, in William Bernstein (NY: Holt, 1969).p

[3] – ياسين، عبد السلام، الإسلام والقومية العلمانية ص 105

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.